|
بحثٌ اعتقاديٌّ حول تأثير الأسباب في المسبّبات
وتنقيح البحث فيه يتمّ برسم أمرین: الأمر الأوّل: إنّ الاعتقاد بالتوحيد يقتضي القول بأن لا مؤثّر في الوجود إلّا الله، وأنّـه تعالى مسبّب الأسباب، وسببيّـة كلّ سبب ينتهي إليه تعالى، هو خالق كلّ شيء وجاعله وعلّة إيجاده، وهو خالق سببيّـة كلّ سبب وجاعلها، فإنّ تأثير الأسباب في المسبّبات والعلل في المعاليل مستندٌ إلى ذات الباري تعالى، حيث إنّ الله تبارك وتعالى هو الذي أعطى السببيّـة إلى كلّ سببٍ وعلّة. هو الذي جعل في الماء والتراب خاصيّـة نبت الأشجار والزراعات ليحصل منهما الفواكه والثمار. هو الرازق؛ لأنّـه الذي جعل في العوامل الطبيعيّـة هذا الأثر، وأنّـه الذي أعطى الزارع قوّة أن يعدّ ما يوجب نبت الأشجار والزراعات، فالرازقيّـة مستندٌ إلى الله تعالى؛ لأنّـه علّة العلل، وإن صحّ استنادها إلى الزارع من حيث وقوعه في سلسلة علل إيجاد الفواكه والزراعات. فالله تبارك وتعالى هو العلّة الأوّلي لكلّ شيء، وعلّيّـة كلّ علّة لابدّ وأن تنتهي إليه تبارك وتعالى، من دون فرقٍ بين أن نعلم بالعلل الوجوديّـة لوجود شيء خاصّ، أم لم نعلم ذلك، ومن دون فرقٍ بين العلل الماديّـة لوجود الأشياء، والعلل المعنويّـة لذلك. مثلاً: أنّ ما يفعله الإنسان في الإحراق هو اشتعال الموادّ المحترقة، ولكنّ الإحراق والاحتراق وتأثير النار في الاحتراق ليس من فعل الإنسان، فالله تبارك وتعالى هو الذي جعل في النار أثر الإحراق، كما أنّـه هو الذي جعل في الإنسان قوّة إيجاد النار واشتعال الموادّ المحترقة. فالإحراق مستندٌ إلى ذات الباري تعالى، كما أنّـه صحّ استناده إلى الإنسان الواقع في سلسلة العلل. وكذلك ولادة الأولاد مستندٌ إلى ذات الباري تعالى: ﴿يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ﴾،([243]) كما صحّ استناده إلى الوالد والوالدة أيضاً. وكذلك الأمر فيما لانعلم ولانقف على علل إيجاده، كتأثيرالصدقة والدعاء في دفع البلاء وإجابة المسألة، وتأثير صلة الرحم في طول العمر، وتأثير بعض الأطعمة في صيرورة الولد ذكراً أو إناثاً، جميلاً أو غير جميل، وكمعجزات الأنبياء(علیهم السلام)، وكالحوادث والوقائع الخارقة للعادة، فإنّ الممكن يحتاج في تحقّقه ووجوده إلى علل إيجاده؛ لاستحالة وجود الممكن من دون علّة، وهذا جار في جميع الممكنات؛ سواء كان من الأمور العاديـة، أم من الأمور الخارقة للعادة: ﴿فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً﴾،([244]) وليس الأمر كما يزعمه بعض العوام من أنّ ما نحيط بعلله مستندٌ إلى الله تبارك وتعالى، وما علمناها مستندٌ إلى العلل والأسباب الطبيعيّـة. ثمّ إنّ هؤلاء يسندون ما لا علم لهم بعلّته إلى الله تبارك وتعالى، وإذا كشف العلم عن علّته الطبيعيّـة صاروا متحيّرين في توجيه ذلك، كما وقعوا في ذلك بالنسبة إلى المطر، كانوا يسندونه إلى الله تعالى، فلمّا كشف العلم عن علله الطبيعيّـة صاروا متحيّرين، بل عدّوا القول بالعلل الطبيعيّـة من