|
الأمر الثالث في الوجوه والأقوال في حرمة الغناء علی نحو الاختصار
ذکر الفقهاء في الاستدلال علی الحرمة وجوهاً کثيرة، کما أنّ أقوالهم أيضاً کثيرة مختلفة کما يظهر من المستند([760]) ومتاجر الرياض([761]) وغير ذلك من كلمات الأصحاب المشتملة على دعوى الإجماع والضرورة على حرمة الغناء. فمن الوجوه: أنّـه لا دليل على حرمة الغناء إلّا السنّـة والروايات، وهي مستفيضة أو متواترة: منها: أنّ الدليل على الحرمة منحصر بالإجماع والشهرة، أمّا الروايات فلم يرد رواية صحيحة صريحة في التحريم، كما ذهب إليه المقدّس الأردبيلي(قدس سره)، حيث قال: ولكن ما رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم، ولعلّ الشهرة تكفي مع الأخبار الكثيرة، بل الإجماع على تحريم الغناء، والتخصيص يحتاج إلى دليل. ويمكن أن يقال: الأخبار ليست بحجّة، وإنّما الإجماع والشهرة مع القيدين.([762]) والإشكال عليه بأنّ المحقّق الأردبيلي نفسه قد ذكر روايتين صريحتين في التحريم بقوله: وما في الفقيه ـ في حدّ شرب الخمر ـ في ذيل ما نقل عن الصادق(علیه السلام): «والغناء ممّا أوعد الله عليه النار، وهو قوله عزّوجلّ:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾»([763]).([764]) وسئل الصادق(علیه السلام)، عن قول الله عزّوجلّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَـوْلَ الزُّورِ﴾([765]) قـال: «الرجس من الأوثان، الشطرنج وقـول الزور الغناء...».([766]) والأولى تدلّ على أنّها كبيرة.([767]) وهذا يناقض قوله: «ما رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم». مخدوشٌ([768])بأنّ فيهما الخدشة من حيث السند، فنفي رؤيته متعلّق بهما معاً، فبانتفاء أحدهما يحصل انتفائهما، نحو ما يحصل بانتفائهما معاً؛ فإنّ المركّب ينفي بانتفاء بعض أجزائه، كما ينفي بانتفاء كلّ أجزائه. إن قلت: إنّـه لا يحتاج في باب الحجج والأدلّة إلى الصراحة، بل يكفي فيها الظهور أيضاً، فلا مجال لقوله: «ما رأيت رواية صحيحة صريحة في التحريم». قلت: من البعيد أن يكون مراده من الصريح هو الصريح الاصطلاحي حتّی يرد عليه الإشكال، بل يمكن أن يقال: إنّ مراده من الصريح هو ما يشمل الظاهر أيضاً. والشاهد عليه: أنّـه لم يقل رواية ناصّة، ولو كان مراده من الصراحة هو الصراحة الاصطلاحيّـة كان الأنسب أن يعبّر عنه بالنصوصيّـة؛ لما ورد في التعابير التقابل بين النصّ والظاهر. ومنها: أنّ الدليل على حرمتها هو الكتاب والسنّـة والإجماع، وأمّا العقل فلا دلالة له على حرمة الغناء. ومنها: ما ذهب إليه صاحب الجواهر من الاستدلال بالأدلّة الأربعة على حرمة الغناء، قال(قدس سره): ومنه أيضاً الغناء بالكسر والمدّ، ككساء، بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، والسنّـة متواترة فيه، وفيها ما دلّ على أنّـه من اللهو واللغو والزور المنهيّ عنها في كتاب الله، فيتّفق حينئذٍ الأدلّة الثلاثة على ذلك، بل يمكن دعوى كونه ضروريّاً في المذهب...، بل قيل: إنّ تحريم الغناء كتحريم الزنا أخباره متواترة، وأدلّته متكاثرة، عبّر عنه بقول الزور ولهو الحديث في القرآن، ونطقت الروايات بأنّـه الباعث على الفجور والفسوق، فكان تحريمه عقليّاً لا يقبل تقييداً ولا تخصيصاً.