|
مقدمة لمرجع الديني سماحة آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ)([1]).
تطفح ثقافة القرآن الغنية والمعطاءة بمناجاة الله تعالى والثناء عليه وتمجيده ومدحه، إضافةً إلى مناجاة أنبيائِهِ وأولياء الله العظام، وحوارهم معه، ففي الكثير من الآيات ثمّة حديث مميز عن الدعاة والمناجاة والتضرّع إلى الله تعالى، ولكي نتعرّف أكثر على المكانة الرفيعة للدعاء في هذا الكتاب الإلهي الخالد والجامع، نشير إلى آيتين أخريتين غير الآية المشار إليها أعلاه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)([2])، (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَيُحِبُّ الْمُـعْتَدينَ * وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الاَْرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُـحْسِنِينَ)([3]). ولم ينشغل مذهب من المذاهب الإسلامية بالدعاء وتأسيس أساسه وتشييد أصوله ومبانيه، وتعليم شروطه وآدابه، وتدوين أفضل وأجمع كتبه مثل المذهب الشيعي، إلى حدّ أننا لو سمينا التشيع بـ «مذهب الدعاء» والشيعة بـ «الدعاؤون» لما قلنا كلاماً جزافاً أو شططاً. لقد ألّف علماء الشيعة وصنفوا أكمل الكتب في مجال الدعاء، كما جمعوا تلك الأدعية الواصلة إليهم عن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام)، فقدموها لمحضر قوّام الأسحار المبتهجين، والموحّدين المتألمين، فرسان ساحة التوحيد والعبادة.. كتباً قيمة مثل: مفتاح الفلاح، وعُدّة الداعي، وفلاح السائل، ومصباح المتهجد، والبلد الأمين و.. تبعث النشاط والحيوية بأسمائها الرائعة المطربة المسعدة المؤثرة في النفوس الطاهرة والأرواح اللطيفة المستغفرة بالأسحار، نعم، كلّها كتب قدّمها علماء الشيعة. ويعدّ أئمة الشيعة(عليهم السلام) أهم مصادر الدعاء والمناجاة والحديث مع الله وأعظمها، بل هم من علّمنا ـ من الأساس ـ منطق الدعاء، وأشعلوا مصباح المعرفة والتوحيد الأصيل في رواق قلوبنا، فعرّفونا بذلك على منهج الحديث مع الله وآدابه. وأجمل نص دعائي مناجاتي في مذهب أهل البيت(عليهم السلام)هو «الصحيفة السجادية المباركة»، والتي تحوي أعظم وأصفى الأدعية، كما تتمتع من ناحية متنها ومضمونها باستحكام بالغ يفوق العادة ولا يضاهيه مثيل، بل يحظى سندها بالقطع بالصدور، حيث رويت ـ متواترةً ـ بطرق ثلاثة، رواها الشيعة الإمامية عن الإمام الصادق(عليه السلام)، كما روتها الزيدية والفرقة الإسماعيلية عن إمام الساجدين زين العابدين(عليه السلام). أما المغفور له آية الله العظمى البروجردى(قدس سره)، وهو من أعلام الشيعة المتأخرين، ومن الفقهاء الذين قلّ نظيرهم، حيث سنّ في الفقه منهجاً جديداً، وضخّ في الرجال والحديث أساليب جديدة وآليات حديثة، وكانت حياته مليئةً بالبركات، لا تجد ذلك إلاّ منحصراً فيه، فكان كالشمس المتلألئة في سماء جملة من العلوم الإسلامية منها علم الرجال والحديث، لا بل ضخّ فيهما مناهج بحثية جديدة، كما شعّ نوره على حياة المسلمين عامة في عصره وبعد رحيله، وكان الفقيه الكبير فقيد الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني(قدس سره)يقول في وصفه: «كان آية الله العظمى البروجردي في عصره، ومع وجود فقهاء كبار في قم والنجف، على رأسهم وفي مقدّمهم، ثبوتاً وإثباتاً»([4]). يقول السيد البروجردي حول الصحيفة السجادية، وصحة نسبتها إلى الإمام علي بن الحسين(عليه السلام): «لا يخفى أنّ كون الصحيفة من الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) من البديهيات، وهي زبور آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، يشهد بذلك أسلوبها ونظمها ومضامينها التي يلوح منها آثار الإعجاز، ولها أسناد ذكرها الشيخ والنجاشي، ولشارحها السيد عليخان(قدس سره) أيضاً