|
الطائفة الخامسة: الروايات الدالّة على تقسیم الغناء علی الغناء الحلال والحرام
الروايات التي تدلّ على أنّ الغناء على قسمين: حلالٌ وحرامٌ: فمنها: صحيحة أبي بصير، قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال».([868]) تقريب الاستدلال: إنّ جملة: «ليست بالتي يدخل عليها الرجال»، جيئت به في مقام التعليل لقوله(علیه السلام): «لا بأس به»، وليس لدخول الرجال على النساء خصوصيّـة بها يمتاز ذكرها، بل هي مذكورة في الرواية الشريفة بعنوان أحد المحرّمات والمعاصي، والاختصاص بالذكر في الرواية إنّما تكون لكونه مورداً للابتلاء، وعلی هذا تدل الرواية علی الحكم بالتحريم في كلّ غناء مقترن بالمحرّمات؛ لتنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّـة العرفيّـة دون غير المقترن بها، فإنّـه يکون حلالاً. ولك أن تقول: إنّه لا موضوعيّة لدخول الرجال، بل هو أحد مصاديق الإضلال عن سبيل الله، فالمعيار في حرمة الغناء هو كونه مضلاً عن سبيل الله ومقترناً ومصاحباً بأحد المحرّمات والمعاصي، وفي حلّيتها عدم کونها کذلك، دون غيرها ممّا لم تقترن بالحرام. ويشهد عليه الدراية، وحكم العرف بإلغاء الخصوصيّـة. ونحو الصحيحة رواية أخرى عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن كسب المغنّيات؟ فقـال: «التي يدخـل عليها الرجال حرامٌ، والتي تدعی إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قـول الله عـزّ وجـلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لـَهْوَ الـْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله﴾»([869]).([870]) لكن فيها ـ زائداً على الصحيحة ـ حكم الإمام(علیه السلام) بالمنطوق بحرمة كسب المغنّية التي يدخل عليه الرجال وجعله مصداقاً لاشتراء لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله، فالمستفاد منها أنّ المناط في حرمة الغناء هو كونه موجباً للإضلال، كما أنّ المستفاد من الصحيحة حرمة الغناء المقترن بالمحرّمات، كما بيّناه هذا. ولكن سيّدنا الاُستاذ الإمام (سلام لله علیه) استشكل في الاستدلال بهذه الرواية على التفصيل، الظاهر من المحدّث الکاشاني في الوافي، ومحكيّ المفاتيح، ومن الفاضل الخراساني في الكفاية: من أنّ الغناء على قسمين: حقٌّ وباطلٌ بقوله: ومنهـا: التمسّك بروايـات، عمدتها صحيحة أبي بصير، قال: قـال أبوعبدالله(علیه السلام): «أجر المغنّية التى تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال»،([871]) كذا في الوسائل عن المشايخ الثلاثة، وفي الفقيه، لكن في مرآة العقول([872]) «ليست» بسقوط الواو. بدعوى أنّ قوله: «وليست بالتي...» مشعرٌ بالعلّيّـة أو دالّ عليها، فتدلّ على أنّ المحرّم قسمٌ منه، وهو المقارن للمعاصي، كدخول الرجال على النساء. وفيه: أنّ في الرواية على نسخة إثبات الواو، احتمالاتٌ: كاحتمال أن تكون الجملة حاليّـة عن فاعل تزفّ. والمعنى: أنّ أجر المغنّية حلالٌ إذا تزفّ العرائس ولم يدخل الرجال على النساء، وأن تكون الجملة بمنزلة التعليل، فتدلّ على عدم حرمة الغناء بذاته، ويحرم أجر المغنّية لا للغناء، بل لدخول الرجال وسماع صوتها ورؤية وجهها وسائر حركاتها الملازمة له، وأن يكون المراد بها إفادة حرمة قسم من الغناء، وهو المقارن لدخول الرجال عليهنّ. فعلى الاحتمال الأوّل، تدلّ على استثناء قسم خاصّ منه، وهو الذي في العرائس مع الشرط المذكور. وعلى الثاني، تكون الرواية معارضة لجميع الأدلّة الدالّة على أنّ الغناء حرامٌ ومخالفٌ مضمونها للإجماع.