الكفريّات. قال العـلّامة الطباطبائي في «الميزان في تفسير القرآن»: ثمّ إنّ القرآن يقتصّ ويخبر عن جملة من الحوادث والوقائع لايساعد عليه جريـان العـادة المشهودة في عالم الطبيعة على نظام العلّـة والمعـلول الموجود ـ إلی أن قال: ـ لكن يجب أن يعلم أنّ هذه الأمور والحوادث وإن أنكرتها العادة واستبعدتها، إلّا أنّها ليست أموراً مستحيلة بالذات، بحيث يبطلها العقل الضروريّ ـ إلی أن قال: ـ على أنّ أصل هذه الأمورـ أعني المعجزات ـ ليس ممّا تنكره عادة الطبيعة، بل هي ممّا يتعاوره نظام المادّة كلّ حين بتبديل الحيّ إلى ميّت والميّت إلى الحيّ، وتحويل صورة إلى صورة وحادثة إلى حادثة، ورخاء إلى بلاء وبلاء إلى رخاء، وإنّما الفرق بين صنع العادة وبين المعجزة الخارقة، هو أنّ الأسباب الماديّـة المشهودة التي بين أيدينا إنّما تؤثّر أثرها مع روابط مخصوصة وشرائط زمانيّـة ومكانيّـة خاصّة تقضي بالتدريج في التأثير، مثلاً العصا وإن أمكن أن تصير حيّـة تسعى، والجسد البالي وإن أمكن أن يصير إنساناً حيّاً، لكن ذلك إنّما يتحقّق في العادة بعلل خاصّة وشرائط زمانيّـة ومكانيّـة مخصوصة، تنتقل بها المادّة من حالٍ إلى حالٍ، وتكتسي صورة بعد صورة حتّى تستقرّ وتحلّ بها الصورة الأخيرة المفروضة على ما تصدّقه المشاهدة والتجربة، لا مع أيّ شرط اتّفق، أو من غير علّة، أو بإرادة مريد، كما هو الظاهر من حال المعجزات والخوارق التي يقصّها القرآن.([245]) إذا عرفت ما ذكرنا، فاعلم أنّ الإخبار عن النجوم يمكن أن يقع على أقسام: [القسم] الأوّل: الإخبار بأنّ الحركات الفلكيّـة واتّصالاتها وانفصالاتها مؤثّرة في الحوادث والوقائع الأرضيّـة والسفليّـة على نحو الاستقلال، أو المدخليّـة من دون إذن من الله تبارك وتعالى، وهذا الاعتقاد لا شكّ ولا شبهة في أنّـه غير الإسلام، وأنّـه كفرٌ، والقائل به عن التفاتٍ وتوجّهٍ، كافرٌ مقصّرٌ ويعذّب عليه، ومن دون التفاتٍ وتوجّه غير مسلم قاصر معذور. [القسم] الثاني: الإخبار بأنّ الأوضاع الفلكيّـة مؤثّرة في الحوادث والوقائع الأرضيّـة على نحو الملازمة العلّيّـة السببيّـة أو الشرطيّـة أو غيرهما بإذن الله تعالى على وجه الظنّ، وهذا الاعتقاد لا إشكال فيه، بل هو عين الإسلام؛ إذ التأثير من الله تعالى، والله تعالى قادرٌ على ما يريد وعلى إيجاد التأثير ومنعه. نعم، يقع الكلام في تحقّق الصغرى؛ أي في أنّ العالم العلوي هل يكون مؤثّراً في العالم السفلى أم لا؟ والذي يظهر من مجموع الروايات في الأبواب المختلفة أنّ العالم العلوي مؤثّر في العالم السفلی في الجملة، مثل ما ورد من كراهة السفر([246]) والتزويج والقمر في العقرب،([247]) ومثل ما ورد من كراهة مباشرة الزوجة في أوقات خاصّة.