|
الجهة السادسة: حرمة الهديّـة إلى الحكّام
الهديّـة إلى الحاكم والقاضي هل تكون حراماً مثل الرشوة أم لا؟ والتحقيق: أنّ الهديّـة إلى الحكّام والقضاة أيضاً محرّمة كالرشوة؛ لتنقيح المناط، وإلغاء الخصوصيّـة، فإنّ المفاسد المترتّبة على الرشوة مترتّبة على الهديّـة إلى القضاة أيضاً، مع أنّـه يمكن أن يقال: إنّ الهديّـة إلى القضاة رشوة حقيقة وإن لم تسمّ باسم الرشوة؛ لعدم الفرق بينهما من حيث الحقيقة والماهيّـة، فإنّ الرشوة هي ما يبذل ليحكم له، والهديّـة هي ما تبذل لإيراث الحُبّ المحرّك له في المستقبل على الحكم على وفق مطلبه. هذا مضافاً إلى ما ورد من «أنّ هديّـة الولاة والعمّال غلولٌ».([481]) وما ورد في نهج البلاغة عن عليّ(علیه السلام)، قال: «وأعجب من ذلك طارق طَرَقنا بملفوفة في وعائها، ومَعجونة شَنِئتها كأنّما عُجنت بريق حيّـة أو قَيئها، فقلت: أ صِلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا ولا ذاك، ولكنّـها هَدِيّـة. فقلت: هَبِلتك الهَبول، أ عن دين الله أتيتني لِتخدعني، أ مُختبط أنت، أم ذو جِنّـة، أم تَهجُر؟ والله لو أُعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة أسلُبها جُلب شعيرة ما فعَلته، وإنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فَم جَرادة تَقضَمها، ما لعليّ ولنعيم يَفنى، ولذّة لا تبقى. نعوذ بالله من سُبات العقل، وقبح الزلل، وبه نستعين».([482]) قال الشيخ الأعظم(قدس سره): وأمّا الهديّـة، وهي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودّة الموجبة للحكم له؛ حقّاً كان أو باطلاً، وإن لم يقصد المبذول له الحكم إلّا بالحقّ إذا عرف ـ ولو من القرائن ـ أنّ الأوّل قصد الحكم له على كلّ تقدير، فيكون الفرق بينها وبين الرشوة: أنّ الرشوة تبذل لأجل الحكم، والهديّـة تبذل لإيراث الحُبّ المحرّك له على الحكم على وفق مطلبه، فالظاهر حرمتها؛ لأنّها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط. وعليـه، يحمـل ما تقـدّم من قـول أميرالمؤمنين(علیه السلام): «وإن أخذ ـ یعني الوالي ـ هديّـة كان غلولاً».([483]) وما ورد من أنّ «هدايا العمّال غلولٌ».([484]) وفي آخر: «سحتٌ».([485]) وعن عيون الأخبار، عن مولانا أبي الحسن الرضـا(علیه السلام)، عن أمير المؤمنين(علیه السلام) في تفسير قـوله تعالى: {أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾،([486]) قال: «هو الرجل يقضي لأخيه حاجته، ثمّ يقبل هديّته».([487]) وللروايات توجيهات تكون الرواية على بعضها محمولة على ظاهرها من التحريم، وعلى بعضها محمولة على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه، لئلّا يقع في الرشوة يوماً.([488]) وقال صاحب الجواهر: وفي غير واحدٍ من كتب الأصحاب أنّـه قيل: يحرم على الحاكم قبول الهديّـة إذا كان للمُهدي خصومة في المآل؛ لأنّـه يدعو إلى الميل وانكسار قلب الخصم، وكذا قيل: إذا كان ممّن لم يعهد عنه الهديّـة له قبل تولّى القضاء؛ لأنّ سببها العمل ظاهراً. وفي الخبر: «هدايا العمّال غلولٌ». وفي آخر: «سحتٌ». لكن في الرياض([489]) وغيره بعد نقله: أنّـه أحوط، وإن كان في تعيينه، ولاسيّما الأوّل نظر؛ للأصول، وقصور سند الخبرين، وضعف الوجوه الاعتباريّـة، مع عدم تسمية مثله رشوة. وأمّا النصوص، فهي وإن كان كثير منها في الرشاء في الحكم، لكن فيها ما هو مطلق لايحكم عليه الأوّل؛ لعدم التنافي بينهما. اللهمّ إلّا أن تفهم القيديّـة، فيتنافي حينئذٍ مفهومه مع المطلق، لكنّـه كما ترى.([490]) ------------------ [481]. راجع: ثواب الأعمال: 308؛ ووسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10. وفيه: «وإن أخذ هديّـة كان غلولاً»؛ و27: 223، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 6. وفيه: «هديّـة الاُمراء غلول». [482]. نهج البلاغة: 347، الخطبة: 224. [483]. ثواب الأعمال وعقاب الأعمال: 308، عقاب والٍ يحتجب عن حوائج الناس؛ وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 10. [484]. الأمالي (للطوسي): 262، المجلس العاشر، الحديث 17؛ وسائل الشيعة 27: 223، کتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 6. وفيه: «هديّـة الأمراء غلول». [485]. راجع: الكافي 5: 126و127؛ باب السحت، الحديث 1و3؛ تهذيب الأحکام 6: 368 / 1062، بـاب المكاسب، الحديث 183؛ و6: 352 / 997، باب المكاسب، الحديث 118؛ وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 1و2 و3. [486]. المائدة (5): 42. [487]. عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 31، باب فيما جاء عن الرضا(عليه السلام)، الحديث 16؛ وسائل الشيعة 17: 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 11. [488]. المكاسب 1: 246 ـ 247. [489]. رياض المسائل 8 : 182. [490]. جواهر الكلام 22: 147 و148.
|