|
هل الموثّقة رواية واحدة أم روايتان؟
الجهة الاُولى: أنّ موثّقة سماعة مشتملة على الفقرتين المتعارضتين ـ قال: «حرامٌ بيعها وثمنها»، وقال: «لا بأس ببيع العذرة»([180]) ـ فيقع الكلام في أنّهما فقرتان من رواية واحدة، بأن صدرتا من الإمام(علیه السلام) في مجلس ومقام واحد، أم هما روايتان، صدرتا عن الإمام(علیه السلام) في مجلسين ومقامين وقد جمع سماعة بن مهران بينهما عند النقل. والتحقيق أن يقال: إنّهما روايتان مستقلّتان، جمع بينهما سماعة؛ وذلك لما يدلّ عليه من الشواهد الأربعة، كما ذكره سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه): أحدها: تكرار لفظ «قال» بين الفقرتين. ثانيها: ذكر العذرة بالاسم الظاهر في الفقرة الثانية، وعدم وضع الضمير موضعه، ولو كانتا رواية واحدة لكان على الإمام(علیه السلام) أن يقول: لا بأس ببيعها، بدل: «لا بأس ببيع العذرة». ثالثها: أنّ الراوي لها هو سماعة، الذي قيل في مضمراته([181]): إنّـه جمع روايات مستقلّات في نقل واحد، وقد سمّي المرويّ عنه في صدرها، وأضمر في البقيّـة، فيظهر منه أنّ دأبه الجمع في النقل عن روايات مستقلّة متفرّقـة ([182]). رابعها: بُعد صدور مثلها في كلام واحد، لمتكلّم كان في مقام الجدّ، لا الهزل واللغز والمعمّى، لا سيّما في المكالمات القانونيّـة ([183]). وأمّا القول بكونهما فقرتان من رواية واحدة، فقد وجّه بنحوين: أحدهما: ما اختاره العـلّامة المامقاني بقوله: والأقرب عندي حمل قوله(علیه السلام): «لا بأس ببيع العذرة» على الاستفهام الإنكاريّ، وقد وجدت في الوافي بعد ما سنح لي هذا الوجه كلاماً ظاهره الإشارة إليه، فإنّـه ذكر فيه ما نصّه: «ولايبعد أن تكون اللفظتان مختلفتين في هيئة التلفّظ، وإن كانتا واحدة في الصورة»([184]).([185]) ثانيهما: ما وجّهه الدراسات في المكاسب المحرّمة بقوله: قد يحتمل أن يرجع الضمير في «قال» الأوّل إلى السائل، ولعلّه كان مع الواو، فحذفه النسّاخ، فيكون قوله: «حرام بيعها وثمنها» من تتمّة السؤال بنحو الاستفهام، فأجاب الإمام(علیه السلام) بقوله: «لا بأس ببيع العذرة»، والواو في «وقال» زائدة أو مصحّفة من الفاء، وهذا النحو من الاشتباهات أو التصحيفات كثيرة في أخبارنا ([186]). وفي كلا الوجهين ما لا يخفى: فإنّ الوجهين مخالفان لظاهر الرواية، فلا يجوز المصير إليه بمجرّد الاحتمال من دون دليل وقرينة على ذلك، فإنّ هذا النحو من المكالمة، بأن يفيد المتكلّم مقصوده ـ كالاستفهام في المقام ـ بالإشارة وكيفيّـة التلفّظ، من دون استعمال أدوات الاستفهام بعيد، لا سيّما في المكالمات القانونيّـة، وبالأخصّ لمثل الإمام(علیه السلام) الذي يعلم بأنّ كلامه ينقل للآخرين نسلاً بعد نسل، ليستفاد منه كلمات الربّ وأحكامه والقوانين الشرعيّـة التي هي الطريق الوحيد لكسب السعادة في الدارين، مع أنّ الراوي لم يشر إلى أنّ الإمام(علیه السلام) أفاد الاستفهام بالإشارة وكيفيّـة التلفّظ، ولو كان، لكان على الراوي بيانه. وأضعف من ذلك: ما في الدراسات ممّا احتمله من حذف النسّاخ حرف الواو من «قال» الأوّل، وكون الواو في «وقال» الثانية زائدة أو مصحّفة من الفاء([187])، فإنّـه لا يصار إلى مثل تلك الاحتمالات المخالفة للاُصول العقلائيّـة في الكتابة، لا سيّما في كتب الحديث الذي كان مورداً لعناية الناقلين والباحثين من الدقّة في عدم الزيادة والنقيصة والتصحيف، ولو فتح باب هذه التوجيهات والتشكيكات في الروايات، لسار إلى كلّ المتنافيين؛ سواء كانا في كلام واحد أم في كلامين، ولزم منه تأسيس فقه جديد. وما ذكره (دام ظلّه) ـ من كثرة هذا النحو من الاشتباهات والتصحيفات في أخبارنا، مع أنّ عهدته كانت عليه، وهو أعلم بما قال، فإنّي ما وجدت في كتب الاستدلاليّـة تلك الكثرة والعناية إليها في مقام البحث عن الأخبار ـ لا تكون حجّة ودليلاً على خلاف الأصل، ما لم يدلّ عليه الدليل المعتبر. ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه) ذكر في مقام توجيه الموثّقة جمعاً آخر، وملخّصه: أنّ المراد بقوله: «حرامٌ بيعها وثمنها» هو الجامع بين الحرمة الوضعيّـة والتكليفيّـة، أعني الوضع بلحاظ البيع، والتكليف بلحاظ الثمن، فإنّ الحرمة المتعلّقة بالثمن لا يكاد يكون وضعيّاً؛ لعدم قبوله للصحّة والبطلان، فالمراد هو حرمة التصرّف في الثمن تكليفاً، وحرمة البيع وضعاً. وأيّده بأنّ الحرمة إذا تعلّقت بالعناوين التوصّليّـة الآليّـة ظاهرة في الوضعيّه، وإذا تعلّقت بالعناوين النفسيّـة ظاهرة في التكليفيّـة. والمراد من قوله: «لا بأس ببيع العذرة» نفي الحرمة التكليفيّـة بلحاظ البيع، فكأنّـه قال: يحرم بيعها وضعاً، ولا بأس به تكليفاً ([188]). لكنّـه غير تامّ؛ لتنافي حرمة ثمن البيع مع عدم البأس بذلك البيع، فإنّ البيع إذا كان ثمنه محرّماً ففيه البأس ولو من حيث ثمنه، فنفي البأس عنه على الإطلاق في غير محلّه. وفي الدراسات قد عكس الأمر، وقال: أنّ حمل قوله: «لا بأس ببيع العذرة» على نفي الحرمة التكليفيّـة فقط خلاف الظاهر جدّاً، بل الظاهر منه صحّة بيعها ونفوذه، كما أنّ الظاهر من قوله: «حرام بيعها وثمنها» بسبب ظهور لفظ الحرمة وبقرينة ضمّ الثمن إلى البيع هي التكليف فقط، ومقتضاه كون نفس البيع حراماً بحسب التكليف، صحيحاً بحسب الوضع، نظير البيع وقت النداء، أو مع نهي الوالدين. ثمّ أورد على نفسه بقوله: إلّا أن يقال: مع فرض صحّة البيع لا وجه لحرمته تكليفاً في المقام، ولا يجتمع معها أيضاً حرمة الثمن، فيرجع الأمر إلى أن يحمل الحرمة على الكراهة الشديدة، فتدبّر([189]). ويرد عليه قبل ما أورده نفسه على كلامه: أنّ «لا بأس» غير مناسب للصحّة؛ لأنّ البأس عبارة عن النقمة والعذاب. ففي مجمع البحرين: والبأس: العذاب، ومنـه قولـه تعالى: (لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا([190])؛ أي عذابنا، وقوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ»([191]).([192]) والنقمة والعذاب مناسب للحرمة التكليفيّـة، لا الوضعيّـة، فنفيه نفي التكليفيّـة، وكيف يحمل على الصحّة، مع عدم المحلّ لتوهّم البأس في الوضع؟ فتدبّر جيّداً. والذي يبدو إلى ذهني أنّ من المحتمل قويّاً كون الجملة الاُولى «حرام بيعها وثمنها» صدرت تقيّـة، والجملة الثانية «لا بأس ببيع العذرة» صدرت بياناً للحكم الواقعيّ، ولافرق في هذا القول بين أن يكون الجملتان فقرتين من رواية واحدة، أم كونهما روايتين مستقلّتين قد جمع بينهما سماعة في النقل. ويؤيّد هذا الاحتمال ويقرّبه: أنّـه لو كان بيع العذرة محرّماً لكان المناسب، بل المتعيّن للإمام المعصوم(علیه السلام) زجر السائل ـ بعد قوله: إنّي رجل أبيع العذرة، فما تقول ـ عن ذلك، ونهيه عن المنكر؛ لإخباره بارتكاب الحرام والمنكر على حرمة بيعها، ولو بأن يقول له: لا تفعل، حرام بيعها وثمنها، لا الاكتفاء على بيان الحكم فقط. --------------------- [180]. التهذيب 6: 373/1081، باب المكاسب، الحديث 202؛ الاستبصار 3: 56/183، باب النهي عن بيع العذرة، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 17: 175، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 40، الحديث 2. [181]. تقدّم تخريجه في الصفحة: 98ـ 99. [182]. تقدّم تخريجه في الصفحة: 99ـ 100. [183]. المكاسب المحرّمة 1: 13 ـ 14. [184]. الوافي 17: 283، ذيل الحديث 21. وفيه: «التلفّظ والمعنى». [185]. غاية الآمال في حاشية المكاسب 1: 16. [186]. دراسات في المكاسب المحرّمة 1: 257 ـ 258. [187]. تقدّم تخريجها قبل أسطر. [188]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 13. [189]. دراسات في المكاسب المحرّمة 1: 266. [190]. الغافر (40): 85. [191]. الحديد (57): 25. [192]. مجمع البحرين 4: 50، «بأس».
|