Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة دينية
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الاستدلال بالقرآن بوجوب دفع مادّة الفساد

الاستدلال بالقرآن بوجوب دفع مادّة الفساد

والاستدلال بالآية الشريفة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَـةً لَاتـُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ([301]) على وجوب قلع مادّة الفساد.

ففيه: أنّ الآية بظاهرها وبقرينة الآيات السابقة واللاحقة، مختصّة بالفتنة التي تصيب المجتمع بسبب غلبة القدرة وحاكميّـة الاستبداد والفرد الناشئة من اتّباع الهوى، من دون نظر إلى الشرع، بل النظر معطوفٌ في الاستبداد إلى الغلبة والسلطة على المجتمع بأيّ مبلغ كان، بحيث «الحقّ لمن غلب»، في مقابل قوانين الشرع الأقدس، فهذه هي الفتنة التي تعمّ بلواها، ولاتختصّ بالظالمين، بل تعمّ المظلومين أيضاً، کما دلّ علیه الآیة: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَـةً لَاتـُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾.([302]) ولتوضیح تلك الفتنة ینبغي نقل الآیات المناسبة لها:

قال الله تعالى في الآية السابقة عليها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾‌.([303])

والحياة في هذه الآية هي الحياة المعنويّـة التي تحصّل بالعلم والمعرفة، وبالحريّـة في الإرادة والاختيار، فإنّ هذين الجهتين هما اللذان يمتاز الإنسان بهما عن البهائم والحيوانات.

وقال الله تعالى في الآيات اللاحقة عليها: ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾‌.([304])

هذه الآيات الثلاث مرتبط باختلاف الأمّة الإسلاميّـة وترتبط بالآيتين السابقتين، فإنّ المجتمع إذا كان له العلم والعرفان بعاقبة الأمور، ومنها الاختلاف، وكان مختاراً وحرّاً في إرادته واختياره، لايختار إلّا ما هو موافقٌ للحقّ والشرع، لا ما هو موافقٌ لإرادة الاستبداد والأشخاص، فإنّ الحكومة الاستبداديّـة الناشئة عن إرادة فرد أو أفراد خاصّة، الموجبة لحاكميّـة «الحقّ لمن غلب»، ممّا يكون خارجاً عن المدنيّـة ويكون وحشيّاً ومخالفاً لمقتضـى طبع الإرادة الإنسانيّـة، ومثل هذه الفتنة هي الفتنة التي لا تختصّ بالبعض، بل تعمّ جميع شعب الأمّة الإسلاميّـة.

قال العـلّامة الطباطبائي:

فيؤوّل معنى الكلام إلى تحذير عامّة المسلمين عن المساهلة في أمر الاختلافات الداخليّـة التي تهدّد وحدتهم، وتوجب شقّ عصاهم واختلاف كلمتهم، ولا تلبث دون أن تحزّبهم أحزاباً وتبعّضهم أبعاضاً، ويكون المُلك لمن غلب منهم، والغلبة لكلمة الفساد، لا لكلمة الحقّ والدين الحنيف الذي يشترك فيه عامّة المسلمين.

فهذه فتنة تقوم بالبعض منهم خاصّة، وهم الظالمون، غير أنّ سيئ أثره يعمّ الكلّ ويشمل الجميع، فيستوعبهم الذلّة والمسكنة وكلّ ما يترقّب من مرّ البلاء بنشوء الاختلاف فيما بينهم، وهم جميعاً مسؤولون عند الله، والله شديد العقاب.

وقد أبهم الله تعالى أمر هذه الفتنة ولم يعرّفها بكمال اسمها ورسمها، غير أنّ قوله فيما بعد: ﴿‌لَاتـُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصّةً﴾، وقوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ ـ كما تقدّم ـ يوضحها بعض الإيضاح، وهو أنّها اختلاف البعض من الأمّة مع بعض منها في أمر يعلم جمیعهم وجه الحقّ فيه، فیجمح البعض عن قبول الحقّ، ويقدم إلى المنكر بظلمه، فلا يرد عونه عن ظلمه ولا ينهونه عن ما يأتيه من المنكر، وليس كلّ ظلم، بل الظلم الذي يسرى سوء أثره إلى كافّة المؤمنين وعامّة الأمّة؛ لمكان أمره سبحانه الجميع باتّقائه، فالظلم الذي هو لبعض الأمّة ويجب على الجميع أن يتّقوه، ليس إلّا ما هو من قبيل التغلّب على الحكومة الحقّة الإسلاميّـة، والتظاهر بهدم القطعيّات من الكتاب والسنّـة التي هي من حقوقها.([305])

هذا کلّه هو حقّ الجواب عن هذا الاستدلال.

