Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة عامة
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الاستدلال على جواز الغیبة عند التظلّم

الاستدلال على جواز الغیبة عند التظلّم

وقد استدلّ لجواز الغيبة عند التظلّم بوجوهٍ عشرة؛ من الآيات والروايات والقواعد:

أحدها: قوله تعالى‌: ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيل * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.([1550])

والآية الشريفة تدلّ علی أنّ الانتصار بعد الظلم، ومن موارد الانتصار تظلّم المظلوم؛ سواء كان المراد من الانتصار هو الانتقام من الظالم، أو هو طلب النصرة، كما هو أحد معانيه؛ يقال: انتصر على خصمه، إذا استنصر.

أمّا على الأوّل، فلأنّ جواز الانتقام من الظالم مستلزم لجواز الانتصار من الغير، وإلّا فقلّما يكون المظلوم بنفسه يمكنه الانتقام من ظالمه، والانتصار ملازمٌ لذكر مسائة الظالم، ولا أقلّ من أنّ إطلاق الانتصار يقتضي جواز انتقامه بمعاونة الغير، كعشيرته وقبيلته إذا لم يمكنه بنفسه، وهو ملازم للغيبة.

وأمّا على الثاني، فلأنّ مقتضى إطلاقه جواز الاستنصار وطلب النصرة من كلّ من يرجو منه ذلك، والياً كان أو غيره، ولازمه جواز ذكر ظلم الظالم وغيبته عند من يرجو منه النصر.

واستشكل المحقّق الإيرواني(قدس سره) على الاستدلال بالآية الشريفة بأنّ:

هذه الآية أجنبيّـة عن الغيبة، وإنّما هي دليلٌ على جواز الانتصار على الظلم ومجازاة الظالم بالمثل، نظير آية الاعتداء بالمثل، وأنّـه لا سبيل على المعتدي بالمثل، إنّما السبيل على المعتدي ابتداءً.

ودعوى أنّ الغيبة ـ أيضاً ـ نوعٌ من المجازات، يدفعها أنّـه لا إطلاق في الآية بالنسبة إلى المجازاة بالمحرّمات، وإلّا فنكاحه وأكل لحمه ـ أيضاً ـ نوعٌ من المجازات.([1551])

ويرد عليه أوّلاً: هذا الإشكال مبنيّ على كون المراد من الانتصار في الآية هو الانتقام والاعتداء بالمثل وكون ذكر الظالم ـ أيضاً ـ نوع من الانتصار، وأمّا على كون الانتصار بمعنى طلب النصرة، فغير وارد؛ لما مرّ من أنّ الاستنصار وطلب النصرة ملازمٌ وموقوفٌ على ذكر ظلم الظالم عند من يرجو منه النصر.

وثانياً: أنّ الانتصار بالغيبة جائزٌ قطعاً؛ لأنّ القدر المتيقّن منه هو الانتصار من الوالي والقاضي، وجواز هذا الانتصار مستلزم لجواز ذكر ظلم الظالم عند الوالي والقاضي.

ثانيها: قوله تعالى‌: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾.([1552])

فإنّ الآية الشريفة تدلّ علی أنّ للمظلوم الجهر بالسوء، في الجملة ولو عند من يرجو إزالة الظلم عنه؛ لإطلاق الآية في الجهر بالسوء، بل الآية بمفهومها تدلّ علی أنّ الجهر محبوب لله تعالی.

ففي تفسير القمّي: «أي: لا يحبّ أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ويظلم إلّا من ظلم، فأطلق له أن يعارضه بالظلم».([1553])

وعن تفسير العيّاشي، عنه (صلوات الله علیه): «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».([1554])

وهذه الرواية وإن وجب توجيهها؛ إمّا بحمل الإساءة علی ما يکون ظلماً وهتکاً لاحترامهم أو بغير ذلك، إلّا أنّها دالّة علی عموم الجهر، کما فيها الدالّة أيضاً علی عموم ﴿مَن ظُلِمَ﴾ في الآية الشريفة، وأنّ کلّ من ظُلم فلا جُناح عليه فيما قال في الظالم.