سند من آبائه، ولنا أيضاً سند آخر إليها»([5]). ويقول الإمام الخميني في وصيته السياسية الإلهية ما نصّه: «إننا نفتخر بأن الأدعية النابضة بالحياة، والتي يسمّونها «القرآن الصاعد» هي من أئمتنا المعصومين(عليهم السلام)، إن عندنا المناجاة الشعبانية للأئمة، ودعاء عرفة للحسين بن علي(عليه السلام)، والصحيفة السجادية وهي زبور آل محمد، والصحيفة الفاطمية وهي الكتاب الذي ألهمه الله تعالى للزهراء المرضية»([6]). ويقول في موضع آخر: «إن الصحيفة الكاملة السجادية أنموذج كامل للقرآن الصاعد، وهي من أكبر المناجاة العرفانية في خلوة الأنس، تقصر أيدينا عن نيل بركاتها، إن ذاك الكتاب الهي انبعث من عين نور «الله»، وهي تعلّم أهل الخلوات الإلهية طريقة سلوك الأولياء الكبار والأوصياء العظماء، إنها كتاب شريف يبيّن المعارف الإلهية وفق منهج أصحاب المعرفة على طريقة القرآن الكريم، دون تكلّف في الألفاظ، وضمن أسلوب الدعاء والمناجاة، لعطاشى المعارف الإلهية»([7]). ويقول المغفور له آية الله الشيخ محمد محسن، المعروف بـ «الشيخ آغا بزرگ الطهراني»، في كتابه النفيس والوزين «الذريعة إلى تصانيف الشيعة»: «الصحيفة السجادية الأولى المنتهي سندها إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، المعبر عنها: «أخت القرآن» و «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)»، ويقال لها: «الصحيفة الكاملة» أيضاً، وللأصحاب اهتمام بروايتها، ويخصّونها بالذكر في إجازاتهم، وعليها شروح كثيرة مرّت في محلّها، وهي من المتواترات عند الأصحاب; لاختصاصها بالإجازة والرواية في كل طبقة وعصر ينتهي روايتها إلى الإمام أبي جعفر الباقر(عليه السلام)، وزيد الشهيد، ابني علي بن الحسين عن أبيهما علي بن الحسين(عليه السلام)»([8]). ويقول في موضع آخر: «وللإمام زين العابدين وسيد الساجدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(عليه السلام)، رابع أئمة الشيعة الإمامية، الذي اتفق مؤرخو الإسلام على أنه من أشهر رجال التقوى والزهد والعبادة، وقد ذكر معظمهم أدعيته التي كان يناجي بها ربّه، وهي التي ضمّتها هذه المجموعة، وتبلغ «أربع وخمسون» دعاءً، وهي على جانب عظيم من الأهمية، ومن يتصفّحها ويتأمّل معانيها يعرف شيئاً عن مكانة الإمام(عليه السلام)، ويعني بها شيعة أهل البيت عنايةً بالغة، فقد سمّاها العلامة ابن شهرآشوب في «معالم العلماء» عند ترجمته للمتوكل بن عمير بزبور آل محمد»([9]). وعندها يضيف: «وبالنظر لعظيم مكانة الإمام ومزيد أهمية هذه الأدعية ألّفت الشروح الكثيرة لهذه الصحيفة، كما ألفت صحائف أخرى جمعت بقية أدعيته مما لم يذكر في هذه الصحيفة المسمّاة بالكاملة أو الأولى، وهي الصحيفة الثانية، والثالثة و..»([10])، ذاكراً أكثر من ستين شرحاً لهذا الأثر الخالد، وأهم تلك الشروح «رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين صلوات الله عليه»، تأليف العلامة الأديب والفاضل الأريب السيد علي خان الحسيني المدني الشيرازي(قدس سره)([11]). وقد حازت هذه المجموعة النورانية على شهرة الآفاق، وعطّرت مشام النفوس من روائح حِكَمِها، ومن أيام ذلك الإمام العظيم وحتى اليوم كانت الصحيفة أنيس أصحاب القلوب ومفتاح سرّ أهل الحال، ومرشد أهل المعرفة في سلوكهم، وظلّت لقرون وحقب متتالية تشعّ شمساً من الآفاق الرفيعة للحكمة والمعرفة، شعاعاً يربّي قلوب ويزيد أنفس أهل البصيرة. أما الإمام السجاد(عليه السلام)، صانع هذه الأثر العظيم ومبدعه، وهو واحد من أبقى ميراث أهل البيت(عليهم السلام)، فقد كان يعيش في ظروف صعبة وشاقة غير مساعدة، فلم يكن لديه من سبيل لتشكيل مجلس درسي أو حلقة للبحث والنقاش، ليرتوي عطاشى زلال المعرفة من نبعه الفياض الزاخر بالعلم والمعرفة، من هنا