|
الجهة السابعة: مالکیّـة الرشوة
هل يجب على آخذ الرشوة ردّ عينها مع بقائها، وردّ بدلها من المثل أو القيمة مع تلفها، أم كان الوجوب مختصّاً بردّ العين مع بقائه دون ردّ البدل مع تلفه، أم لا يجب مطلقاً، أم يجب إذا دفعه على وجه الرشوة دون ما إذا كان الدفع بعنوان الهديّـة والهبة؟ وجوهٌ واحتمالاتٌ. والظاهر أنّـه لا إشكال ولا خلاف بين الأصحاب في وجوب ردّ العين مع بقائه ومع علمه بحرمة أخذ الرشوة؛ لعدم صيرورة المال ملكاً للآخذ للرشوة، بل كان باقياً على ملك دافعها، وردّ مال الغير واجبٌ. وإنّما الكلام والإشكال في وجوب ردّ البدل وضمانه بالنسبة إلى المثل أو القيمة مع التلف، فالحقّ البيّن فيه الضمان؛ بما دلّ على ضمان اليد العادية. والإشكال عليه بأنّ المالك قد أقدم على تمليكه المال مع رضاه بذلك، وسلّطه عليه عصياناً للشارع، مع علمه بعدم صيرورته ملكاً للآخذ، ومع ذلك، أنّ المال وإن كان ملكاً للدافع؛ لحكم الشارع بفساد هذه المعاملة، إلّا أنّـه لا دليل على وجوب ردّ العين مع بقائه إليه وردّ بدله مع تلفه، فإنّ دفعه إليه وتسليطه عليه كان مع الرضاء والرغبة. فـيد المرتشی ليست يداً غاصبة عادية. مدفوعٌ بأنّ أدلّة حرمة الرشوة،([528])و«عدم جواز أكل مال الغير بالباطل»، و«أنّ الله إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فيها، الدالّة على فساد هذه المعاملة وبعدم اعتبار هذا النوع من الرضاء، فتكون حاكمة على أدلّة جواز أكل مال الغير مع رضاه، وإلّا فيلزم عدم بقاء المورد لتلك الأدلّة، كما يظهر بتدبّر مّـا. وعلى هذا، فالتمليك والتسليط والرضاء، كذلك يكون وجودها كعدمها، فيجب ردّ العين مع بقائه، وردّ بدله مع تلف العين. هذا كلّه إذا كان الدفع والإعطاء بعنوان الرشوة. وبما حقّقناه في الضمان، يظهر الضمان فيما إذا كان ذلك بعنوان الهديّـة والهبة أيضاً، وضعف ما ذهب إليه الشيخ الأعظم من عدم الضمان فيهما بقوله: ولو لم يقصد بها المقابلة، بل أعطى مجّاناً ليكون داعياً على الحكم، وهو المسمّى بالهديّـة ـ فالظاهر عدم ضمانه؛ لأنّ مرجعه إلى هبة مجّانيّـة فاسدة، إذ الداعي لا يعدّ عوضاً، و«ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده». وكونها من «السحت» إنّما يدلّ على حرمة الأخذ، لا على الضمان. وعموم «على اليد» مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني، ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.([529]) وجه الضعف أنّ المستفاد من الروايات، عدم الفرق بين الشرط والداعي فيما إذا صار الشيء محرّماً وباطلاً، فإنّ ما يترتّب على الجعل والشرط يترتّب على الداعي أيضاً؛ إذ لا فرق بين دفع المال إلى القاضي بشرط الحكم بنفع الدافع وبين بذل المال إليه بداعي ذلك وبناء الطرفين عليه من دون أن يشترط في ضمن البذل والدفع. فالأكل بكليهما، أكل المال بالباطل فيكون موجباً للضمان، بحكم العقل والعقلاء؛ لعدم الفرق بينهما، لأنّ العقل يحكم بقبح كلا الفرضين؛ لاشتماله على الظلم على الغير، والظلم قبيحٌ عقلاً وممنوعٌ عُقلاءً، مع أنّ العقلاء يحكمون بأنّـه أكل مال بالباطل، فيشمله الآية الشريفة: ﴿لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إلّا أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاض﴾.([530]) وأمّـا الروايـات، فمنها: صحيحـة ابن أبي عمير، عن هشـام وغيره، عـن أبي عبدالله(علیه السلام) في الرجل تدفع إليه امرأته المال، فتقول له: إعمل به واصنع به ما شئت، أ له أن يشترى الجارية يطأها؟ قال(علیه السلام): «لا، ليس له ذلك».([531]) ومنها: رواية حفص بن البختري، عن الحسين بن المنذر، قال: قلت لأبي عبدالله(علیه السلام) دفعت إليّ امرأتي مالاً أعمل به، فأشتری من مالها الجارية أطأها؟ قال: فقال: «أرادت أن تقرّ عينك وتسخن عينها».([532]) ورواه الصدوق(قدس سره) بإسناده عن حفص بن البختري، إلّا أنّـه قال: أعمل به ما شئت ـ إلى أن قال: ـ فقال: «لا، أنّها دفعت إليك لتقرّ عينها، وأنت تريد أن تسخن عينها».([533]) ففي هذه الروايات دلالة على عدم جواز اشتراء الجارية ليطأها من ماله الذي وهبته زوجته، مع أنّ الزوجة لم يشترط في الهبة أن لا يصرفها في ذلك، بل كان عدم الاشتراء داعياً تقديريّاً لها، فالمستفاد منها أنّ الداعي التقديري أيضاً كالشرط في ضمن العقد في إيجابه الحرمة مع مخالفة الشرط وترك العمل به. وأمّا استدلاله بقاعدة: «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده»، فغير تامّ؛ لعدم كون القاعدة حجّة، لعدم كونها منصوصة، بل هي مستفاد ومستنقذ من الأدلّة الواردة في الضمان، فالمعتبر هو مدركها لا نفسها، وتلك الأدلّة لا دلالة فيها على عدم الضمان فى مثل الهبة الفاسدة، كما يظهر للمراجع إليها. وأمّا قوله من:«أنّ السحت إنّما يدلّ على الحرمة لا الضمان»، فمدفوعٌ بأنّ الحرمة مستلزمٌ لعدم الملكيّـة بالملازمة العقلائيّـة، فهذا المال المبذول ـ كما أنّـه حرامٌ عليه ـ كذلك غير ملك له أيضاً. وأمّا قوله بأنّ: «عموم على اليد مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني، ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير المقام»، ففيه: أنّ الشارع الأقدس قد جعل هذا التسليط المجّاني كالعدم؛ لما مرّ، فلا يؤثّر شيئاً، فيكون المال ملكاً للباذل ويضمنه الآخذ.
------------------- [528]. تقدّمت أدلّة حرمة الرشوة في الصفحة 145 وما بعدها. [529]. المكاسب 1: 249. [530]. النساء (4): 29. [531]. تهذيب الأحکام 6: 346/975، باب المكاسب، الحديث 96؛ وسائل الشيعة 17: 269، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 81، الحديث 1. [532]. تهذيب الأحکام 6: 347/976، باب المكاسب، الحديث 97؛ وسائل الشيعة 17: 270، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 81، الحديث 2. [533]. من لا يحضره الفقيه 3: 121/520، باب التجارة وآدابها و...، الحديث 16؛ وسائل الشيعة 17: 270، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 81، ذيل الحديث 2.
|