فتلخّص ممّا ذکر، أنّ الاستدلال بالآية مبنيّ علی الإطلاق في المستثنی منه، وذکر نحوه سيّدنا الأستاذ (سلام لله علیه) بقوله:

والاستدلال به لأصل المطلوب يتوقّف على كون الاستثناء متّصلاً وكون الاستثناء من الجهر بالسوء، وكان تقديره لا يحبّ الله الجهر إلّا جهر من ظلم، فيكون بقرينة الاستثناء في مقام بيان الجهر بالسوء، فيؤخذ بإطلاقه لأنواع الجهر بالسوء، كالشتم والدعاء بالسوء والغيبة.

ويتوقّف إطلاق المطلوب على إحراز كونه في مقام بيان عقد الاستثناء أيضاً.([1555])

لکنّـه استشکل في ذلك بقوله: ويمكن الخدشة في جميع ذلك؛ لعدم دافع، لاحتمال كون الاستثناء منقطعاً، سيّما مع عدم إمكان استثناء من ظلم من ظاهر الكلام، فيحتاج إلى تقديرٍ.

وما يقال: إنّ الأصل في الاستثناء الاتّصال إن لم يرجع إلى ظهور في الكلام، لايتبع. ويشكل دعوى الظهور في المقام بعد كون الاتّصال متوقّفاً على التقدير، وهو خلاف الأصل أيضاً.

وقد حكي([1556])عن ابن الجنّي أنّـه منقطع، وعن ابن عبّاس وجماعة أخرى قراءة ﴿مَن ظَلَمَ﴾ معلوماً، وعليه يكون منقطعاً، ويكون المعنى: لكن من ظلم لا يخفى أمره على الله تعالى، بقرينة سميعاً عليماً، أو كان التقدير: لكن من ظُلم جهر بظلامته ومن ظَلم جهر بظلمه.

وعدم دليل على أنّ الاستثناء يكون من الجهر، والتقدير: إلّا جهر من ظلم؛ لاحتمال كون التقدير في المستثنى منه، ويكون التقدير: لا يحبّ الله الجهر من أحد بالسوء إلّا من ظلم، أو جهر أحد إلّا من ظلم، فيكون في مقام بيان الأشخاص، لا الأقوال، كما هو ظاهر عبارة تفسير القمّي.([1557])

فكأنّـه قال: لا يجوز من أحد الجهر إلّا ممّن ظلم، وأمّا أنّ كلّ جهر لا يجوز فلا إطلاق لإثباته، بل في مقام الإهمال من هذه الجهة، فلا تدلّ الآية على حرمة الغيبة حتّى يتشبّث بالاستثناء لتجويزها، ولو سلّم الإطلاق في المستثنى منه، كما لاتبعد دعوى الفهم العرفيّ على تأمّل، فلا يسلّم في المستثنى؛ لعدم إحراز كونه في مقام البيان فيه.

فلو دلّت على أنّ كلّ من ظلم يجوز له الجهر بالسوء لا تدلّ على جواز التقوّل بكلّ سوء والإجهار بكلّ قول، وعند كلّ أحد، ومع معلوميّة الظالم وذكره باسمه؛ لعدم إطلاق في عقد الاستثناء، كما لعلّه يشهد له ما روي في مجمع البيان عن أبي‌ جعفر(علیه السلام)، قال: في معناه أقوال: أحدها: لا يحبّ الله الشتم في الانتصار إلّا من ظلم، فلا بأس له أن ينتصـر ممّن ظلمه ممّا يجوز الانتصار به في الدين، عن الحسن والسدى، وهو المرويّ عن أبي ‌جعفر(علیه السلام)، ونظيره: وانتصروا من بعد ما ظلموا. قال الحسن: ولايجوز للرجل إذا قيل له يا زاني، أن يقابل له بمثل ذلك من أنواع الشتم.([1558]) انتهى.

وهو مبنيّ على عدم إطلاق فيها، لا في المستثنى منه ولا في المستثنى.([1559])

ويمكن المناقشة فيما أفاده أوّلاً: بأنّ الأصل في الاستثناء الاتّصال لا الانقطاع.