([769]) والحقّ هو الوجه الأوّل؛ من أنّ الدليل على حرمة الغناء منحصر بالسنّـة والروايات الواردة في المقام؛ وذلك لعدم دلالة العقل والكتاب والإجماع علی حرمتها. أمّا عدم دلالة العقل، فلعدم حكم العقل على منع الغناء. وما استدلّ به من أنّ الغناء باعث إلى الفسق والفجور، والعقل يحكم بقبح كلّ ما ينجرّ إلى الفسق والفجور، مدفوعٌ أوّلاً: بأنّ العقل لا يحكم بقبح ما يكون مقدّمة إلى المحاظير الشرعيّـة أو العقليّـة، بل يحكم بقبح نفس ذي المقدّمة من المحاظير الشرعيّـة أو العقليّـة. وثانياً: لو كان نفس إمكان الانجرار إلى الفسق والفجور كافياً في قبحه عقلاً، للزم الحكم بقبح أكل الأطعمة والأشربة المقوّية المنعضة؛ لإمكان انجراره إلى الفسق والفجور، وكذلك للزم الحكم بقبح الألعابات وما يوجب السرور؛ لإمكان انجرارها إلى المحرّمات الشرعيّـة أو العقليّـة، ولا أظنّ أحداً أن يلتزم به. وأمّا عدم دلالة الكتاب على التحريم، فلأنّ الكتاب غير متعرّض لحكم الغناء، ولا تدلّ بنفسه على التحريم. والاستدلال بالكتاب لأجل الروايات الواردة المفسّرة والحاكمة بانطباق ﴿قَوْلَ الزُّورِ﴾،([770]) و﴿لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾([771]) على الغناء، استدلال بالروايات، لا بالكتاب؛ إذ الحجّة حينئذٍ هو الروايات، بحيث لو كان الرواية حجّة تمّ التحريم، ومع عدم حجيّتها لا يمكن الحكم بالتحريم، فالحجيّـة دائر مدار الروايات الواردة المفسّرة، لا الكتاب. وأمّا عدم كون الإجماع دليلاً في المسألة، فلأنّ الإجماع وارد في مصبّ الروايات الكثيرة المستفيضة أو المتواترة، فالإجماع مدركيّ، والإجماع المدركيّ لا يكون حجّة ودليلاً. فالدليل على الحرمة منحصر بالسنّـة والروايات الواردة في المقام. -------------------- [760]. ففي المستند بعد أن ذکر موضوع الغناء قال: «فلا خلاف في حرمة ما ذکرنا أنّـه غناء قطعاً»؛ (مستند الشيعة 14: 126). [761]. وفي متاجر الرياض قال: «والغناء وهو مدّ الصوت المشتمل علي الترجيع المطرب، أو ما يسمّي في العرف غناء وإن لم يطرب؛ سواء کان في شعر أو قرآن أو غيرهما علي الأصحّ الأقوي، بل عليه إجماع العلماء، کما حکاه بعض الأجلّاء، وهو الحجّة». (رياض المسائل 8: 155). [762]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 59. [763]. لقمان (31): 6. [764]. الکافي 6: 631، باب الغناء الحديث4؛ من لا يحضره الفقيه 4: 41/134، باب حدّ شرب الخمر وما جاء في الغناء والملاهي، الحديث 6؛ وسائل الشيعة 304:17، أبواب ما يکتسب به، الباب 99، الحديث 6. [765]. الحجّ (22): 30. [766]. الکافي 6: 435، باب النرد والشطرنج، الحديث 2؛ من لا يحضره الفقيه 4: 41/135، باب حدّ شرب الخمر وما جاء في الغناء والملاهي، الحديث 7؛ وسائل الشيعة 17: 308، أبواب ما يکتسب به، الباب 99، الحديث 20. [767]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 58. [768]. خبرٌ لقوله1: «والإشكال عليه بأنّ المحقّق الأردبيلي...». [769]. جواهر الكلام 22: 44 ـ 49. [770]. الحجّ (22): 30. [771]. لقمان (31): 6.
|