|
الإشكال في سند الرواية
فالرواية من حيث الدلالة تامّة، لكنّها من حيث السند عندي محلّ إشكال، بل منع؛ وذلك لما في السند محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، وهو مختلف فيه، فذهب بعض إلى توثيقه، وبعض إلى تضعيف ما رواه يونس بن عبد الرحمن عنه، وتصحيح ما سواه، وإنّي كنت في سالف الزمان معتقداً لوثاقته، تبعاً لسيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه)([588])، ثمّ لمّا راجعت كتب الرجال مجدّداً، ورأيت تضعيف النجاشي إيّاه، رأيت أنّ الاعتماد على رواياته مشكلٌ، لا سيّما مع كونه في سند أكثر من عشرين رواية الواردة في ذمّ زرارة، ففي سند كلّها محمّد بن عيسى بن عبيد اليقطيني. نعم ـ مع الغضّ عمّا ذكرنا ـ كان الرواية صحيحة بنظر سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه)، وضعيفة بنظر تلميذه الفاضل المحقّق، ولننقل عبارة مكاسبيهما، ونحوّل الحقّ إلى النظر والدقّة فيهما، وإن كان نظر التلميذ أقرب، بل هو الحقّ؛ لما فيه من بيان ما علّق الاُستاذ الصحّة عليه. قال سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه): والرواية صحيحة، ولا يضرّ بها جهالة أبي القاسم؛ لأنّ الراوي للكتابة والجواب هو محمّد بن عيسى، وقوله: قال: «كتبوا»، أي قال محمّد بن عيسى: كتب الصيقل وولده فهو مخبر لا الصيقل وولده، وإلّا لقال: كتبنا. واحتمال كون الراوي الصيقل مخالف للظاهر جدّاً، سيّما مع قوله في ذيلها: «وكتب إليه»، فلو كان الراوي الصيقل لقال: وكتبت إليه. وليس في السند من يتأمّل فيه، إلّا أحمد بن محمّد بن الحسن بن الوليد، ومحمّد بن عيسى بن عبيد، وهما ثقتان على الأقوى.([589]) وقال تلميذه المحقّق: أقول: احتمال كون القائل هو الصيقل حاكياً كتابة نفسه وولده ليس بعيداً عن اللفظ. وحكى في الآخر كتابة نفسه. والاُستاذ(رحمه الله) اعتمد على نسخة الوسائل ولم يراجع التهذيب ظاهراً مع أنّـه أصل. وعلى هذا، فصحّة الرواية غير واضحة ([590]). ومنها: رواية القاسم الصيقل، قال: كتبت إلى الرضا(علیه السلام): إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة، فيصيب ثيابي، فاُصلّي فيها؟ فكتب(علیه السلام) إليّ: «اتّخذ ثوباً لصلاتك». فكتبت إلى أبي جعفر الثاني(علیه السلام): كنت كتبت إلى أبيك(علیه السلام) بكذا وكذا، فصعب عليّ ذلك فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّـة الذكيّـة، فكتب إليّ: «كلّ أعمال البرّ بالصبر، يرحمك الله، فإن كـان ما تعمـل وحشيّـاً ذكيّـاً، فلا بأس»([591]). فإنّها أيضاً تدلّ على جواز الانتفاع من الميتة، حيث إنّ الإمام(علیه السلام) قرّر الصيقل فيما كان يصنـع من استعمال جلود الميتـة في أغماد السيوف. نعم، تـدلّ على أنّ تركـه أفضل. ومنها: رواية حسين بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبدالله(علیه السلام)، وأبي يسأله عن اللبن من الميتة، والبيضة من الميتة، وأنفحة الميتة، فقال: «كلّ هذا ذكيّ»، قال: فقلت له: فشعر الخنزير يعمل حبلاً، ويستقى به من البئر التي يشرب منها أو يتوضّأ منها، قال: «لا بأس به»([592]). ومنها: رواية زرارة، قال: سألت أبا عبدالله (علیه السلام) عن جلد الخنزير يجعل دلواً يستقى به الماء، قال: «لا بأس»([593]). ودلالتها على جواز الانتفاع بالنجس، أي جلد الخنزير وشعره ظاهرة. وتوهّم أنّ نظر السائل إنّما هو من حيث انفعال الماء، مدفوعٌ بأنّـه