وثانياً: أنّ الاستثناء المتّصل ـ كما قد يأتي لتأكيد المستثنی منه ولا عناية حينئذٍ بالمستثنی ـ قد يأتي به أيضاً لملاحظة نفس المستثنی وبيان أنّ حكم المستثنی مخالف لحكم المستثنی منه، فيكون في مقام بيانه، فيؤخذ بإطلاقه.

وثالثاً: قراءة من ظَلَم مبنيّاً للفاعل غير حجّة؛ لكونه مخالفاً للقراءة المشهورة.

ورابعاً: ما قاله: من كون التقدير: «لكن من ظُلم جهر بظلامته، ومن ظَلم جهر بظلمه» لا نفهمـه، بل لو كان كلمـة «إلّا» بمعنى «لكن» الاستدراكيّـة، كان عمومـه وإطلاقه أوضح.

وخامساً: أنّـه بناءً على اتّصال الاستثناء ولزوم التقدير، كما يمكن التقدير في المستثنی منه، ويكون التقدير: لا يحبّ الله الجهر من أحد بالسوء إلّا من ظلم، أو جهر أحد إلّا من ظلم، يمكن أن يكون التقدير في المستثنى، فيكون التقدير: إلّا جهر من ظلم، لكن الترجيح للثاني؛ أي التقدير في المستثنى؛ لما في الآية الشريفة من الشاهدين عليه:

أحدهما: قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة:﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾،([1560]) فإنّ كونه تعالى ‌سميعاً يناسب الأقوال لا الأشخاص، فلو كان في مقام بيان الأشخاص لا الأقوال، لاكتفی بوصف كونه عليماًً، من دون احتياج إلی وصف كونه سميعاً، فقوله تعالى: ﴿سَمِيعاً﴾ يدلّ على أنّـه تعالى في مقام بيان الأقوال.

ثانيهما: قوله تعالى: ﴿إِن تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سُوء فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً‌﴾،([1561]) فإنّ هذه الآية قرينة على أنّ الله تعالى في الآيتين في مقام بيان حيثيّات الأفعال، فقال: إنّ السوء جهرة مذمومٌ إلّا ممّن ظُلم، ولكنّ الخير لا مانع من إبدائه كما لا مانع من إخفائه، فيكون الآية الشريفة في مقام بيان الأقوال وأنّ الجهر من القول بالسوء غير محبوبٍ لله تعالى، إلّا جهر من ظلم.

وسادساً: أنّ ما قاله (سلام لله علیه) من عدم الإطـلاق في المستثنى؛ لعدم إحراز كونه في مقام البيان فيه، فمخدوشٌ بأنّ الآية الشريفة جيئت لبيان المستثنى؛ حيث إنّ المستثنى منه؛ أي عدم حبّه لله تعالى للجهر بالسوء، معلومٌ غير محتاجٍ إلى البيان، والمحتاج إلى البيان هو المستثنى؛ أي حبّه تعالى للجهر بالسوء من المظلوم، فالله تعالى في مقام بيان المستثنى، وحيث لم يقيّده بشيء فيؤخذ بإطلاقه، هذا مضافاً إلى أنّ الأصل عند الشكّ في الإطلاق والإهمال والإجمال هو الإطلاق؛ أي كونه في مقام البيان.

ثالثها: رواية العيّاشي، عن أبي ‌عبدالله في قول الله: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾،([1562])قال: «من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».([1563])

فإنّها مضافاً إلی كونها مؤيّدة لدلالة الآية وإطلاقها، فیها الدلالة على أنّ المظلوم يجوز له ذكر ما فعله الظالم به عند الغير مطلقاً، بل يدلّ بإطلاقه على جواز غيبته في غير ما فعله به من سائر مساويه.

رابعها: مرسلة الطبرسي في مجمع البيان، عن أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام) في قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾:([1564]) «أنّ الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله».([1565])

وهذه الرواية مثل سابقها في الدلالة، إلّا أنّها مختصّة بسوء ما فعله به، دون غيره من مساويه.