لم يكن من بدّ أمامه في نشر العلم والوعي، وبيان الحقائق الأصيلة الخالصة من زوايا مسجد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وخلف أعمدته، بعيداً عن أعين الحاسدين وجواسيس دولة ذلك الزمان، وذلك في حال من القنوت والتضرّع، ووسط تسبيحات الصلاة وتعقيباتها، لقد هيأ بذلك الفرصة لطلاب الحقيقة وعشاق البحث والساعين نحو المعرفة، ومن هنا لم تكن الصحيفة السجادية مجرد كتاب للدعاء بهدف قصد الثواب وطلب الحاجات، بل كانت كتاباً علمياً، وسياسياً، واعتقادياً، واجتماعياً، وتربوياً، وبعبارة أُخرى كانت مقولةً جامعة مستوعبة، كانت مدرسةً عامة، ومذهباً كبيراً، تستحق بذلك أن ينظر إليها بدقة وتأمل وعناية. ورغم أن ظاهر الصحيفة السجادية أنها على شاكلة خطاب لله سبحانه وحوار معه، وضمن سياق أو صورة من إعلان الحاجة وطلب العون الإنساني من الله سبحانه، إلاّ أنها ـ في الوقت عينه ـ تمثل نصاً متقناً للتدريس والتعليم الفلسفي، والعرفاني، والكلامي، والأخلاقي، والتربوي، وبعبارة أكثر شموليةً وعمقاً: إنه نصّ ديني أصيل خالص، إنه مجموعة من الانعكاسات المستمدّة من الوحي الإلهي المحمّدي. يكتب المغفور له آية الله المرعشي النجفي يقول: أرسلت عام 1353هـ نسخةً من الصحيفة السجادية الشريفة للعلامة المعاصر الجوهري، صاحب تفسير الطنطاوي، مفتي الاسكندرية، ليطالعها، وقد شكرني على هذه الهدية الرفيعة والوديعة الإلهية، ثم كتب لي مدحاً عارماً وثناءً كبيراً، مضمونه: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلني منذ مدة رسالة منكم مع كتاب الصحيفة لإمام الإسلام الزاهد علي زين العابدين بن الإمام الحسين الشهيد(عليه السلام)، ريحانة المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد استلمت الكتاب بيد الاحترام والتقدير، وتلقيته كتاباً فريداً، مستوعباً للعلوم والمعارف والحكم، مما لا يعثر على مثله في أي كتاب آخر، ومن الشقاء إلى الآن أننا لم نقف على هذا الأثر القيم الخالد من مواريث النبوّة، فكلّما طالعت في هذا الكتاب وفكرت في مفاهيمه العالية رأيته كتاباً فوقَ كلامِ المخلوق و دونَ كلام الخالق فما هذا الكتاب الحسن الرائع؟! منحكم الله على هذه العطية الكريمة أفضل الجزاء، ووفقكم لنشر العلم والإرشاد...»([12]). ويقول الشيخ سبط ابن الجوزي في خصائص الأئمة: «لولا علي لما تمت معارف المسلمين، ولما أدركوا دقائق التوحيد حيث إنه لم يسمح المجال للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم)لبيان تلك الأمور الدقيقة بأسرها». وقال أيضاً: «لولا علي زين العابدين(رضي الله عنه) وصحيفته لما علم أهل الإسلام طريق المخاطبة مع الله، والمكالمة معه في مقام عرض الحوائج، فهو الذي علمهم سبيل المحاورة مع الخالق الكريم، وبثّ الشكوى إليه في المهام والشدائد، فلهما رضي الله عنهما حق التعليم على الناس إلى يوم القيامة»([13]). ويكفي لأهمية الصحيفة السجادية لدى علماء مدرسة أهل البيت(عليهم السلام) ومؤمنيها المناصرين لها أنها تتلو القرآن وتضارع نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)في اهتمامهم بها والعناية بأمرها. واللافت أن في أوساط عائلتنا كان يروج بين آبائنا ـ وكانوا من العلماء الشيعة ـ تلاوة الصحيفة السجادية والتعمّق في مفاهيمها الراقية، وكانوا يسعون لإرواء أرواحهم العطشى من زلال معارفها، نعم، لقد كانت جزءاً من حياتهم الإيمانية، مثل تاريخ ولادته وأولاده الذي كان يدوّن في بداية هذا الأثر الخالد، وبهذا يحفظون في ذاكرة التاريخ تاريخ البلوغ التكليفي، وبداية تحمل التكاليف الدينية. اللهم أرشد قلوبنا إلى المعارف الإلهية والقرآنية للصحيفة، ووفقنا للقيام بما جاء به هذا الإمام العظيم من بيان عقلاني للشريعة المحمدية.
|