وسوسة، وأنّ الظاهر منهما أنّ السؤال فيهما عن جلد الخنزير دلواً، وشعر الخنزير حبلاً، للانتفاع بهما، ولو لاستقاء الزراعات والأشجار، من دون أن تكونا ناظرتين إلى عدم انفعال الماء القليل، لا سيّما مع ملاحظة ما يقال: من أنّ المتعارف في جعل الجلد دلواً هو جعله دلواً لسقي الأشجار والزراعات، فهما تدلاّن على جوازه. هذا، مع أنّ رواية حسين بن زرارة ناظرة إلى السؤال عن ملاقاة الحبل المفتول من شعر الخنزير لماء البئر، لا ملاقاته لماء الدلو، فلاحظ الرواية. ومنها: رواية حسن بن عليّ الوشّاء، قال: سألت أبا الحسن(علیه السلام) فقلت: جعلت فداك، إنّ أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها، قال: «هي حرام»، قلت: فنصطبح بها؟ قال: «أما تعلم أنّـه يصيب اليد والثوب، وهو حرام؟»([594]). فإنّ الرواية لمكان تعليل الحرمة بأنّـه: «يصيب اليد والثوب، وهو حرام» تدلّ على جواز الانتفاع من أليات الغنم المقطوعة من الحيّ ما لم يصب اليد والثوب. هذا، مضافاً إلى أنّ الحرمة في التعليل ليس على معناها الاصطلاحي، بل هي إرشاد إلى تنجيس اليد والثوب، وهو موجب لكلفة التطهير، أو محمولة على الكراهة؛ لبداهة أنّ نجاسة اليد والثوب ليست بحرام قطعاً. ومنها: صحيحة البزنطي صاحب الرضا(علیه السلام)، قال: سألته عن الرجل تكون له الغنم، يقطع من ألياتها وهي أحياء، أيصلح له أن ينتفع بما قطع؟ قال: «نعم، يذيبها ويسرج بها، ولا يأكلها ولا يبيعها»([595]). فالرواية تدلّ على جواز الانتفاع منها فيما لا يشترط فيه الطهارة، وعدم جوازها فيما يشترط فيه الطهارة، بإلغاء الخصوصيّـة من جواز الإسراج بها إلى جواز كلّ ما لا يشترط فيه الطهارة من المنافع، ومن حرمة أكلها وبيعها إلى حرمتهما لكلّ ما يشترط فيه الطهارة؛ قضاءً للمناسبة الارتكازيّـة الشرعيّـة، وللمقابلة الظاهرة في عدم الخصوصيّـة، وأنّ المقابلة والتفاوت إنّما تكون في الجواز والحرمة فحسب، من دون خصوصيّـة للمورد. ومنها: رواية دعائم الإسلام،...و عن عليّ(علیه السلام)، قال: سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) يقول: «لا ينتفع من الميتة بإهاب ولا عظم ولا عصب»، فلمّا كان من الغد خرجت معه فإذا نحن بسخلة مطروحة على الطريق، فقال: «ما كان على أهل هذه لو انتفعوا بإهابها»، قال: قلت يا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): فأين قولك بالأمس؟: لا ينتفع من الميتة بإهاب، قال: «ينتفع منها باللحاف الذي لا يلصق»([596]). وهي كما ترى حاكمة على كلّ ما دلّت على عدم جواز الانتفاع بجلد الميتة، بل بها مطلقاً، فإنّ الظاهر منها أنّ الانتفاع بالميتة لا محذور فيه، وإنّما المحذور من جهة السراية، ولعلّ الإلصاق كناية عنها. ويحتمل أن يكون المراد بالجلد الذي لا يلصق هو ما عولج بالملح والدباغ، فدلّت على عدم جواز الانتفاع قبله، لكنّها ضعيفة السند، وقد تقدّم في ذيل رواية عوالي اللئالي أنّـه قال في شاة ميمونة: «ألّا انتفعتم بجلدها»([597]). وهاهنا روايات اُخرى، تدلّ على جواز اللبس، ما تعرّضناها خوفاً من التطويل، واعتماداً بكونها مورداً للنقل وكيفيّـة الاستدلال بها في مكاسب سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه). ثمّ إنّـه لا يخفى عليك، عدم المعارضة بين الروايات الدالّة على المنع من الانتفاع عن الميتة مطلقاً، والروايات الدالّة على الجواز؛ لما بينهما من الجمع الدلاليّ الواضح، بحمل