واستشكل سيّدنا الأستاذ (سلام لله علیه) في الاستدلال بالروايتين بأنّهما مع ضعفهما سنداً، معارضتان بما في مجمع البيان عن أبي ‌جعفر(علیه السلام): «لا يحبّ الله الشتم في الانتصار ﴿إلّا مَن ظُلِمَ﴾، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين».([1566]) فإنّ الظاهر منها عدم جواز غيبة الظالم، وإنّما يجوز الانتصار منه بما يجوز في الدين.([1567])

ولكن يمكن أن يقال: إنّ ضعف سندهما منجبر بموافقتهما للكتاب، والخبر المحفوف بالقرينة والموافقة للكتاب، حجّة. هذا بالنسبة إلى ضعف سندهما.

وأمّا دعوى تعارضهما مع مرسلة مجمع البيان عن أبي ‌جعفر(علیه السلام)، فمخدوشٌ بأنّ المرسلة لا يقاوم الروايتين؛ لأنّها مضطربة متناً، حيث إنّ مقتضاها اتّحاد المستثنى والمستثنى منه في الحكم، فإنّها تدلّ في عقد المستثنى منه على أنّ الله تعالى لا يحبّ لغير المظلوم الشتم في الانتصار، وفي عقد المستثنی أيضاً تدلّ ـ بقرينة التفريع المذكور بعده‌ ـ على عدم جواز الشتم في الانتصار، حيث فرّع عليه بأنّ للمظلوم الانتصار ممّن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين، واتّحاد المستثنی والمستثنی منه في الحكم بعيدٌ غايته.

خامسها: الروايات الدالّة على أنّ الإمام الجائر لا حرمة له ولا غيبة، مثل رواية أبي ‌البختري، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه(علیهما السلام)، قال: «ثلاثة ليس لهم حرمة، صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بالفسق».([1568])

وما رواه القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبيّ(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنّـه قال: «لا غيبة لثلاثة: سلطان جائر، وفاسق معلن، وصاحب بدعة».([1569])

وما رواه السيّد فضل الله الراوندي في نوادره‌: بإسناده، عن محمّد بن الأشعث، عن موسى بن إسماعيل، عن أبيه، عن أبيه موسى بن جعفر، عن آبائه(علیهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «أربعة ليس غيبتهم غيبة‌: الفاسق المعلن بفسقه، والإمام الكذّاب إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، والمتفكّهون بالأمّهات، والخارج من الجماعة الطاعن على أمّتي الشاهر عليها بسيفه».([1570])

قال الشيخ الأعظم(قدس سره):

ويؤيّده ما تقدّم من عدم الاحترام للإمام الجائر، بناءً على أنّ عدم احترامه من جهة جوره، لا من جهة تجاهره، وإلّا لم يذكره في مقابل «الفاسق المعلن بالفسق».([1571])

سادسها: النبويّ المرسل الذي أرسله الشهيد الثاني في كشف الريبة: «لصاحب الحقّ مقال».([1572])

وفيه: أنّـه لا دلالة فيه على جواز الغيبة؛ لأنّ لكلّ صاحب حقّ مقال في مطالبة حقّه، لا في الوقيعة فيه.

سابعها: منع المظلوم عن التظلّم حرجٌ عليه، قال الشيخ(قدس سره): «أنّ في منع المظلوم من هذا ـ الذي هو نوعٌ من التشفّي ـ حرجاً عظيماً».([1573])

واستشكل عليه السيّد الخوئي بأنّ شمول دليل الحرج للمقام إشکالاً، بل منعا؛ لأنّـه منافٍ للامتنان في حقّ المغتاب (بالفتح)، وقد حقّقنـا في أدلّـة الحرج والضرر أنّها أدلّة امتنانيّـة، وإنّما تجري إذا لم يلزم من جريانها خلاف الامتنان في حقّ الآخرين.([1574])

ويرد عليه أوّلاً: كون أدلّة الضرر والحرج أدلّة امتنانيّـة، غير معلومٍ.

وثانياً: أنّ خلاف الامتنان في حقّ المغتاب (بالفتح) إنّما يجري إذا لم يكن شخص المغتاب (بالفتح) سبباً لوقوع المغتاب (بالكسر) في الحرج، وأمّا في مثل المقام الذي كان المغتاب بظلمه سبباً لوقوع المظلوم في الحرج، لا مانع من جريان قاعدة الحرج.