([873]) وعلى الثالث، توافق كلام الكاشاني وموافقيه على إشكال، وهو أنّ الظاهر من قوله: «وليست بالتي...»، كون دخولهم عليهنّ بعنوانه موضوع الحكم، لا عنواناً مشيراً إلى نوع خاصّ من الغناء أو مجالس خاصّة، وهم لا يلتزمون بظاهر الرواية، ولا وجه لحملها على خلاف ظاهرها. ولا ترجيح ظاهر في أحد الاحتمالات المتقدّمة يمكن الاتّكال عليه، لو لم نقل بترجيح الأوّل حتّى يلتئم بين الأدلّة، أو الاحتمال الثاني في نفسه لولا مخالفته لما ذكرناه؛ لأنّ الظاهر من قوله: «لا بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال» أنّ الفساد مترتّب عليه وليس في الغناء بما هو فسادٌ، ولعلّ الحرمة في دخولهم لأجل كونهم أجنبيّاً يحرم التغنّي عندهم، لا لذات الغناء.([874]) ويمكن المناقشة فيما أفاده (سلام لله علیه) أوّلاً: بأنّ الاحتمالات في الرواية ليس بأزيد من احتمالين؛ لعدم كون جملة: «وليست بالتي يدخل...» إلخ، حالية؛ لأنّ كونه حالاً، مخالفٌ للقواعد العربيّـة. وذلك لوجوهٍ ثلاثـة، أوّلها: أنّ الحـال وصف فضـلة وبما أنّـه فضـلة لا مـن أركان الكلام، فيجوز حذفه ولا يختلّ أركان الكلام بحذفه. نعم، وجوده وإن كان فضلةً إلّا أنّـه موجبٌ لفهم ما يكون زائداً على أصل المرام، مثل جاء زيد راكباً، فإنّ راكباً حالٌ يجوز حذفه ولا يختلّ بحذفه أركان الكلام والمراد، وإن كان مفيداً لحال ذي الحال، وهذا بخلاف جملة: «وليست بالتي يدخل...» إلخ، فإنّ حذفه لايجوز؛ لاختلال المقصود بحذفه، إذ حذفه يفيد أنّـه لا بأس بالغناء مطلقاً، وهو خلاف مقصود الإمام(علیه السلام). ثانيها: أنّ الحال تدلّ على هيئة ذي الحال ومبيّن لحاله، كالركوب والبكاء والضحك والقيام والقعود التي من حالات الإنسان، فوقوعه في الكلام حالاً دلالة على هيئة الشخص وحاله، وهذا بخلاف جملة: «وليست بالتي...» إلخ، فإنّها لم تكن من حالات المغنّية؛ إذ دخول الغير عليها لا يكون من حالاتها، إلّا على نحو المجاز والوصف بحال المتعلّق. ثالثها: أنّ هذه الجملة لو كانت حالاً لفاعل تزفّ لكان الأنسب الإتيان به بعد: «تزفّ العرائس» وقبل «ليس به بأس» بأن كانت الرواية هكذا: أجر المغنّية التي تزفّ العرائس وليست بالتي يدخل عليها الرجال ليس به بأس. وثانياً: بأنّ كون هذه الجملة بمنزلة التعليل لايدلّ على عدم حرمة الغناء، فإنّ العلّة إنّما يجيء بها لإثبات الحكم للمعلول، لإثبات الحكم لنفس العلّة، وإن کانت مشترکة مع المعلول في الحکم، بل لابدّ من الاشتراك وإلّا يکون التعليل عليلاً، فقوله مثلاً: «لاتشرب الخمر؛ لأنّـه مسكر» يکون لبيان حرمة الخمر، لا الحرمة على نفس المسكر فضلاً عن کونه لإثبات حرمته فقط، فالعلّة واسطة لإثبات الحكم على المعلول، فعلی هذا، فإنّ جملة: «وليست بالتي...» أتى بها لإثبات حكم أجر المغنّية، ولم يكن عنوان المغنّية عنواناً مشيراً؛ لأنّ الأصل في العناوين هو الموضوعيّـة لا المشيريّـة، والحمل على المشيريّـة لا يصار إليه إلّا بالدليل. وثالثاً: بأنّ لأبي بصير في هذا الموضوع روايات ثلاثة لکنّ الظاهر أنّها ليست إلّا رواية واحدة بقرينة وحدة الراوي والمرويّ عنه ووحدة الموضوع والمحمول، غاية الأمر نقل تارة على نحو التفصيل وأخرى على نحو الاختصار. وعليه، فهذه الروايات بعضها تكون مفسّرة للبعض الآخر. ومنها: رواية عليّ بن أبي حمزة، عن أبي بصير، قال: سألت أبا جعفر(علیه السلام) عن كسب المغنّيات؟ فقال: «التي يدخل عليها الرجال حرامٌ، والتي تدعی إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول الله عزّوجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لـَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾»([875]).([876]) والرواية تدلّ على أنّ الغناء على قسمين: قسمٌ محرّمٌ، وهو الغناء الذي معه حرامٌ، وقسمٌ محلّلٌ، وهو الذي ليس معه حرامٌ، لا أنّ الغناء محرّمٌ مطلقاً واستثني منه ما ليس معه حرامٌ، وذلك لوجهين: أحدهما: إنّ أبي بصير سأل عن كسب المغنّيات على نحو الكلّي، ولكنّ الإمام(علیه السلام) في الجواب فصّل بين الغناء الذي معه حرامٌ والذي ليس معه حرامٌ، وهذا التفصيل منه(علیه السلام) يدلّ علی عدم حرمة الغناء مطلقاً، وإلّا كان المناسب، بل المتعيّن للإمام(علیه السلام) أن يجيب بأنّ الغناء حرامٌ، إلّا أن تدعى إلى الأعراس، لا الجواب بالتفصيل. ثانيهما: إنّ الإمام(علیه السلام) بعد الجواب بالتقصيل بالغناء المحلّل والمحرّم، استدلّ لما قاله(علیه السلام) بالآية الشريفة بعنوان الكبری الكلّي؛ أي ما يكون داخلاً في الآية الشريفة ويكون من لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله فهو محرّمٌ، وما لايكون من مصاديق الإضلال في سبيل الله، لا يكون محرّماً. ------------------------ [868]. الكافي 5: 120، باب كسب المغنّية وشرائها، الحديث 3؛ من لا يحضره الفقيه 3: 98 /376، باب المعايش والمكاسب و...، الحديث 24. وفيه مع إضافة في صدر الحديث؛ تهذيب الأحکام 6: 357/1022، باب المكاسب، الحديث 143؛ والاستبصار 3: 62/205، باب أجر المغنّية، الحديث 5؛ وسائل الشيـعة 17: 121، كتاب التجارة، أبـواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3. [869]. لقمان (31): 6. [870]. الكافي 5: 119، باب كسب المغنّية وشرائها، الحديث 1؛ تهذيب الأحکام 6: 358/ 1024، باب المكاسب، الحديث 145؛ الاستبصار 3: 62/207، باب أجر المغنّية، الحديث 7؛ وسائل الشيعة 17: 120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 1. وفيه: «أبا عبدالله» بدل «أبا جعفر». [871]. الكافي 5: 120، باب كسب المغنيّـة وشرائها، الحديث 3؛ من لا يحضره الفقيه 3: 98/376، باب المعايش والمكاسب و...، الحديث 24، مع إضافة في صدر الحديث؛ تهذيب الأحکام 6: 357/1022، باب المكاسب، الحديث 143؛ الاستبصار 3: 62/205، باب أجر المغنّية، الحديث 5؛ وسائل الشيعة 17: 121، كتـاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحديث 3. [872]. مرآة العقول 19: 80، باب كسب المغنيّـة وشرائها، الحديث 3. [873]. الخلاف 6: 307، المسأله 55. [874]. المكاسب المحرّمة 1: 323 ـ 325. [875]. لقمان (31): 6. [876]. الكافي 5: 119، باب كسب المغنّية وشرائها، الحديث 1؛ تهذيب الأحکام 6: 358/1024، باب المكاسب، الحديث 145؛ والاستبصار 3: 62/207، باب أجر المغنّية، الحديث7؛ وسائل الشيعة 17:120، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 15، الحـديث 1. وفيـه: «عـن أبا عبـدالله(عليه السلام)».
|