الظاهر منهما على النصّ والأظهر، فإنّ روايات المانعة ظاهرة في الحرمة، حيث كان المنع بجملة «لا ينتفع»، وهي ظاهرة في الحرمة وعدم الجواز؛ سواء كانت خبريّـة أو إنشائيّـة، وروايات الجواز نصّ في الجواز، أو أظهر من تلك الروايات، فيحمل ما دلّ على المنع على الكراهة الشرعيّـة، أو على الإرشاد إلى الكلفة والمشقّة بسبب النجاسة الحاصلة منها. وبذلك يظهر عدم الوجه لحمل الأخبار على التقيّـة، حيث إنّ الحمل عليها فرع التعارض وعدم الجمع الدلاليّ العرفيّ. وفي مكاسب سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه)، بعد جعله الإنصاف عدم المعارضة بين الروايات، وأنّ ما دلّت على الجواز له نحو حكومة على غيرها، وحمل أخبار الجواز على التقيّـة فرع المعارضة، ومع الجمع العقلائيّ لا مصير لذلك، ما لفظه: نعم، ما يمنعنا عن الجرأة إلى الذهاب إلى الجواز، هو دعاوي الإجماع، وعدم الخلاف، وعدم وجدانه([598]). لكنّـه ـ بعد الكلام مفصّلاً في نقل دعاوي الإجماع والشهرة والإشكال في تماميّتهما ونقل كلمات من الأعلام؛ من الصدوقين والشيخ، وجمع من المتأخّرين، وغيرهم على جواز الانتفاع بالميتة في محلّ البحث، ممّا تدلّ على عدم الإجماع ـ جعل الأشبه بعد ذلك، الجواز، والأحوط الترك ([599]). والسـرّ في ما قـاله سيّدنا الاُستاذ (سلام الله علیه)، من عدم الجرأة في الذهاب إلى الجواز، مع ادّعاء الإجماع، وعدم الخلاف، وعدم وجدانه الخلاف في المسألة، أنّ الروايات المانعة والمجوّزة لمّا كان بمرأى ومنظر أئمّة الفقه والحديث، وكان الجمع بينهما بحمل الظاهر على النصّ، أو بحمل الظاهر على الأظهر، واضحاً غير خفيّ، ومع ذلك لم يذهبوا إلى الجواز، بل ادّعي الإجماع وعدم الخلاف على المنع، بل لم نجد الخلاف منهم، كان ذلك منهم كاشفاً عن خلل في الطائفة المجـوّزة، الموجب لعدم حجّيّتها؛ وذلك إعـراض من الأصحاب عن هـذه الطائفـة، وإعـراض الأصحاب مسقط للروايـة عن الحجّيّـة، لوجهين: للدرايـة والروايـة. أمّا عدم حجّيّتها درايـة؛ فلأنّ الدليل على حجّيّـة خبر الواحد الثقة هو بناء العقلاء، وهذا البناء لا يجري في الأخبار التي لم يعمل بها ناقليه، بل عمل بما هو مخالف لذلك؛ فإنّ هذا منهم يكشف عن خلل فيها عندهم، لم يصل إلينا. وأمّا روايـة؛ فلأنّ المستفاد من التعليل في مقبولة عمر بن حنظلة ـ في وجه الأخذ بما هو المشهور بين الأصحاب، وترك الشاذّ النادر ـ : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»([600]) أنّ المشهور يؤخذ به؛ لأنّـه لا ريب في صحّته، وأنّ الشاذّ النادر يترك؛ لأنّـه لا ريب في بطلانه، فإنّ من المعلوم أنّـه إذا كان أحد المتخالفين لا ريب في صحّته، كان الآخر لا ريب في بطلانه؛ والظاهر أنّ الشهرة فيها هو الشهرة العلميّـة، لا الشهرة الروائيّـة، فإنّ نقل الرواية كثيراً ما يتّفق لدواعي آخر، مثل بقاء الآثار وبلوغه إلى اللاحقين، وأمثال ذلك، فلا يكون مجرّد اشتهار رواية من حيث النقل دليلاً على صحّتها؛ إذ رُبّ مشهور لا أصل له. وعلى ما ذكرنا، فإذا كان إحدى الروايتين مشهورة عملاً، فلابدّ من الأخذ به؛ عملاً بالمقبولة، وإن كان الآخر مشهورة روايـة، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه. وهذا هو السرّ في ما أفـاده (سلام الله علیه) بقـوله: «نعـم، ما يمنعنا عـن الجرأة...». ------------------ [588]. ولذا عبّر عن الرواية بالصحيحة، راجع: المكاسب المحرّمة 1: 73.
|