دلالة الأمر على الفور والتراخي (درس59)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 59 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم الفور والتراخي قبل الخوض في المقصود ينبغي البحث في مقامين: مقام الثبوت، ومقام الإثبات. أمّا المقام الأوّل، فالواجبات على أقسام: الأول: ذلك البعض الذي لا يجوز فيه الفور ولا التراخي، كالواجب المضيق؛ لأنه لا يوجد لهذا الواجب وقت أوسع من نفسه، كصوم شهر رمضان. الثاني: ذلك البعض الذي يجوز فيه الفور والتراخي، وهو الواجب الذي يكون له وقت أوسع من نفسه، كالواجب الموسع لإقامة صلاة الظهر والعصر مثلاً. الثالث: في بعض الواجبات فور وبدار، وإذا لم يؤتَ به فوراً سقط أو بقي تكليفه، وإذا بقي فإما أن يبقى مع الفور، وإمّا أن يبقى مع التراخي. مثّلوا للقسم الأوّل برد السلام، فهو واجب فوراً، وإذا لم يرد السلام سقط الجواب، أو نحو صلاة الاحتياط في الركعات المشكوكة التي تجب بعد الصلاة مباشرة وفوراً، وإذا لم يؤتَ بها سقطت. ومثّلوا للقسم الرابع ـ أي إذا بقي فيبقى مع الفور ـ بصلاة القضاء بناءً على الفورية والمضايقة، وفي الحقيقة يلزم فيها الفور إذا لم يأتِ بها، فعليه أن يأتي بها فوراً، وهكذا تبقى الفورية. ومثّلوا بصلاة الآيات للقسم الخامس، وهو الذي تُعتبر فيه الفورية، وإذا لم يأتِ به فوراً فعليه الإتيان به لا على سبيل الفورية، بل يجوز التأخير فيه، فيجوز التأخير إذا لم يؤتَ بها فوراً إلى آخر العمر. بناءً على هذا، الواجبات بحسب مقام الثبوت ومن حيث الفور والتراخي على أقسام خمسة. وأمّا المقام الثاني، أي مقام الإثبات، فقد اختلف الاُصوليون في صيغة الأمر في أنها تدل على الفور أو التراخي أم لا؟ قال بعضهم بدلالة صيغة الأمر بما هي هي على الفور لا التراخي، وبعضهم الآخر قال: إنها بما هي هي تدل على التراخي لا على الفور، ومنهم من قال بعدم دلالة الصيغة على شيء منهما لا على الفور ولا التراخي، ومنهم من قال بالاشتراك اللفظي بين الفور والتراخي، وفي المسألة أقوال اُخرى غير ما ذكرناها كالقول بالتوقف مثلاً. والحق ـ تبعاً لغير واحد من المحققين ـ هو القول الثالث، أي عدم دلالتها على الفور ولا على التراخي. ولا يخفى أن هاهنا ليس محلاً للنزاع على سبيل الحقيقة البتة، بل محل النزاع أعم من الدلالة على نحو الحقيقة أو على نحو المجاز بقرينة عامة، كما يظهر ذلك من مراجعة أدلة الأقوال. ألا ترى بعضهم يستدل على الفورية بالآيتين الكريمتين: (وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ)[1] و(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[2]، لكن على سبيل المجاز بقرينة عامة. نعم، الدلالة بقرينة خاصة وجزئية خارج عن محل النزاع، كما هو حال المسائل في مختلف المباحث الفقهية، ونحن إذا بحثنا في المسألة بحثنا في الحقيقة في مباحث الألفاظ أو في المجاز أو في الأعم منهما، ولكن على نحو القرينة العامة. إذا عرفت ذلك نقول: الدليل على عدم دلالة الأمر على الفور أو التراخي عين الدليل الذي جاء في باب المرة والتكرار، وما بيّناه هناك يأتي هنا كذلك للوجهين التاليين: 1ـ التبادر. 2ـ الهيئة والمادة. المتبادر من صيغة الأمر هو طلب الطبيعة، ولا يتبادر منها الفور أو التراخي، ويشهد على هذا التبادر استعماله في كلا البحثين بلا رعاية العلاقة في أحدهما من دون أن يكون أحد الاستعمالين تأكيداً. كما قلنا: إن الأمر إذا دل على الفور أو التراخي لابد وأن تكون الدلالة من المادة أو الهيئة. أمّا المادة فموضوعة لأصل الطبيعة لا بشرط، وأمّا الهيئة فموضوعة لطلب المادة، فأين الفور وأين التراخي؟ الدلالة على الفور استدلّ على دلالة الأمر على الفور بوجوه، أقواها آيتا المسارعة والاستباق، كما استدل على الفورية بآية احتجاج إبليس لعنه الله، فبعدما أمره الله أن يسجد لآدم قال: (خَلَقْتَنِي مِن نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِيْنٍ)[3]. والأمر لو لم يوضع للفور كان لإبليس العذر عند الله تعالى بهذا البيان: أنا وإن لم أسجد الآن إلى آدم لكني سأسجد في المستقبل، وعدم اعتذاره عند الله تعالى أدل دليل على أن الأمر بمادته وهيئته موضوع للفور لا غير. ونحن نقول في جواب ذلك: أوّلاً: كان إتيان الفعل وعدمه سواء عند إبليس لعنه الله، فالأمر هنا إن دلّ على الفور أو على التراخي لم يسجد إبليس. ثانياً: في الآية الكريمة شاهد على أن حكم الله فيها فوري، وهو قوله تعالى: (فَإذَا سَوَّيتُهُه وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)[4] الفاء في (فَقَعُوا) للتفريع، وهي تدل على الفورية. على أي حال، الأدلة غير تامة عندنا، والعمدة فيها الآيتان الكريمتان، أي آية المسارعة وآية الاستباق، ووجههما واضح؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: (وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ) أي سارعوا إلى المغفرة بسرعة وعجلة، وقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) أي استبقوا فورياً. وعلى هذا تدلّ الآية على الفور لا التراخي. لكن الاستدلال بهذين غير تام للوجوه التالية: أحدها: أن الأمر في الآيتين أمر إرشادي لا مولوي؛ لأن العقل أيضاً يرى السرعة والسبق في الاتيان بأعمال الخير حسناً جداً. ثانيها: سلّمنا أن الأمر في الآيتين المذكورتين مولوي لا إرشادي، ولكن لا ارتباط له بمحل البحث، بل هو مرتبط بسرعة المكلفين واستباقهم على الآخرين لا بالعمل، فلا يقول مخاطباً المكلف: (إئت بالعمل قريباً)، بل يقول له: (إئت بالعمل أقرب من الآخرين المكلفين بذات العمل). وذلك، أمّا في آية الاستباق فقضاءً لمادة (الاستباق)، وأمّا في آية المسارعة فقضاءً للهيئة. ولا يخفى أنّ (سَارِعُوا) من باب المفاعلة، أي تفيد الاثنينية، وهي تعني اذهب إلى المسجد مثلاً مقدّماً على الآخرين، أو اذهب إلى صلاة الجماعة مقدماً على باقي أعضاء الجماعة. وعلى فرض التسليم بأن الأمر مولوي لا ارتباط له أصلاً بمقام العمل، بل هو مرتبط بمسارعة ومسابقة المكلف مع الآخرين. ثالثها: سلّمنا أن الأمر في الآيتين الكريمتين أمر مولوي، والسرعة والاستباق متوجهان إلى العمل، لكن هذين الأمرين لا يحملان على الوجوب فيها، بل هو محمول على القدر الجامع، أو محمول على الندب عرضاً للقرينة. ويُفهم من القرينة بأن الأمر إن حُمل على الوجوب يلزم تخصيص الأكثر، وهو أيضاً مستهجن، ولم يقل به أحد، كما أنه لو حمل على الوجوب فيما نحن فيه يلزم خروج المستحبات جلاً أو كلاً، وكذا يلزم خروج الواجبات المضيقة والموسعة، فيبقى القليل من الواجبات التي لا دليل لها على طرفٍ من القضية. رابعها: الآية الكريمة: (وَسَارِعُوا إلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ اُعِدَّتْ لِلمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) محمولة على الاستحباب؛ للقرينة الموجودة في ذيلها، حيث أشار تبارك وتعالى إلى موارد مختلفة كالإنفاق والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس الذي لا يسالم ولا يلائم وجوب الفور، فلابد عندئذٍ من القول بأن الأمر بالسرعة هنا محمول على الاستحباب. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - آل عمران: 133. [2] - البقرة: 148. [3] - الأعراف: 12. [4] - الحجر: 29.
|