|
رواية تحف العقول
الرواية الاُولى: ثمّ إنّ الشيخ(قدس سرّه) ذكر في الابتداء، رواية تحف العقول، ونقلها عن الوسائل والحدائق، وحيث إنّ بين ما فيهما وما في تحف العقول بعض الاختلافات، فلابدّ لنا إلّا من نقلها عن الأصل، أي تحف العقول، كما لا يخفى. ففي تحف العقول: سأله [أي عن الإمام الصادق(علیه السلام)] سائل، فقال: كم جهات معايش العباد التي فيها الاكتساب والتعامل بينهم ووجوه النفقات؟ فقال(علیه السلام): «جميع المعايش كلّها من وجوه المعاملات فيما بينهم ممّا يكون لهم فيه المكاسب أربع جهات من المعاملات». فقال له: أ كلّ هؤلاء الأربعة الأجناس حلال، أو كلّها حرام، أو بعضها حلال وبعضها حرام؟ فقال(علیه السلام): «قد يكون في هؤلاء الأجناس الأربعة حلال من جهة، حرام من جهة، وهذه الأجناس مسمّيات معروفات الجهات. فأوّل هذه الجهات الأربعة: الولاية وتولية بعضهم على بعض، فالأوّل ولاية الولاة، وولاة الولاة إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على من هو وال عليه، ثمّ التجارة في جميع البيع والشراء بعضهم من بعض، ثمّ الصناعات في جميع صنوفها، ثمّ الإجارات في كلّ مايحتاج إليه من الإجارات، وكلّ هذه الصنوف تكون حلالاً من جهة وحراماً من جهة. والفرض من الله على العباد في هذه المعاملات، الدخول في جهات الحلال منها، والعمل بذلك الحلال، واجتناب جهات الحرام منها. تفسير معنى الولايات وهي جهتان، فإحدى الجهتين من الولاية ولاية ولاة العدل الذين أمر الله بولايتهم وتوليتهم على الناس، وولاية ولاته وولاة ولاته إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على من هو وال عليه. والجهة الأخرى من الولاية ولاية ولاة الجور وولاة ولاته إلى أدناهم باباً من الأبواب التي هو وال عليه. فوجه الحلال من الولاية، ولاية الوالي العادل الذي أمر الله بمعرفته وولايته والعمل له في ولايته، وولاية ولاته وولاة ولاته بجهة ما أمر الله به الوالي العادل بلازيادة فيما أنزل الله به ولانقصان منه ولا تحريف لقوله ولا تعدّ لأمره إلى غيره. فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له والعمل معه ومعونته في ولايته وتقويته حلال محلّل، وحلال الكسب معهم؛ وذلك أنّ في ولاية والي العدل وولاته إحياء كلّ حقّ وكلّ عدل وإماتة كلّ ظلم وجور وفساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه والمعين له على ولايته ساعياً إلى طاعة الله مقوّياً لدينه. وأمّا وجه الحرام من الولاية، فولاية الوالي الجائر وولاية ولاته: الرئيس منهم وأتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم باباً من أبواب الولاية على من هو وال عليه، والعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم حرام ومحرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير؛ لأنّ كلّ شيء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر؛ وذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس([42]) الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء والمؤمنين، وهدم المساجد وتبديل سنّـة الله وشرائعه. فلذلك حرم العمل معهم ومعونتهم والكسب معهم، إلّا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم والميتة. وأمّا تفسير التجارات في جميع البيوع ووجوه الحلال من وجه التجارات التي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز له. وكذلك المشتري الذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز له، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد وقوامهم به في أمورهم في وجوه الصلاح الذي لا يقيمهم غيره، ممّا يأكلون ويشربون ويلبسون وينكحون ويملكون ويستعملون من جهة ملكهم، ويجوز لهم الاستعمال له من جميع جهات المنافع التي لا يقيمهم غيرها من كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فهذا كلّه حلال بيعه وشراؤه وإمساكه واستعماله وهبته