Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة دينية
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الاستدلال علی استثناء القراءة من الغناء

الاستدلال علی استثناء القراءة من الغناء

واستدلّ عليه في الكفاية بوجوهٍ:

أحدها: تخصيص الأخبار الدالّة على حرمة الغناء بما عدا القرآن من أنّ الأخبار الدالّة على استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن أخصّ ممّا يدلّ على حرمة الغناء؛ حيث إنّـه لايوجد الصوت الحسن والترجيع والتحزين في القرآن بدون الغناء، فيكون الصوت الحسن والترجيع والتحزين به من مصاديق الغناء، فالأدلّة على استحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن وبالترجيع والتحزين أخصّ ممّا يدلّ على حرمة الغناء.

ثانيها: أنّ الأدلّة الدالّة على حرمة الغناء وإن كانت مطلقة، إلّا أنّ إطلاقها منصرف إلى الأغنية التي كان متعارفاً في مجالس بني الاُميّـة وبني العبّاس.

ثالثها: إشعار عدّه من الأخبار على كون الغناء لهواً باطلاً، فصدقه في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطبيعة التي ليس فيها اللهو والبطلان والملاهي يكون ممنوعاً، كما هو الظاهر منها.

هذه كلّها خلاصة ما في الكفاية والجواب عن الأوّل والثاني منها قد ظهر ممّا سبق، لكنّـه لما كان في استدلاله نقل جلّ أخبار استحباب التحزين وحسن الصوت في القرآن، ينبغي نقل نصّ كلامه، ثمّ بيان ما فيه من الخدشة والمناقشة، زائداً على ما سبق، ودونك نصّ كلامه:

ولا خلاف عندنا في تحريم الغناء في الجملة، والأخبار الدالّة عليه متظافرة،([1085])وصرّح المحقّق([1086])وجماعة ممّن تأخّر عنه([1087])بتحريم الغناء ولو كان في القرآن، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه، بل استحبابه في القرآن؛ بناءً على دلالة الروايات على حسن الصوت والتحزين والترجيع في القرآن، بل استحبابه. والظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة وغيرهم، وفصّلناه في بعض رسائلنا.

ففي مرسلة ابن أبي ‌عمير، عن الصادق‌(علیه السلام): «إنّ القرآن نزل بالحزن، فاقرأوه بالحزن».([1088])وعن عبد‌الله بن سنان، عن أبي ‌عبد‌الله‌(علیه السلام)، قال: «إنّ الله أوحى إلى موسى بن عمران: إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الذليل الفقير، وإذا قرأت التوراة فاسمعنيها بصوت حزين».([1089]) وعن حفص، قال: «ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر، ولا أرجى للناس منه، وكانت قرائته حزناً، فإذا قرأ فكأنّـه يخاطب إنساناً».([1090]) وفي رواية عبـد‌الله بن سنان: «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها».([1091]) وفي رواية النوفلي، عن أبي ‌الحسن(علیه السلام)، قال: ذكرت الصوت عنده، فقال: «إنّ عليّ بن الحسين(علیه السلام) كان يقرأ القرآن فربما يمرّ به المارّ، فصعق من حسن صوته، وإنّ الإمام لو أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه...».([1092]) وفي رواية عبدالله بن سنان، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لم يعط أمّتي أقلّ من ثلاث: الجمال، والصوت الحسن، والحفظ».([1093]) وفي رواية أبي ‌بصير، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن ونغمة الصوت الحسن».([1094]) وفي رواية عبد‌الله بن سنان، عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم): «لكلّ شيء حلية، وحلية القرآن الصوت الحسن».([1095]) وفي رواية أخرى عن أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام): «ما بعث الله نبيّاً إلّا حسن الصوت».([1096]) وفي رواية أخرى عن أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام)، قال: «كان عليّ بن الحسين (صلوات الله عليه) أحسن الناس صوتاً بالقرآن، وكان السقّاؤون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قرائته».([1097])

... وفي رواية أخرى، عن أبي ‌جعفر(علیه السلام): «ترجّع بالقرآن صوتك، فإنّ الله عزّوجلّ يحبّ الصوت الحسن يرجّع فيه ترجيعاً».([1098])