وفي الوجه الثاني، وهو الاستدلال بالآية الشريفة: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾‌.([306]) بتقريب أنّ الموضوع في الآية وإن كان اشتراء لهو الحديث، إلّا أنّ المتفاهم العرفيّ منها بمناسبة الحكم والموضوع وتنقيح المناط، عدم اختصاصها بالاشتراء، بل تعمّ جميع ما يرتبط بحفظ كتب الضلال؛ من الكتابة والتعليم والتعلّم والمنع عن الإندراس ونحوها، فيحرم جميع ذلك.

يرد عليه: أنّ الحرمة المستفادة من العذاب في الآية الشريفة مقيّد بقيود:

منها: التقييد بكون الغرض من الاشتراء الإضلال عن سبيل الله: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.

ومنها: التقييد باتّخاذها هزواً: ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً﴾.

ومنها: التقييد بالعلم بلهويّـة الحديث؛ قضاءً لما فيه من العذاب المهين الذي لايكون إلّا مع العلم بالحرمة والبطلان؛ لقبح العذاب عقلاً من دون الحجّة أو العلم بالحكم والموضوع‌؛ فإنّـه عقاب بلا بيان، ونقلاً؛([307]) لحديث الرفع.([308])

ومعلوم أنّـه مع انتفاء القيود أو واحد منها ينتفي الحرمة أيضاً؛ لانتفاء المشروط بانتفاء شرطه.

إن قلت: إنّ الآية الشريفة تدلّ على عدم اعتبار العلم في تحريم لهو الحديث؛ لأنّ الإضلال باشتراء لهو الحديث في الآية مقيّد بـ ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾.

قلت أوّلاً: إنّ كلمة: ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾وصف لضلال الضالّين، دون إضلال المضلّين، كما في تفسير «الميزان».([309])

وثانياً: إنّ: ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾؛ أي بجهالة، وبمتابعة الهوى، قال الله تعالی: ﴿بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ﴾،([310]) فالمراد منه ليس هو عدم معلوميّـة الإضلال لهم، حتّى يستلزم عدم قصدهم للإضلال، بل المراد هو الجهالة والفعل؛ لمتابعة الهوى من دون تعقّل.

والدليل علی ذلك؛ أي علی کون ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾الجهالة ومتابعة الهوی لاغیر العلم بمعنی الجهل: أنّ إتيان الفعل المحرّم من دون علم وعن غفلة، لا يمكن أن يترتّب عليه العقوبة والعذاب، فإنّ تكليف الغافل محالٌ وعقابه قبيحٌ ومستحيلٌ من الله تعالى، كما مرّ في مقدّمة الأجوبة، هذا مضافاً إلی ما في ذیل الآیة ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً﴾، فالآية لو كانت لها ظهور في العذاب على الإضلال من دون علم، لكانت مخالفاً لحكم العقل، فلابدّ إلّا أن یکون المراد من قوله تعالی: ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾ هو ما ذکرنا من الجهالة ومتابعة الهوی حتّی لايخالف العقل الضروريّ، فإنّ الظاهر لا يقاوم البرهان. ومن ذلك یظهر أنّ المراد من قوله تعالی: ﴿بِغَيْرِ عِلْم﴾ في الآیة الشریفة: ﴿مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ﴾، ([311]) وقوله تعالی: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللهُ افْتِرَاءً عَلَى اللهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ ([312]) هو الجهالة واتّباع الهوی واتّباع کلّ شیطان مرید.

فالآية الشريفة لاتشمل ولاتعمّ الكتب التي يقوم بتأليفه المخالفون من المسلمين وغير المسلمين لتحكيم عقائد مذهبهم ودينهم، من دون أن يكون قصدهم في ذلك إضلال الناس.