وعاريته. وأمّا وجوه الحرام من البيع والشراء، فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله وشربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا؛ لما في ذلك من الفساد، أو البيع للميتة، أو الدم، أو لحم الخنزير، أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش، أو الطير، أو جلودها، أو الخمر، أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام ومحرّم؛ لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله وشربه ولبسه وملكه وإمساكه والتقلّب فيه بوجه من الوجوه؛ لما فيه من الفساد، فجميع تقلّبه في ذلك حرام. وكذلك كلّ بيع ملهوّ به، وكلّ منهيّ عنه؛ ممّا يتقرّب به لغير الله، أو يقوّي به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي، أو باب من الأبواب يقوّي به باب من أبواب الضلالة، أو باب من أبواب الباطل، أو باب يوهن به الحقّ، فهو حرام محرّم، حرام بيعه وشراؤه وإمساكه وملكه وهبته وعاريته وجميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك. وأمّا تفسير الإجارات، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك أو يلي أمره من قرابته أو دابّته أو ثوبه بوجه الحلال من جهات الإجارات أن يوجر نفسه أو داره أو أرضه أو شيئاً يملكه فيما ينتفع به من وجوه المنافع، أو العمل بنفسه وولده ومملوكه أو أجيره من غير أن يكون وكيلاً للوالي، أو والياً للوالي، فلا بأس أن يكون أجيراً يؤجر نفسه أو ولده أو قرابته أو ملكه أو وكيله في إجارته؛ لأنّهم وكلاء الأجير من عنده، ليس هم بولاة الوالي، نظير الحمّال الذي يحمل شيئاً بشيء معلوم إلى موضع معلوم، فيحمل ذلك الشيء الذي يجوز له حمله بنفسه أو بملكه أو دابّته، أو يؤاجر نفسه في عمل يعمل ذلك العمل بنفسه أو بمملوكه أو قرابته أو بأجير من قبله. فهذه وجوه من وجوه الإجارات، حلال لمن كان من الناس ملكاً أو سوقةً أو كافراً أو مؤمناً، فحلال إجارته، وحلال كسبه من هذه الوجوه. فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة، نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم عليه أكله أو شربه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه أو لبسه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً، أو قتل النفس بغير حلّ، أو حمل التصاوير والأصنام والمزامير والبرابط والخمر والخنازير والميتة والدم، أو شيء من وجوه الفساد الذي كان محرّماً عليه من غير جهة الإجارة فيه، وكلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات، فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له، إلّا لمنفعة من استأجرته، كالذي يستأجر الأجير يحمل له الميتة ينحّيها عن أذاه أو أذى غيره، وما أشبه ذلك. والفرق بين معنى الولاية والإجارة، وإن كان كلاهما يعملان بأجر: أنّ معنى الولاية أن يلي الإنسان لوالي الولاة أو لولاة الولاة فيلي أمر غيره في التولية عليه وتسليطه وجواز أمره ونهيه وقيامه مقام الولي إلى الرئيس، أو مقام وكلائه في أمره وتوكيده في معونته وتسديد ولايته وإن كان أدناهم ولاية، فهو وال على من هو وال عليه، يجري مجرى الولاة الكبار الذين يلون ولاية الناس في قتلهم من قتلوا وإظهار الجور والفساد. وأمّا معنى الإجارة فعلى ما فسّرنا من إجارة الإنسان نفسه أو ما يملكه من قبل أن يؤاجر الشيء من غيره فهو يملك يمينه؛ لأنّـه لا يلي([43]) أمر نفسه وأمر ما يملك قبل أن يؤاجره ممّن هو آجره. والوالي لا يملك من أمور الناس شيئاً إلّا بعد ما يلي أمورهم ويملك توليتهم. وكلّ من آجر نفسه، أو آجر ما يملك نفسه، أو يلي أمره من كافر أو مؤمن أو ملك أو سوقة على ما فسّرنا ممّا تجوز الإجارة فيه فحلال محلّل فعله وكسبه. وأمّا تفسير الصناعات، فكلّ ما يتعلّم العباد أو يعلّمون غيرهم من صنوف الصناعات، مثل الكتابة والحساب والتجارة والصياغة والسراجة والبناء والحياكة والقصارة