وروى معاوية بن عمّار في الصحيح، قال: قلت لأبي ‌عبد‌الله(علیه السلام): الرجل لا يرى أنّـه صنع شيئاً في الدعاء وفي القرآن حتّى يرفع صوته، فقال: «لا بأس، إنّ عليّ بن الحسين(علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار، وإنّ أبا ‌جعفر(علیه السلام) كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن» فقال: «وكان إذا قام من الليل وقرأ رفع صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين وغيرهم فيقومون فيستمعون إلى قرائته».([1099])

... وفي الفقيه: سأل رجل عليّ بن الحسين(علیه السلام) عن شراء جارية لها صوت؟ فقال(علیه السلام): «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّـة؛ يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء، فمحظور».([1100])

وفي رواية عبد‌الله بن سنان: «إقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، وسيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والرهبانيّـة والنوح، ولا يجاوز حناجرهم، مقلوبة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم».([1101])

وفي بعض الروايات في ذكر أشراط الساعة: «ويتغنّون بالقرآن».([1102])

وارتكاب التأويل في هذه الأخبار، ما عدا الأخيرين بحيث يجتمع مع القول بتحريم الغناء في القرآن يحتاج إلى تكلّف بيّن.

والشيخ أبوعليّ الطبرسي(قدس سره) قال في كتاب مجمع البيان، الفنّ السابع في ذكر ما يستحبّ للقاري من تحسين اللفظ وتزيين الصوت بقراءة القرآن، ونَقَل روايات من طريق العامّة حتّى نَقَل رواية عبدالرحمن السائب، قال:

«قدم علينا سعد بن أبي وقّاص فأتيته مسلماً عليه، فقال: مرحباً يابن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن، قلت: نعم، والحمد لله، قال: فإنّي سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول: «إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا وتغنّوا به، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا». قال: وتأوّل بعضهم «تغنّوا به» بمعنى استغنوا به، وأكثر العلماء على أنّـه تزيين الصوت وتحزينه».([1103]) انتهى.

وهذا يدلّ على أنّ تحسين الصوت بالقرآن والتغنّي به مستحبّ عنده، وأنّ خلاف ذلك لم يكن معروفاً بين القدماء.

... وحينئذٍ نقول: يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين: أحدهما: تخصيص تلك الأخبار بما عدا القرآن، وحمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو، كما يصنعه الفسّاق في غنائهم... .

وثانيهما: أن يقال: المذكور في تلك الأخبار الغناء، والمفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم لغةً، وعمومه إنّما يستنبط من حيث إنّـه لا قرينة على إرادة الخاصّ وإرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة وسياق البيان والحكمة، فلا بدّ من حمله على الاستغراق والعموم، وهاهنا ليس كذلك‌؛ لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغنا على سبيل اللهو من الجواري المغنّيات وغيرهنّ في مجالس الفجور والخمور والعمل بالملاهي والتكلّم بالباطل وإسماعهنّ الرجال وغيرها، فحمل المفرد على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيدٍ... .

وفي عدّة من تلك الأخبار إشعار بكونه لهواّ باطلاً، وصدق ذلك في القرآن والدعوات والأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة، المهيّجة للأشواق إلى العالم الأعلى محلّ تأمّل...، فإذن لاريب في تحريم الغناء على سبيل اللهو والاقتران بالملاهي ونحوهما. ثمّ إن ثبت إجماع في غيره كان متّبعاً، وإلّا بقي حكمه على أصل الإباحة، وطريق الاحتياط واضح.([1104])

ويرد عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ الصوت الحسن والترجيع والتحزين في الصوت لا يوجد شيئاً منها بدون الغناء، فتكون قسماً من الغناء، غير ثابت، بل الظاهر عدمه ومباينته مع الغناء مفهوماً، فإنّ الغناء غير الصوت الحسن والترجيع والتحزين في الصوت مفهوماً. نعم، قد يتصادقان مصداقاً، فلا تكون هذه العناوين أخصّاً مطلقاً من الغناء، بل النسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، من حيث المصداق والتحقّق في الخارج، فالجمع بين الأدلّة الدالّة على حرمة الغناء والأدلّة الدالّة على استحباب الصوت الحسن والترجيع والتحزين في القرآن بحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد، في غير محلّه، ويكون الجمع كذلك جمعاً في غير مورده، كما هو الواضح المعلوم.

وثانياً، على تسليم الأخصّيّـة والدالّة، أنّ لسان أخبار حرمة الغناء آبيةٌ عن التخصيص؛ لما فيها من أنّـه قول زور، كما في أخبار المفسّرة لآية: «عن الرجس من الأوثان»، وحديث لهو للإضلال عن السبيل على ما في بعض الأخبار من تفسير لهو الحديث في آية‌: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ...﴾.