([248]) [القسم] الثالث: الإخبار بالملازمة([249]) العاديـة بين الحوادث والوقائع في العالم السفلی وبين الأوضاع الفلكيّـة بإذن الله تعالى، ولا إشكال ولا شبهة في عدم مخالفته للإسلام. قال الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره): الثاني: يجوز الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتّصالات والحركات المذكورة ـ بأن يحكم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع المعيّن من القرب والبعد والمقابلة والاقتران بين الكوكبين ـ إذا كان على وجه الظنّ المستند إلى تجربة محصّلة أو منقولة في وقوع تلك الحادثـة بإرادة الله عند الوضع الخاصّ، من دون اعتقاد ربط بينهما أصلاً. بل الظاهر حينئذٍ جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى تجربة قطعيّـة؛ إذ لا حرج على من حَكَم قطعاً بالمطر في هذه الليلة، نظراً إلى ما جرّبه من نزول كلبه من السطح إلى داخل البيت ـ مثلاً ـ كما حكي أنّـه اتّفق ذلك لمروّج هذا العلم، بل محييه «نصير الملّة والدين»، حيث نزل في بعض أسفاره على طحّان، له طاحونة خارج البلد، فلمّا دخل منزله صعد السطح لحرارة الهواء، فقال له صاحب المنزل: أنزل ونُم في البيت تحفّظاً من المطر، فنظر المحقّق إلى الأوضاع الفلكيّـة، فلم ير شيئاً فيما هو مظنّـة للتأثير في المطر، فقال صاحب المنزل: إنّ لي كلباً ينزل في كلّ ليلة يحسّ المطر فيها إلى البيت، فلم يقبل منه المحقّق ذلك، وبات فوق السطح، فجاءه المطر في الليل، وتعجّب المحقّق.([250]) ثمّ إنّ الظاهر عدم جواز الإخبار على سبيل القطع والجزم لغير القاطع والمتيقّن، كما هو المستفاد من تقييد الشيخ الأعظم الجواز فيما إذا استند إلى تجربة قطعيّـة؛ والوجه في عدم الجواز كونه كذباً، ثمّ إنّ حصول القطع نادر جدّاً؛ لعدم دليل يقينيّ على الملازمة، ولكون التخلّف في هذه الإخبارات غير عزيزٍ. ولا يخفى أنّ ما ذكرناه كان بياناً للعمدة من الصور المتصوّرة، وكان بياناً أيضاً للقواعد والأصول بالنسبة إلى ما يرتبط بعلم الكلام وتمييز الاعتقاد الصحيح عن الاعتقاد الباطل، وإلّا فالبحث عن جميع الصور، وعن تطبيق تلك القواعد على تلك الصور، وعن أخبار المسألة محتاجٌ إلى تفصيل البحث الذي يكون أضعافاً لما ذكرناه. وإنّما تركنا البحث كذلك لما في مكاسب الشيخ الأعظم من إتعاب نفسه الشريفة بما فيه الكفاية. وفي بيانه وإن كان نحو اختلاط وتشويش، لكنّـه مع ذلك مغنٍ لنا في البحث كذلك، فلمزيد الاطّلاع والتحقيق التفصيليّ المراجعة إلى المكاسب.([251]) وما ذكرناه وبيّـنّاه كلّه، كان في البحث الكلاميّ والاعتقاديّ. ------------------- [243]. الشورى (42): 49. [244]. فاطر (35): 43. [245]. الميزان في تفسير القرآن 1: 74ـ 75. [246]. راجع: وسائل الشيعة 11: 367، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 11. [247]. راجع: وسائل الشيعة 20: 114، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الباب 54. [248]. راجع: وسائل الشيعة 20: 93 و94، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه، الباب 38 و39؛ و: 125 ـ 131، الباب 62 و63 و64. [249]. أي الملازمة على نحو التقارن. [250]. المكاسب 1: 203ـ 204. [251]. راجع: المكاسب 201:1، وما بعدها.
|