والخياطة وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الروحاني، وأنواع صنوف الآلات التي يحتاج إليها العباد التي منها منافعهم، وبها قوامهم، وفيها بلغة جميع حوائجهم، فحلال فعله وتعليمه والعمل به وفيه لنفسه أو لغيره، وإن كانت تلك الصناعة وتلك الآلة قد يُستعان بها على وجوه الفساد ووجوه المعاصي ويكون معونة على الحقّ والباطل، فلابأس بصناعته وتعليمه، نظير الكتابة التي هي على وجه من وجوه الفساد من تقوية معونة ولاة ولاة الجور. وكذلك السكّين والسيف والرمح والقوس وغير ذلك من وجوه الآلة التي قد تصرف إلى جهات الصلاح وجهات الفساد وتكون آلة ومعونة عليهما، فلابأس بتعليمه وتعلّمه وأخذ الأجر عليه وفيه والعمل به وفيه لمن كان له فيه جهات الصلاح من جميع الخلائق، ومحرّم عليهم فيه تصريفه إلى جهات الفساد والمضارّ، فليس على العالم والمتعلّم إثم ولاوزر؛ لما فيه من الرجحان في منافع جهات صلاحهم وقوامهم به وبقائهم، وإنّما الإثم والوزر على المتصرّف بها في وجوه الفساد والحرام. وذلك إنّما حرّم الله الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط والمزامير والشطرنج وكلّ ملهوّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلك من صناعات الأشربة الحرام وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون فيه ولا منه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجر عليه وجميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها، إلّا أن تكون صناعة قد تنصرّف إلى جهات الصنائع، وإن كان قد يتصرّف بها ويتناول بها وجه من وجوه المعاصي، فلعلّه لما فيه من الصلاح حلّ تعلّمه وتعليمه والعمل به، ويحرم على من صرفه إلى غير وجه الحقّ والصلاح. فهذا تفسير بيان وجه إكتساب معايش العباد وتعليمهم في جميع وجوه اكتسابهم...»،([44]) الحديث. قال الشيخ(قدس سرّه): «وحكاه [حديث تحف العقول] غير واحد، عن رسالة المحكم والمتشابة للسيّد(قدس سرّه)»([45]). أقول: الظاهر أنّ نظره في ذلك إلى نقل الوسائل والحدائق. قال في الوسائل: «و رواه المرتضى (عليه الرحمة) في رسالة المحكم والمتشابة، كما مرّ في الخمس ونحوه»([46]). وفي الحدائق: «و رواه المرتضى (عليه الرحمة) في رسالة المحكم والمتشابة»([47]). وما ذكروه عجيب؛ إذ ليس في المحكم والمتشابة من هذه الرواية عين ولا أثر. نعم، فيه نقلاً عن تفسير العمّاني، عن عليّ (علیه السلام) قال: وأمّا ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق وأسبابها فقد أعلمنا سبحانه ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة ووجه العمارة ووجه الإجارة ووجه التجارة ووجه الصدقات([48]). ثمّ شرح الوجوه الخمسة بما لا يرتبط بما في تحف العقول، فراجع كتاب الخمس من الوسائل([49])، وتفسير النعماني المطبوع بتمامه في البحار([50])، وذكر فيه بدلاً عن لفظ الإمارة لفظ «الإشارة»، والظاهر أنّـه غلطٌ. ---------------------- [41]. المائدة (5): 1. [42]. من داس الشيء؛ أي وطئه برجله، فيكون كناية عن إذلال الحقّ. وفي الوسائل: «دروس الحقّ»؛ راجع: الصحاح 1: 738، «دوس». [43]. الظاهر زيادة كلمة «لا» كما لا يخفى ويظهر ممّا بعده. [44]. تحف العقول: 331؛ جامع أحاديث الشيعة 22: 186، كتاب المعايش والمكاسب...، أبواب ما يكتسب به وما لايكتسب به، الباب 1، الحديث 16؛ وراجع أيضاً: وسائل الشيعة 17: 83، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 1. [45]. المكاسب 1: 12. [46]. وسائل الشيعة 17: 86، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 3، الحديث 1. [47]. الحدائق الناضرة 18: 70. [48]. رسالة المحكم والمتشابة: 57؛ وسائل الشيعة 9: 489 ـ 490، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس، الباب 2، الحديث 12. [49]. راجع: وسائل الشيعة 9: 483، كتاب الخمس، أبواب ما يجب فيه الخمس. [50]. بحار الأنوار 90: 46.
|