وكذا لا تشمل الكتب المصنّفة من بعض علماء الشيعة، كعلماء العرفان مثلاً، في بعض تصنيفاتهم لتشييد مبانيهم وعقائدهم ولو فرض كونه باطلاً؛ لعدم قصدهم من ذلك إضلال الناس.

نعم، لو كان ذلك مع العلم ببطلان مطالبه وقصد الإضلال بها، تكون مشمولاً للآية الشريفة، فيحرم جميع ما يرتبط بحفظه، بل يجب إتلافه وإزهاقه.

وأمّا [الوجه] الثالث؛ أي الاستدلال بقوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾‌.([313])

ففيه: أنّ الآية الشريفة تدلّ على وجوب الاجتناب عن إيجاد قول الزور، وهو الكذب والافتراء بالتكلّم والشهادة به، وبكتابته وسائر الأسباب الموجدة له. وأمّا حكمه بعد الإيجاد بإعدامه وإتلافه، فلا تعرّض للآية الشريفة عليه، وإلّا لوجب إعدام جميع ما فيه كذب وافتراء، وهو كما ترى لايمكن الالتزام به، ولم يقل به أحد.

وأمّا [الوجه] الرابع؛ أي الاستدلال بقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾.([314])

فيرد عليه أنّـه مربوط بالافتراء على الله؛ بأن يكتب كتاباً أو يتكلّم بكلام ويسندهما إلى الله تعالى افتراءً وكذباً. ولا دلالة فيها على حرمة ما يأتي به كتابة أو قولاً ليضلّ عن سبيل الله، من دون أن يسنده إلى الله تعالى افتراءً وكذباً، فالآية الشريفة في مقام المنع عن إيجاد الافتراء على الله تعالى، ولا دلالة لها على حكم ما افترى به بعد الإيجاد والإحداث.

وقد ظهر بذلك‌؛ الجواب عن الوجه الخامس.

وأمّا [الوجه] السادس؛ وهو ما في رواية التحف: «إنّما حرّم الله الصناعة...» الدالّة على جميع التقلّبات، فيرد عليه ـ مضافاً إلى ضعف سندها ـ أنّ صدق التقلّب على الحفظ بما هو حفظ عن الاندراس، غير معلوم، بل الظاهر من التقلّب هو الفعل المشتمل على الحركة، مثل البيع والشراء والكتابة والمطالعة ونحوها، فلا تشمل الحفظ بما هو حفظٌ.

وأمّا [الوجه] السابع؛ وهو رواية عبدالملك بن أعين،([315]) الواردة في التنجيم، الآمرة للعبد الملك بإحراق كتبه إذا يقضي على طبق ما فيها من مسائل التنجيم.

فيرد عليه أوّلاً: أنّ الاستدلال بها متوقّفٌ على أن يكون الأمر بالإحراق فيها للوجوب دون الإرشاد، للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم، وهذا غير مسلّم، بل يحتمل أن يكون الأمر فيها للإرشاد، لا المولويّـة والوجوب؛ للتحرّز عن مضارّ العمل به من عدم إمكان التحرّز عمّا ظنّ مسألته وتعويق الحاجات وغيرهما.

وثانياً: أنّ مقتضى الاستفصال في هذه الرواية، واختصاص الحكم فيها بصورة الحكم بالنجوم: أنّـه إذا لم يقض ولم يحكم بالنجوم لم يجب الإحراق والإتلاف.

وأمّا [الوجه] الثامن؛ أي رواية أبي عبيدة الحذّاء: «ومن علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً»([316]) المستدلّ بها في المستند، فمدفوعٌ بأنّ الروايـة تدلّ على حرمة تعليم باب الضلال من دون نظر لها إلى حكم باب الضلال بعد تعليمه وتعلّمه من وجوب إتلافه وحرمة النظر إلیه وأمثالهما.

وأمّا [الوجه] التاسع؛ وهو ما في الجواهر([317])من الاستدلال بما دلّ على وجوب جهاد أهل الضلال وإضعافهم بكلّ ما يمكن‌؛ ضرورة معلوميّـة كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم بتدمیر أهله، فبالأولى تدمير ما يقتضي قوّته، ومنها كتبهم‌.