وثالثاً، وجود الروايات الواردة في قراءة القرآن والزهد والفضائل بالصوت الحسن، الدالّة على حرمة الغناء في قراءة القرآن مانع عن التخصيص، كمرسلة الفقيه: وسأل رجل عليّ بن الحسين(علیه السلام) عن شراء جارية لها صوت؟ فقال: «ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنّـة؛ يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظورٌ»،([1105]) حيث إنّها تدلّ علی عدم جواز قراءة القرآن والزهد والفضائل بما يكون غناء، فيعارض المطلقات. فتأمّل، فإنّ هذه الجملة الأخيرة من الرواية كما يمكن أن يكون من الراوي عن الإمام(علیه السلام)، فتكون حينئذٍ حجّة لنا؛ لحجّيّـة فهم الراوي عن الإمام، كما أنّ نقله الرواية بالمعنی حجّة، يمكن أن يكون من كلام الصدوق(رحمه الله) تفسيراً لكلام الإمام(علیه السلام)، وتفسير الصدوق للرواية غير حجّة لنا. فافهم.

وكرواية عبد‌الله بن سنان، عن أبي ‌عبد‌الله‌(علیه السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنّـه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّـة، لايجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة، وقلوب من يعجبه شأنهم».([1106])

ثمّ إنّـه قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ أدلّة المستحبّات لا تعارض ولا تقاوم الأدلّة الدالّة على المحرّمات، فإنّ أدلّة المستحبّات لا تشمل الموارد المحرّمة، وإلّا لزم توسعة الجواز بكلّ مورد ينطبق عليه عنوان مستحبّ أو يلازمه، كإكرام الضيف وإدخال السرور في قلبه بالغناء، بل لزم توسعة نطاقه إلى سائر أبواب الفقه، كإكرام الضيف بشرب الخمر، وإدخال السرور في قلب المؤمن بالزنا، وقضاء حاجته بالمحرّمات، والقول بمعارضة جميع أدلّة المستحبّات مع أدلّة المحرّمات إذا كان بينهما عموم من وجه، والأصل فيه التساقط والرجوع إلى البراءة.

ففيه: أنّـه مستلزم لتأسيس فقه جديد واختلال فيه، ولم يختلج ذلك التعارض والعلاج في ذهن أهل العرف والفقهاء، وهذا لا إشكال ولا كلام فيه. إنّما الكلام في وجه عدم وقوع التعارض بين أدلّة المستحبّات والمحرّمات وما ذكر أن يكون وجهاً له خمسة:

أحدها: انصراف أدلّة المستحبّات عن إيجادها بالطرق المحرّمة، بل الظاهر انصرافها إلى إيجادها بالأسباب المباحة والكيفيّـة المباحة.

والمنشأ للانصراف أنّ العقلاء قد استقـرّ دأبهم وديدنهم على عدم فعل المستحبّات بالأسباب المحرّمة، ولذا لايسبق إلى أذهان أهل العرف والعقلاء فعلها بالأعمال المحرّمة، ولعلّ السرّ في هذه الطريقة من العقلاء أنّ إتيان المستحبّات بالمصاديق المحرّمة مستلزم للهرج والمرج في مقام العمل بالقوانين وإجرائها واستلزامه للغويّـة المحرّمات.

وثانيها: أنّ أدلّة المحرّمات متضمّنة للأحكام الفعليّـة بخلاف المستحبّات، فإنّها لا تتضمّن إلّا للأحكام التعليقيّـة؛ بمعنى أنّ استحباب الأعمال المستحبّة معلّق على عدم مصادفتها للحرام، وأهل العرف والعقلاء لا يرون التعارض بين الأحكام الفعليّـة والأحكام التعليقيّـة.

وثالثها: إهمال أدلّة المستحبّات بالنسبة إلى مصادفتها للحرام، فلا إطلاق لها بالنسبة إلى الموارد المحرّمة، بخلاف أدلّة المحرّمات، فإنّها مطلقة تشمل جميع مصاديقه حتّى المصاديق المصادفة مع المستحبّات، فأدلّة المحرّمات مقدّمة على أدلّة المستحبّات.