ثامنها: أنّ في تشريع الجواز مظنّـة ردع الظالم، وهي مصلحة خالية عن مفسدة، فيثبت الجواز؛ لأنّ الأحكام تابعة للمصالح.

وفيه: أنّ ردع الظالم وإن كان فيه المصلحة، إلّا أنّ تحقّق الردع بالغيبة التي هي من المحرّمات ممنوعٌ، إلّا إذا ثبت عدم حرمة الغيبة هنا.

تاسعها: رواية حمّاد بن عثمان، قال: دخل رجل على أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام) فشكی إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكو، فقال له أبو‌عبد‌الله(علیه السلام): «ما لفلان يشكوك؟» فقال له‌: يشكوني أنّي استقضيت منه حقّي، قال: فجلس أبو‌عبد‌الله(علیه السلام) مغضباً، ثمّ قال: «كأنّك إذا استقضيت حقّك لم تسئ؛ أ رأيتك ما حكى الله عزّوجلّ في كتابه: ﴿وَيَخافُونَ سَوءَ الحِسَاب﴾،([1575]) أ ترى أنّهم خافوا الله أن يجور عليهم؟ لا والله؛ ما خافوا إلّا الاستقضاء، فسمّاه الله عزّوجلّ سوء الحساب، فمن استقضى فقد أساء».([1576])

قال سيّدنا الأستاذ (سلام لله علیه):

كذا في الوسائل([1577]) والكافي([1578]) على نقل المجلسي في مرآة العقول، لكنّـه قال: «وفي بعض النسخ القديمة بالصاد المهملة في الموضعين»،([1579]) وفي الوافي([1580]) عن الكافي والتهذيب بالصاد المهملة في جميع المواضع.

أقول: وأظنّ كونه بالضاد المعجمة في الموضعين الأوّلين؛ لأنّ الدائن في مقام الدفاع عن الشكوى لا يناسب أن يقرّ بالاستقصاء وسوء المطالبة، بل المناسب أن يقول: إنّى استقضيت حقّي، فلا وجه لشكواه، وقول أبي ‌عبد‌الله: «كأنّك إذا استقضيت» يناسب المعجمة طبقاً لمقالة الدائن.

ثمّ لمّا كان الاستقضاء على كيفيّتين: إحداهما بلا استقصاء وثانيتهما معه، قال أبو‌عبد‌الله(علیه السلام): لم يكن كل استقضاء غير سوء، بل منه ما ينطبق عليه سوء الحساب وهو الاستقصاء فيه، فمن استقصى فقد أساء، فالمناسب للموضع الأخير، بل لما قبله المهملة، ويؤيّده أنّ مطلق الاستقضاء ليس إساءة، كما هو واضح.([1581])

وكيف كان، أنّ الرواية لاتدلّ على المقصود؛ أي جواز الغيبة للمظلوم فيما فعل به الظالم؛ لأنّ الظاهر منها كون المطالبة مقرونة للظلم، كالإهانة والتحقير وغيرهما، فتدلّ على جواز غيبة الظالم عند مثل أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام) الذي يرجى منه دفع الظالم وظلمه.

هذا مضافاً إلى أنّ الظاهر من سياق الرواية وغضب أبي ‌عبـد‌الله(علیه السلام) وتطبيق الآية: أنّ مطالبته كانت بوجهٍ منطبق عليه عنوان الظلم، كالاستقضاء من الفاقد الموجب لخجلته وهتكه.

وممّا ذكرناه في رواية حمّاد بن عثمان، يظهر وجه الاستدلال بمرسلة ثعلبة بن ميمون ـ المرويّـة عن الكافي ـ قال: كان عنده قوم يحدّثهم إذ ذكر رجل منهم رجلاً فوقّع فيه وشكاه، فقال له أبو‌عبد‌الله(علیه السلام): «وأنّي لك بأخيك كلّه، وأيّ الرجال المهذّب».([1582])

فإنّ ظاهر «وقّع فيه» أنّـه اغتابه، فقوله: «شكاه» يصير ظاهراً حينئذٍ في تظلّمه وذكر سوء ما فعل به، فتدلّ الروايتين على جواز الغيبة عند مثل أبي ‌عبد‌الله(علیه السلام) الذي يرتجی منه رفع ظلم الظالم ولو بالنصيحة.