فيرد عليه، إن كان المراد من جهاد أهل الضلال هو الجهاد الابتدائي مع الكفّار، فالوجوب مختصّ بزمان حضور المعصوم(علیه السلام) وزمان ظهور الإمام العصر حجّة بن الحسن العسكري (روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء)، ولا دليل على مشروعيّـة جهادهم في زمان الغيبة، ولمّا كان الأصل، وهو الجهاد، مختصّاً بزمان الحضور والظهور، فالفرع، وهو أولويّـة تدمير ما يقتضي قوّتهم، أيضاً مختصّ بزمان الحضور والظهور.

وإن كان المراد من الجهاد هو الجهاد بالردّ عليهم بالقول والكلام والرسالة والكتابة، فيرد عليه: أنّ وجوبه غير معلومٍ، بل معلومُ العدم، وإلّا يجب لكلّ فرد تعطيل الكسب والعمل، والاشتغال بالردّ على المكاتب الضالّة المختلفة.

وأمّا [الوجه] العاشر؛ فهو ما استدلّ به الجواهر([318]) من أنّ کتب الضلال أولی بالحرمة من هیاکل العبادة المبتدعة، فکما یجب إتلاف الهیاکل المبتدعة، فکذلك کتب الضلال.

ففیه: أنّ الأولویّـة مختصّة بالکتب الذي فیه إضلال الناس عن التوحید إلی الشرك وعن عبادة الله إلی عبادة غیره، کما لایخفی؛ حیث إنّ الأصل مرتبط بعبادة الأصنام والهیاکل، فلا تزید الأولویّـة عن مثله، فإنّ النوع لایزید عن الأصل.

وأمّا [الوجه] الحادي عشر؛ وهو الاستدلال بآية النهي عن التعاون على الإثم والعدوان.([319])

ففيه: أنّ الإعانة على الإثم من العناوين القصديّـة؛ بمعنی کون قصد المعین توصّل الفاعل ـ کما هو المختار في عنوان الإعانة ـ([320]) لاتتحقّق في المورد إلّا إذا حفظ كتب الضلال لإضلال الناس بها، وأمّا إن كان بغرض آخر فلا دلالة فيها على حرمته.

هذا مضافاً إلى أنّـه من الممكن، القول بأنّ الكتاب من المقدّمات البعيدة والمعدّات للضلالة والعصيان التي لا تكون الآية شاملة لها، وتكون قاصرة عنها.

وأمّا [الوجه] الثاني عشر؛ وهو الاستدلال بأدلّة النهي عن المنكر، فمبنيّ على كون كتب الضلال في حدّ نفسه منكراً حتّى يصحّ أن يقال بوجوب إتلافها أو حرمة حفظها، وهذا غير معلومٍ وغير ثابتٍ.

وأمّا [الوجه] الثالث عشر؛ وهو الاستدلال بوجوب دفع الضرر المحتمل؛ ببيان أنّـه من الممكن أن يبتلى نفسه بقراءة هذه الكتب الضالّة، فيعدل عن الطريق المستقيم إلى الضلال، فيحلّ له العقوبة والعذاب الاُخرويّ الـلازم التحرّز عنه، فيرد عليه ـ مضافاً إلى کونه أخصّ من المدّعى؛ لعدم جريانه فيما إذا تيقّن بعدم ابتلائه بقرائتها، أو بعدم عدوله عن طريق الحقّ بواسطة قراءة مثل هذه الكتب ـ أنّـه لا يحلّ له العذاب والعقوبة إذا قرأها وقطع بحقّانيّـة مطالبها، فاعتقدها؛ لأنّ بعد الاعتقاد والقطع لا يمكن عقابه؛ لاستلزامه العقوبة والعذاب على التكليف الغير المقدور، وهو قبيحٌ، بل مستحيلٌ من الله تعالى، وقبل القراءة والاعتقاد لا دليل على عدم جواز قرائتها حتّى يستوجب العذاب والعقوبة عليها.

نعم، لو تنبّه على أنّ قرائتها يستدرجه في العدول عن الحقّ، يمكن القول بجواز عقوبته وعذابه؛ لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وأمّا [الوجه] الرابع عشر؛ وهو الاستدلال بالأدلّة الدالّة على «أنّ الراضي بفعل قوم كالداخل معهم»،([321]) فيرد عليه أنّ حفظ كتب الضلال غير ملازم مع الرضا بما فيها من المطالب الضالّة، وبما يحصل منها من الضلال، بل لعلّ يحفظها لغرض، مع كراهيّته لها.

