الإجزاء (درس61)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 61 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم البحث في الإجزاء وقبل الخوض في المقصود نقدم اُموراً: أحدها: هل البحث في الإجزاء لفظي كدلالة الأمر على الوجوب؟ ثانيها: هل البحث عن الإجزاء عقلي كالبحث في الملازمة العقلية بين وجوب المقدمة وذيها؟ في الباب وجوه: الوجه الأول: البحث عنه لفظي، ويشهد على هذا المعنى عبارة (الفصول)، حيث جاء ما لفظه هناك: اختلفوا في أن الأمر بالشيء هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ حيث إنه نسب الاقتضاء إلى الأمر ـ كما قلنا آنفاً ـ لا إلى الإتيان، وليس المراد من الدلالة التي كانت محل البحث الدلالة المطابقية والتضمنية حتى تقول: لم يقل بها أحد، ولا معنى له؛ لأن الأمر له هيئة ومادة، هيئته إنشاء الطلب، ومادته أصل الطبيعة، فأين محل الإجزاء؟ بل المراد من الدلالة المبحوثة الدلالة الالتزامية، وذلك لأنّ الأمر لابد فيه من غرض، فإذا أتى المكلف المأمور به حصل الغرض، فسقط الأمر. وعلى هذا، الأمر يدل على الإجزاء بالدلالة الالتزامية لا باُختيها. ولا يخفى عليكم أنّ هذا الوجه غير تام، وفيه ما يلي: أوّلاً: أن محل النزاع أعم من الوجوب الذي كان مدلولاً للفظ أو الوجوب الذي كان مدلولاً للُّب. وبعبارة اُخرى: محل النزاع أعم من الأمر اللفظي واللبي، ونحن نقول: نحن لا ندور مدار الأمر اللفظي لكي يطرح بحث الدلالة اللفظية، نحن نبحث في باب الاجزاء عن الوجوب المستفاد من (وَأقِيْمُوا الصَّلاةَ)[1] والوجوب المستفاد من (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)[2] ؛ لأنه بعد اللتي واللتيا نبحث: هل المصلي إذا تيمم للصلاة كفاقد الماء مثلاً وجاء بالصلاة مع التيمم وارتفع عذره، هل تجب عليه الإعادة والقضاء أم لا يحتاج إليها؟ بناءً على ذلك يكون البحث في الأمر اللفظي أو البحث في الأمر المستفاد من السيرة، أو البحث في الأمر المستفاد من الإجماع أو العقل، فالموضوع لا اختصاص له بالأمر اللفظي والوجوب اللفظي، بل البحث أعم من الوجوب اللفظي واللبي والسيرة والإجماع وبناء العقلاء. وثانياً: أن الدلالة الالتزامية هاهنا ليست دلالة التزامية اصطلاحية؛ لأن الدلالة الالتزامية الاصطلاحية هي ما كانت لازماً بيِّن بالمعنى الأخص، أي إذا التفت إلى الملزوم التفت إلى اللازم. وكيف كان، وجود الغرض في الأمر لازم بيِّن بالمعنى الأخص؟ وكيف يمكن توجيه التكليف إذا أتى المأمور به فسقط الغرض أيضاً؟ مع أنه في أصل الغرض لا نزاع بين الأشاعرة والمعتزلة؛ لأن الأشاعرة يدّعون أن الأحكام الشرعية غير تابعة للمصالح والمفاسد ظاهراً، والمعتزلة تدعي أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد. ثالثاً: وهو أن يقال بأن البحث كان في الدلالة اللفظية، وإتيان كلّ مأمور به بالنسبة يدل على الإجزاء بالدلالة الالتزامية؛ لأنه إذا جيء بالمأمور به حصل الغرض فيسقط الأمر. بناءً على هذا، الدلالة الالتزامية تامة بالنسبة إلى الأمر، وإتيان المأمور به الواقعي مجزٍ عن الأمر الواقعي، والإتيان بالمأمور به الظاهري مجزٍ عن الأمر الظاهري، والاضطراري مجزٍ عن الاضطراري. أمّا ما نحن فيه فغير منحصر بهذا المورد. فالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهري هل مجزٍ عن الأمر الواقعي والاختياري أم لا؟ الوجه الثاني: بأن يقال: إنّ هذا البحث عقلي ولفظي أيضاً، وهو مختار (تهذيب الاُصول)[3]. بيان ذلك: البحث في الإجزاء بالنسبة إلى الأمر المأتي به مجزٍ لفظاً وعقلاً؛ لأن التوجه إلى الألفاظ كان كدليل على القول لا كنفس القول، والنزاع والبحث ها هنا كان في الإجزاء وإدراك العقل، لكن الدليل هو دلالة الأدلة اللفظية؛ لأنّه لقائل أن يقول: إتيان المأمور به من أمرٍ آخر مجزٍ كذلك، والعقل يقول بالإجزاء، ونحن نقول: كيف يدرك الإجزاء؟ فيجيب: الأدلة جعلت البدل، وإذا جُعل البدل أدرك العقل الإجزاء. ولقائل أن يقول رداً على الكلام السابق: الأدلة لم تدل على جعل البدل، وعلى هذا لا يدرك العقل الإجزاء. ما كان ملاكاً ومعياراً هو محل النزاع لا أدلة الأقوال، وإلاّ جميع المسائل الفقهية إمّا مسألة لفظية أو مسألة غير لفظية، كالبحث عن صلاة الجمعة، هل هي واجبة أم لا؟ هذا بحث فقهي ولقائل أن يقول: إن صلاة الجمعة واجبة، والآخر يقول: غير واجبة. القائل بالوجوب يستند إلى الآية الكريمة: (إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوا إلَى ذِكْرِ اللهِ)[4] ، والأمر دليل على الوجوب. أمّا القائل بعدم الوجوب فيقول: (فَاسْعَوا) غير ناظر إلى بيان الوجوب، وهذا بحث لفظي. وهنا يأتي النزاع كذلك في أن الإتيان بالأمر الظاهري أو الاضطراري من الأمر الواقعي أو الاختياري يجزي أم لا؟ لقائل أن يقول: مجزٍ، ولقائل آخر أن يقول بعدم الإجزاء، وأن البحث هنا في الإدراك العقلي، فهل يدرك العقل الإجزاء هنا أم لا يدرك؟ فبعضهم تمسك بالدلالة الالتزامية كدليل، وبعضهم الآخر قال: إن الأدلة لا دلالة لها. بناءً على هذا، كلام (التهذيب) في أن البحث في الإجزاء لفظي وعقلي غير تام، ويبدو أن خلطاً حصل هنا بين محل النزاع والدليل على القول، فاعتبروا دليل القول محلاً للنزاع، وقالوا بأن البحث لفظي. الوجه الثالث: بحث الإجزاء عقلي محض، ويشهد على ذلك أنّ الإجزاء نُسب إلى الإتيان لا بالصيغة، فإن كان بحث الإجزاء لفظياً لنسب إلى الصيغة، بل في (محاضرات) السيد الخوئي جعل هذا الكلام دليلاً على المسألة، وقال: الدليل على أن بحث الإجزاء بحث عقلي محض هو أن الإجزاء نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة، وعلى هذا لا يكون البحث غير عقلي[5]. وفي كلامه قدس سره ما لا يخفى؛ لأن البحث عن إجزاء الإتيان عقلي، كما هو واضح، لكوننا نبحث عن إدراك العقل للإجزاء وعدم إدراكه، ويمكن أن يكون البحث لفظياً. بيان ذلك: القائل بالإجزاء يقول: الإتيان مجزٍ لدلالة الدليل اللفظي، بحكم الدليل الكذائي الذي قال: لا تعد ولا تقضي، فالإتيان موجب للإجزاء. فعلى هذا، كلام السيد الخوئي غير تام. والتحقيق في المسألة: أن يقال بألاّ يوضع أصلاً وقاعدة بكون النزاع نزاعاً لفظياً ساذجاً، أو نزاعاً عقلياً ساذجاً، وكلاهما واضحان؛ لإمكان وقوعه سواء كان لفظياً ساذجاً أو عقلياً ساذجاً؛ لأن الإجزاء المنتسبة إلى الإتيان يمكن أن تكون لفظية ويمكن أن تكون عقلية، والأمر سهل. لكن لا يخفى أن النزاع كان من المفروض أن يكون في دلالة الأدلة، وفي الصغرى؛ لأن الإتيان بالمأمور به نسبة إلى ذات أمره مجزٍ بالاتفاق، ولا نزاع في ذلك، والمخالف مثل ابن هشام نادر. إذن، لا نزاع هنا، والإتيان بالمأمور به مجزٍ عن أمر نفسه، ولا يشك في ذلك عاقل، فأنا صليت صلاتي بتيمم ثم اُصليها مع وضوء، فأبحث في أن صلاتي مع التيمم مجزٍ أم لا؟ أو أني صليت الجمعة بناءً على الخبر الواحد، ثم أبحث هل صلاتي تجزي بناءً على الخبر الواحد أم لا؟ فذلك ممّا لا بحث فيه. أمّا بالنسبة للأمر الآخر فالبحث والاختلاف في جعل البدل والحكومة، فاختلف الاُصوليون في أن الأمر الظاهري يجزي عن الأمر الواقعي أم لا؟ أو الأمر الاضطراري يجزي عن الأمر الاختياري أم لا؟ الاختلاف في دلالة الأدلة وجعل البدل، أي هل الاختلاف في البناء أم في المبنى؟ أو هل الاختلاف في الأدلة أم الاختلاف بعد الفراغ منها؟ الاختلاف في الأدلة، فالقائل بالإجزاء يقول: الأدلة تدلّ، والقائل بعدم الإجزاء يقول: لو كانت الأدلة تدل فإني أقبل الإجزاء، لكن البحث في دلالة الأدلة. وإن شئت قلت: الاختلاف في البناء أشبه شيء إلى النزاع اللفظي؛ لأنّ أحدهم يقول: الأدلة تدل على جعل البدل، فهو مجزٍ إذن، والآخر يقول: إذا دلت الأدلة فأنا أقبل الإجزاء، لكني أرى عدم دلالة الأدلة. لكن كان من الأفضل جعل النزاع في الصغرى والقول: هل أدلة الأحكام الظاهرية والثانوية دالة على جعل البدل أم لا؟ وعلى هذا، ينبغي جعل النزاع في المبنى لا في البناء، والنزاع لفظي ولا اختلاف بينهما معاً، وأي اُصولي يقول بجعل البدل ويقول بنفس الوقت بعدم الإجزاء؟ الاختلاف والنقاش في المبنى، وإلاّ فجميع الاُصوليين يقبلون الكلام وفقاً لمبنى آخر. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - المزمل: 20. [2] - النساء: 43، المائدة: 6. [3] - تهذيب الاُصول 1: 135 ـ 136. [4] - الجمعة: 9. [5] - محاضرات 2: 220.
|