نعم، لا إطلاق لهما حتّى تدلّ على جواز الغيبة عند من لا يرتجی منه رفع ظلم الظالم.

عاشرها: رواية هارون بن عمرو المجاشعي، عن محمّد بن جعفر، عن أبيه أبي ‌عبدالله(علیهما السلام)، وعن المجاشعي، عن الرضا، عن آبائه، عن عليّ(علیهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه وعقوبته ما لم يكن دينه فيما يكره الله عزّوجلّ».([1583])

والاستدلال بهذه الرواية يتمّ علی شمول العقوبة للغيبة. فتأمّل.

الحادي عشرها: حكاية هند زوجة أبي‌ سفيان واشتكائها إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وقولها: «إنّ أباسفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني».([1584]) ولم ينهاها بأنّها غيبةَ أبي ‌سفيان.

وفيه: ـ مضافاً إلى ضعف سندها ـ أنّها قضيّـة شخصيّـة، فيحتمل أن يكون عدم الردع لتجاهره بالبخل. فتأمّل.

----------------------
[1550]. الشوري (42): 41 و42.
[1551]. حاشية المكاسب (للإيرواني) 1: 36.
[1552]. النساء (4): 148.
[1553]. تفسير القمّي 1: 157.
[1554]. تفسير العيّاشي 1: 283، الحديث 296.
[1555]. المکاسب المحرّمة 1: 427.
[1556]. حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان 3ـ 4: 201.
[1557]. تفسير القمّي 1: 164.
[1558]. مجمع البيان 3 ـ 4: 201.
[1559]. المكاسب المحرّمة 1: 427ـ 429.
[1560]. النساء (4): 148.
[1561]. النساء (4): 149.
[1562]. النساء (4): 148.
[1563]. تفسير العيّاشي 1: 283، الحديث 296؛ وسائل الشيعة 12: 289، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 154، الحديث 6.
[1564]. النساء (4): 148.
[1565]. مجمع البيان 3ـ 4: 202.
[1566]. نفس المصدر: 201.
[1567]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 429.
[1568]. قرب الإسناد: 152، باب أحاديث المتفرّقة، الحديث 632؛ وسائل الشيعة 12: 289، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 154، الحديث 5.
[1569]. لايوجد لدينا هذا الکتاب لکن نقل عنه مستدرك الوسائل 9: 128، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 134، الحديث 1.
[1570]. النوادر (للراوندي): 71، الأحاديث غير المشهورة أو...، لاغيبة لهم، الحديث 170؛ ومستدرك الوسائل 9: 128، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 134 الحديث 2.
[1571]. المكاسب 1: 348.
[1572]. كشف الريبة: 33، الفصل الثالث: في الأعذر المرخّصة في الغيبة، الأوّل: التظلّم.
[1573]. المكاسب 1: 348.
[1574]. راجع: مصباح الفقاهة 1: 542.
[1575]. الرعد (13): 21.
[1576]. الكافي 5: 100، باب في آداب اقتضاء الدين، الحديث 1؛ تهذيب الأحکام 6: 194/425، باب الديون وأحكامها، الحديث 51، مع تفاوتٍ يسير؛ وسائل الشيعة 18: 348، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 16، الحديث 1، مع تفاوتٍ يسير.
[1577]. تقدّم آنفاً.
[1578]. تقدّم آنفاً.
[1579]. مرآة العقول 19: 54، کتاب المعيشة، باب في آداب اقتضاء الدين، الحديث 1.
[1580]. الوافي 18: 801، کتاب المکاسب، أبواب أحکام الديون والضمانات، الباب 127، الحديث 7.
[1581]. المكاسب المحرّمة 1: 434.
[1582]. الكافي 2: 651، باب الإغضاء، الحديث 1؛ وسائل الشيعة 12: 85، كتاب الحجّ، أبواب أحكام العشرة، الباب 56، الحديث 1.
[1583]. الأمالي (للطوسي): 520، المجلس الثامن عشر، الحديث 53؛ وسائل الشيعة 18: 333، كتاب التجارة، أبواب الدين والقرض، الباب 8، الحديث 4.

العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org