وأمّا [الوجه] الخامس عشر؛ فضعفه ظاهر؛ لكون الإجماع في مسألة اجتهاديّـة.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ الأدلّة الخمسة عشر المستدلّ بها في المسألة، غير تامّ، إلّا واحد منها، وهو آية الاشتراء،([322])وهي تدلّ ـ كما سبق ـ([323])على حرمة الاشتراء والحفظ بقيود ثلاثـة: لإضلال الناس عـن سبيل الله، ولاتّخاذها هزواً، والعلم بلهويّـة الحديث الذي کان العلم بها والعامل لها موجباً للعذاب والعقوبة. وعليه، يكون حفظ كتب الضلال حرامٌ محرّمٌ، إذا كان ذلك بغرض إضلال الناس وإضعاف الحقّ، وأمّا إذا لم يكن بذلك الغرض، فلا دليل على تحريمه.

فالكتب الاستدلاليّـة للمخالفين التي صنّف لتشييد مبانيهم وعقائدهم لم يكن حفظها محرّماً، ولا إتلافها واجباً، فإنّها وإن كانت من كتب الضلال ولهو الحديث، إلّا أنّـه لا يجب إتلاف كلّ كتاب ضلال وكلّ لهو الحديث، بل وجوب الإتلاف وحرمة حفظها مقيّد بأن يكون التصنيف للإضلال.

ويشهد على ذلك، بل يدلّ عليه: الروايات الواردة في حقوق الأولاد، الدالّة على لزوم تعليم الأولاد، بحيث لا يؤثّر فيهم شبهات المخالفين:

منها: ما رواه جميل بن درّاج، وغيره، عن أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام)، قال: «بادروا أولادكم بالحديث قبل أن يسبقكم إليهم المرجئة».([324])

ومنها: ما رواه بشير الدهان، قال: قال أبو‌عبد‌الله(علیه السلام): «لا خير فيمن لا يتفقّه من أصحابنا يا بشير، إنّ الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه احتاج إليهم، فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم، وهو لا يعلم».([325])

ومنها: ما رواه محمّد بن عليّ بن الحسين في الخصال بإسناده عن عليّ(علیه السلام) في حديث الأربعمائة، قال: «علّموا صبيانكم ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها».([326])

وهذه الروايات كما ترى، لا تدلّ على حرمة إتيان المخالفين والسماع منهم، بل يقول بتعليم الأولاد وتربيتهم بنحو لا يؤثّر فيهم أقوال المخالفين.

نعم، في رواية واحدة ورد المنع عنها، وهو ما رواه هارون بن خارجة، عن أبى‌عبد‌الله‌(علیه السلام)، قال: قلت لأبي ‌عبد‌الله(علیه السلام) إنّا نأتي هؤلاء المخالفين فنسمع منهم الحديث، يكون حجّة لنا عليهم، قال: فقال: «لا تأتهم ولا تسمع عنهم، لعنهم الله ولعن ملّتهم المشركة».([327])

لكنّ الرواية ناهية عن الإتيان إليهم والسماع منهم، بفرض ترك المراودة والمجالسة معهم، نظیر ما في المرتبة الأولی في النهی عن المنکر.

ویشهد علیه أنّ سؤال السائل کان عن إتیانه إلیهم وسماعه ما یکون حجّة للمذهب وردعاً علیهم، ومن المعلوم عدم حرمة ذلك ولم یکن ضلالاً ولا إضلالاً من رأس، فلا ارتباط لها بمسألة کتب الضلال.

ولا يخفى أنّ الكتب الضالّة إذا كانت بحيث يحرم حفظها، كانت إتلافها جائزاً؛ لعدم الماليّـة لها، بل تجب الإتلاف إذا كانت من مال نفسه؛ لوجوب مقدّمة الواجب. وكذا إذا كانت من مال الغير؛ لعدم الماليّـة لها؛ لأنّها حسب الفرض يحرم عليه حفظها ومنافعها، وحرمة الشيء وحرمة منافعه، ملازم مع عدم ماليّته عرفاً وعقلائاً.