ورابعها: تزاحم أدلّة المحرّمات مع أدلّة المستحبّات فيما يجتمع فيه مناط الحرمة والاستحباب، والترجيح لأدلّة المحرّمات، فإنّ المفسدة الموجودة فيها أقوی من المصلحة الموجودة في المستحبّات.

وخامسها: تقديم أدلّة حرمة الغناء إمّا لكونها أكثر من أدلّة المحرّمات، وإمّا لكونها موافقة لكتاب الله تعالى، فإنّ كثرة الأدلّة وموافقتها للكتاب موجب لترجيحها، فأدلّة حرمة الغناء وإن كان معارضاً مع أدلّة المتسحبّات بالعموم من وجه، إلّا أنّ الترجيح لما دلّ على الحرمة؛ لما ذكر.

هذه هي الوجوه التي ذكر في وجه تقديم أدلّة المحرّمات على أدلّة المستحبّات؛ وغالبها، بل غير الأوّل منها غير خالٍ من المناقشة والإشكال.

أمّا الثاني منها؛ أي كون أدلّة المستحبّات متضمّنة للأحكام التعليقيّـة وأدلّة المحرّمات للأحكام الفعليّـة فهو ادّعاء بلا دليل؛ فإنّ لسان أدلّة المستحبّات وأدلّة المحرّمات واحد لا تفاوت بينهما من هذه الجهة ولا تعليق في لسان أدلّة المستحبّات، كما لا تعليق في أدلّة المحرّمات، فحمل أدلّة المستحبّات على التعليقيّ لا يكون إلّا رجماً بالغيب.

وأمّا الثالث؛ أي إهمال أدلّة المستحبّات، وعدم إطلاق فيها بالنسبة إلى مصادفتها للحرام وإطلاق دون أدلّة المحرّمات، فيرد عليه ما أوردناه على الوجه السابق، فإنّ لسان أدلّة المستحبّات والمحرّمات واحد لايمكن القول بإطلاق أحدهما وإهمال الآخر؛ سواء كان الإطلاق هو الحكم على الطبيعة من دون ملاحظة الطواري والمعارضات أو هو الحكم على الطبيعة مع ملاحظة الطواري والمعارضات.

وأمّا الرابع؛ أي تزاحم أدلّة المستحبّات مع أدلّة المحرّمات وتقدّم الثاني منهما لأقوائيّـة ملاكه، ففيه: أنّ التزاحم ربما يوجب أن يصير المحرّم بلا ملاك ملزم، فإنّ ملاكه الإلزاميّ ينكسر بمقدار تزاحم ملاك المستحبّ معه، فإن كان ملاك المحرّم مائة وملاك المستحبّ سبعون مثلاً ينكسر من ملاك المحرّم سبعون ويبقى منه ثلاثون والثلاثون لايكون ملاكاً ملزماً يوجب تحريم متعلّقه.

وأمّا الخامس؛ أي ترجيح أدلّة المحرّمات؛ لكثرتها أو لموافقتها مع الكتاب، ففيه أوّلاً: أنّ روايات العلاجيّـة مختصّ بالتعارض بالتباين، ولا تشمل التعارض بالعموم من وجه؛ لانصرافها عنه. وعدم عقلائيّـة التبعيض في حجّيّـة الدلالة، وإن كان لامانع منه عقلاً‌؛ حيث إنّ باب حجّيّـة الظواهر باب الاعتبار والتشريع لا باب الواقع والتكوين.

وثانياً: أنّ أدلّة بعض المستحبّات، مثل ما ورد في البكاء والإبكاء على سيّد الشهداء الحسين بن عليّ(علیه السلام)‌ ([1107]) أكثر عمّا ورد في حرمة الغناء بمراتب، ولا أقلّ من التساوي كثرة.

وثالثاً: أنّ الآيات الدالّة على حرمة الغناء بضميمة الروايات، غير دالّة إلّا على حرمة ما يشتمل على المضمون الباطل، فالروايات الدالّة على حرمة مطلق الغناء لم تكن موافقة للكتاب.