هذا بالنسبة إلى كتب الضلال المکتوب والمصنّف عن تقصیرٍ وتوجّهٍ إلی ضلالته وإضلاله.

وأمّا بالنسبة إلى كتب الضلال التي تکون عن قصورٍ وبلا توجّه إلیها، ففيه صورتان ووجهان:

الصورة الأولى: الكتب التي يترتّب عليه الإضلال، فهذه يكون حفظها من الطبع والاستنساخ والبيع والشراء حراماً فيما إذا كان الحفظ بغرض الإضلال وكان الإضلال إضلالاً عن سبيل الله.

الصورة الثانية: الكتب التي صنّف لإثبات فرع من فروع الشرائع الإلهيّـة، أو فـرع من أصولها، بحيث كانت واقعة في سبيل الله، فلا دليل على حرمـة حفظها، فضلاً عن وجوب إتلافها، كالكتب التي صنّف ـ مثلاً ـ في وجوب العيني لصلاة الجمعة، أو لعدم حرمة الغناء الغير المشتمل على المحتوى الباطل، ولم يكن مقترناً مع سائر المحرّمات أيضاً، فإنّ مثلها ليس مخالفاً لسبيل الله، بل واقعـاً في إثبات سبيل الله باعتقاد المصنّف، فمثل هذه لا دليـل على حرمة حفظها، بل الظاهر جوازها، بل وجوبها ترویجاً عن الإسلام وفقهه وعن سبیل الله، کما هو الواضح.

---------------
[301]. الأنفال (8): 25.
[302]. الأنفال (8): 25.
[303]. الأنفال (8): 24.
[304]. الأنفال (8): 26ـ 28.
[305]. الميزان في تفسير القرآن 9: 51.
[306]. لقمان (31): 6.
[307]. عطفٌ علي «عقلاً».
[308]. راجع: وسائل الشيعة 15: 369، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1 و3.
[309]. راجع: الميزان في تفسير القرآن 16: 210.
[310]. الروم (30): 29.
[311]. الحجّ (22): 3.
[312]. الأنعام (6): 140.
[313]. الحجّ (22): 30.
[314]. البقرة (2): 79.
[315]. تقدّمت الرواية مع تخريجها في الصفحة 103، ولاحظ أيضاً: من لا يحضره الفقيه 2: 175 /779، كتاب الحجّ، باب الأيّام والأوقات التي يستحبّ فيها السفر...، الحديث 14؛ وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1.
[316]. الكافي 1: 35، باب ثواب العالم والمتعلّم، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 16: 173، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 16، الحديث 2.
[317]. راجع: جواهر الکلام 22: 57.
[318]. راجع: نفس المصدر: 56.
[319]. وهو قوله تعالي في سورة المائدة (5): 2.
[320]. راجع: المجلّد الأوّل، الصفحة 433.
[321]. راجع: وسائل الشيعة 16: 137ـ 141، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر و...، أبواب الأمر والنهي، الباب5، الحديث 2 و4 و6 و9 و12.
[322]. وهو قوله تعالي في سورة لقمان (31): 6.
[323]. سبق الکلام في دلالتها في الصفحة 112 وما بعدها.
[324]. الكافي 6: 47، باب تأديب الولد، الحديث 5؛ تهذيب الأحکام 8: 111/381، باب الحكم في أولاد المطلّقات...‌، الحديث 30؛ وسائل الشيعة 21: 476، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 84، الحديث 1. وفي تهذيب الأحکام والوسائل: «بادروا أحداثكم» بدل «وبادروا أولادكم».
[325]. الكافي 1: 33، باب صفة العلم وفضله و...، الحديث 6؛ وسائل الشيعة 21: 477، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 84، الحديث 2.
[326]. الخصال: 673، أبواب الواحد إلى المائة، الحديث 10؛ وسائل الشيعة 21: 478، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 84، الحديث 5. وفيه مع إضافة: «من علمنا» بعد كلمة «صبيانكم».
[327]. السرائر 3: 565؛ وسائل الشيعة 21: 477، كتاب النكاح، أبواب أحكام الأولاد، الباب 84، الحديث 4، مع تفاوتٍ يسير.

العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org