ورابعاً: أنّ الترجيح بموافقة الكتاب مختصٌّ بما إذا كان الكتاب دالاً على الحكم بنفسه، لا بضميمة الروايات، وإلّا يرجع إلى الترجيح بالروايات وجه أخر للترجيح. ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ (سلام لله علیه) بعد قوله بعدم تعارض أدلّة المستحبّات مع أدلّة المحرّمات، قال:

ثمّ لو قلنا بتعارض الأدلّة فالترجيح لأدلّة حرمة الغناء بوجوهٍ تأتي الإشارة إليه قريباً إن شاء الله، بناء على دخول العامّين من وجه، على فرض تعارضهما في أدلّة العلاج ولو مناطاً، أو بإلغاء الخصوصيّـة، أو باستفادته من روايات العلاج.([1108])

ثمّ إنّـه (سلام لله علیه) بعد نقله بعض الأخبار التي تمسّك بها لاستثناء التغنّي بالنوح، قال: ولو فرضت معارضتهما فلا ريب في ترجيح روايات حرمة الغناء عليها؛ لموافقتها للمشهور، فإنّ مقتضی إطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم غير الأعراس والحداء قصّره عليهما أو علی أوّلهما کما يأتي الکلام فيه، وإنّما حكی المحقّق الثاني في جامع المقاصد([1109]) عن بعضهم استثناء مراثي أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام)، فأخذه عنه بعض من تأخّرعنه.([1110]) فالشهرة مع عدم الاستثناء وهي إمّا مرجّحة أو موهنة للأخبار المخالفة لها.([1111])

ومن الممکن المناقشه فيه بأنّ الشهرة من المرجّحات التي يرجع إلی تمييز الحجّة عن اللاحجّة؛ للتعليل الوارد في المقبولة: «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه»،([1112]) فالموافق للمشهور إنّما يؤخذ به؛ لأنّـه لا ريب في صحّته، والمخالف لها لايؤخذ به؛ لعدم الريب في بطلانه، وهذا لايتمّ فيما نحن فيه؛ لأنّ عدم تعرّض الأصحاب لاستثناء المراثي لايدلّ على حكمهم بحرمة الغناء في المراثي، فإنّ فتوى الأصحاب منطبقٌ ومستندٌ إلى الأدلّة الواردة في ذلك الباب، والروايات الواردة في حرمة الغناء على طوائف، فبعضها تدلّ على حرمة الغناء من باب كونه من الباطل، وبعضها من جهة كونها من مصاديق اللهو، وبعضها تدلّ على الحرمة من باب اختلاط النساء بالرجال، وهكذا.

ومع وجود هذه الروايات المختلفة في الدلالة كيف يمكن الحكم بأنّ الأصحاب جعلوا الغناء في المراثي من مصاديق المطلقات الدالّة على حرمة الغناء مطلقاً، حتّى تكون المطلقات ممّا لا ريب في صحّته؛ لموافقتها للشهرة؟

فتحصّل ممّا ذكرناه، أنّ الوجه الوجيه لعدم التعارض بين أدلّة المحرّمات والمستحبّات، استلزامه لتأسيس فقه جديد، أو الانصراف المذكور، لا لغيرهما من الوجوه المذكورة سابقاً. والأمر فيه سهلٌ بعد حكم العرف بعدم التعارض بينهما وعدم مقاومة أدلّة المستحبّات مع أدلّة المحرّمات، بل تقديمها على أدلّة الواجبات أيضاً، فلا يجوز قتل المحارب باللواط مثلاً، ولا كشف أسرار المخالفين والمعاندين بالزنا أو التعذيب بما هو حرامٌ، مثل قرض لحمه وإحراقه بالنار وإهراق الماء الحارّ على رأسه ووجهه، أو التهذيب بالضقطة وبما يوجب إيذائه.

إن قلت: حرمة هذه الأمور يزول بتزاحمها بما هو أقوى ملاكاً، فمثلاً إذا دار الأمر بين قتل آلافٍ من الناس بانفجار قنبلة، وبين ارتكاب بعض هذه المحرّمات بمن كان عارفاً بالمحلّ الذي وضع فيه القنبلة للانفجار؛ قضاءً لوجوب حفظ أنفسهم ووجوب دفع المنكر وإيجاد الأمنيّـة للجامعة، كان الثاني أولى، بل متعيّناً؛ لأهميّـة حفظ نفوس المسلمين.

قلت: التزاحم فرع شمول أدلّة الواجبات للموارد المحرّمة وعدم انصرافه عنها، وقد مرّ الانصراف وعدم الشمول، ومع عدم الشمول لاوجه للحكم بالجواز؛ للتزاحم.

ومنها:([1113]) الحِداء، والحُداء (بضمّ الحاء) كدعاء: صوت يرجّع فيه للسير بالإبل، وقد صرّح بعدم حرمته المحقّق في شهادات الشرائع،([1114])والعلّامة في شهادات القواعد،([1115])والشهيد في الدروس،([1116])والخراساني في الكفاية، ([1117]) بل فيه دعوی الشهرة عليه، وفي شرح الفقيه([1118]) للمجلسي الأوّل أنّ ظاهر أکثر الأصحاب استثناء الحداء، وفي الرياض([1119]) والمستند([1120]) اشتهر استثنائه.

لکن في مفتاح الكرامة ([1121]) التأمّل في الشهرة، بل وفي الجواهر([1122]) الجزم بعدمها واحتمال تحقّق الشهرة على عدم جوازها، وهذا ليس ببعيدٍ؛ لإطلاق الأصحاب وعدم استثنائهم ذلك، ما عدا المحقّق في الشرائع ومن عرفت ممّن هو بعده، فالمناقشة في الشهرة، بل ادّعاء عدمها، ليس بجزافٍ.

-------------------
[1085]. راجع: وسائل الشيعة 17: 303، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99.
[1086]. شرائع الإسلام 4: 117.
[1087]. کالشهيد في مسالك الأفهام 14: 180؛ والنجفي في جواهر الکلام 41: 48.
[1088]. الكافي 2: 614، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 6: 208، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 22، الحديث 1.
[1089]. الكافي 2: 615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 6؛ وسائل الشيعة 6: 208، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 22، الحديث 2.
[1090]. الكافي 2: 606، باب فضل حامل القرآن، الحديث 10؛ وسائل الشيعة 6: 208، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 22، الحديث 3.
[1091]. الكافي 2: 614، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 1.
[1092]. الكافي 2: 615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 2.
[1093]. الكافي 2: 615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 7.
[1094]. الكافي 2: 615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 8.
[1095]. الكافي 2: 615، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 9؛ وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 3.
[1096]. الكافي 2: 616، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 10.
[1097]. الكافي 2: 616، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 11؛ وسائل الشيعة 6: 211، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 4.
[1098]. الكافي 2: 616، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 13؛ وسائل الشيعة 6: 212، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 5.
[1099]. السرائر 3: 604؛ وسائل الشيعة 6: 209، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 23، الحديث 2.
[1100]. من لا يحضره الفقيه 4: 60/139، باب شرب الخمر وما جاء في الغناء والملاهي، الحديث 11؛ وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث 2.
[1101]. الكافي 2: 614، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 1، مع تفاوتٍ يسير.
[1102]. تفسير القمّي 2: 304؛ وسائل الشيعة 15: 348، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 49، الحديث 22.
[1103]. مجمع البيان 1: 86.
[1104]. كفاية الأحكام 1: 428 ـ 434.
[1105]. من لا يحضره الفقيه 4: 42/139‌، باب حدّ شرب الخمر وما جاء في الغناء والملاهي، الحديث 11؛ وسائل الشيعة 17: 122، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 16، الحديث‌2.
[1106]. وسائل الشيعة 6: 210، كتاب الصلاة، أبواب قراءة القرآن، الباب 24، الحديث 1.
[1107]. تقدّم آنفاً.
[1108]. المكاسب المحرّمة 1: 339 ـ 340.
[1109]. جامع المقاصد 4: 23.
[1110]. كالمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام 1: 434؛ والنراقي في مستند الشيعة 14: 144.
[1111]. اُنظر: المكاسب المحرّمة 1: 339.
[1112]. الكافي 1: 54، باب اختلاف الحديث، الحديث 10؛ من لا يحضره الفقيه 3: 5/18، باب الاتّفاق على عدلين في الحكومة، الحديث 2؛ تهذيب الأحکام 6: 301/845، باب من الزيادات في القضايا والأحكام، الحديث 52؛ وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.
[1113]. الثالث من استثنائات الغناء، وقد مرّ الأوّل منها في الصفحة 373، وهو المراثي للحسين‌(عليه السلام)، والثاني منها في الصفحة 382، وهو القراءة.
[1114]. شرائع الإسلام 4: 117.
[1115]. قواعد الأحكام 3: 495.
[1116]. الدروس الشرعيّـة 2: 126، درس 145.
[1117]. كفاية الأحكام 1: 434.
[1118]. لوامع صاحبقراني 7: 345، کتاب الحجّ، باب الحداء والشعر في السفر.
[1119]. رياض المسائل 8: 157.
[1120]. مستند الشيعة 14: 144.
[1121]. مفتاح الكرامة 12: 176.
[1122]. جواهر الكلام 22: 50.

العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org