الإجزاء (درس63)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 63 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم إذا عرفت ذلك فنقول: الاقتضاء بمعنى الكفاية أمر اعتباري وانتزاعي، مثل كون أحدهما لا يكون له وجود خارجي، والكفاية كذلك، فالإجزاء بمعنى سقوط القضاء، أي سقوط أمر القضاء، فهل هو أمر اعتباري أم حقيقي؟ وهذا هو موضع الكلام هنا. نحن نقول: إنّ هذا الكلام كان لإمام الأمُة ـ رحمه الله ـ وكان من مبانيه، وكما قال الشهيد السعيد صاحب المعقول والمنقول وجامع الفروع والاُصول آية الله المطهري: فهمت مباحث العدل الإلهي من الحوزة العلمية صانها الله عن الحدثين. أقول: فهمت هذه المباحث في الحوزة المقدسة من دروس إمام الاُمة واُستاذنا الأكبر الإمام الخميني رحمه الله، وقد استفدت منه مدة سنوات متوالية، وأنا أدعو الأفاضل الكرام والأعزة أن يتعلموا المطالب المستفادة من الإمام وأن يستفيدوا منها، فقد كان الإمام أبا الفقه والاُصول والفلسفة والعرفان والتفسير وغير ذلك. يا طلاب العلوم الدينية الأعزة اغتنموا الفرصة التي تمر مر السحاب مع ضيق الوقت وقصر العمر، ومع كثرة العلوم، وكثرة حاجة الناس في أقصى نقاط العالم الإسلامي وغير الإسلامي إليكم، ومع كثرة الشبهات الموجودة في عالم الذهن والأفكار والعقول ممّا ينبغي الإجابة عليها، ولذا قال الإمام ـ عليه السلام ـ : ((احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها)). مبنى الإمام ـ قدس سره ـ عبارة عن أن باب الاعتبار والتكوين متباينان، ولفظ الأمر ليس حقيقة، بل اعتباراً. ولا يخفى عليكم بأن باب الحديث عن الأمر من أبواب الحقيقة ولا يندرج في باب الاعتبار، والكتابة حقيقة لكنها ليست بأمر، بل الأمر شيء عقلائي ينتزع بعد التكلم، والعقلاء يعتبرونه أمراً بعد الانتزاع. أنتم تقولون: إتيان المأمور به علة لسقوط الأمر بالقضاء، والأمر بالقضاء ها هنا اعتبار كذلك، ولا تكون العلية في الاعتبار، والإتيان بالمأمور به علة لسقوط التعبد، والتعبد اعتبار، كمن يقول: أنا غلامك، وأنا مطيعك، وأمثال ذلك، فكيف إذن يؤثر الإتيان في سقوط التعبد بمعنى العلية؟ فتلخص من جميع ما ذكرنا: أن الإجزاء سواء كان بمعنى الكفاية أو بمعنى سقوط الأمر بالقضاء أو الأمر بالتعبد لا يكون من باب التكوينيات، بل من باب الاعتباريات. إن قلت: كيف يؤثر الإتيان بالأمر الاعتباري؟ قلت: هذا لا وجه له. وإن قلت: الإتيان يؤثر في إرادة المولى، والإتيان سبب لانعدامها. قلت: الإتيان لا يكون سبباً لانعدام إرادة المولى؛ لأن المأمور به إذا اُوتي بالكامل وصحيحاً حصل غرضه أيضاً، والإرادة ليست شيئاً فوق الغرض، أي إذا حصل الغرض وتحقق تحققت إرادته أيضاً دون شك ولا ريب. ومع هذا لا يكون معنى للتأثير، وبناء عليه قال صاحب (الكفاية) في صدر بحث الإجزاء[1] بأن الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير، أي الإتيان علة الإجزاء، الإتيان علة لسقوط القضاء، وعلة لسقوط التعبد غير تام بالكلية؛ لأن الإجزاء بجميع معانيه لا يصحح العلية، إذ العلية كانت في الاُمور التكوينية، ولا ارتباط لها بالاعتباريات، ونحن لا نبحث في الاُمور الحقيقية والتكوينية، بل جميع أبحاثنا في علم الاُصول اعتبارية. الأمر الآخر: قد يتوهم بأن مسألة الإجزاء وعدمه متحدة مع مسألة المرة والتكرار، ولا يوجد فرق فاحش بين المسألتين أو البابين. بيان ذلك: القول بالمرة مساوق مع الإجزاء، والقول بالتكرار مساوق مع عدم الإجزاء. كما قد يتوهم أيضاً بأن مسألة الإجزاء وعدمه متحدة مع مسألة تبعية القضاء للأداء وعدم التبعية، أي هل يكون القضاء بأمر جديد، أو أن القضاء بالأمر الأول؟ في المسألة اختلاف بين الأعاظم، بعضهم يقول: القضاء يكون بالأمر الأول، وبعضهم الآخر يقول: القضاء بالأمر الجديد. ولا يخفى عليكم بأن القائلين بكون القضاء بالأمر الأوّل يقولون: الأمر الأوّل أمران في الحقيقة: أحدهما: الأمر بأصل الطبيعة، وثانيهما: الأمر بالطبيعة على نحو التقييد. ويقولون في توضيح ذلك: الأمر بالطبيعة المقيدة قد مات وفات اصطلاحاً، أما الأمر بطبيعة الصلاة مثلاً باقٍ، واستدلوا على كلامهم بالآية الكريمة: (أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ الَليْلِ)[2] أي الغروب، وفي الحقيقة ان هذه الآية ـ كما ذكرنا ـ لها أمران، أحدهما: الأمر بأصل طبيعة الصلاة، وثانيهما: الأمر بالصلاة في الوقت. هذا تمام الكلام في التوهمين المذكورين في هذا الباب، لكن لا يخفى عليكم بأنهما غير صحيحين، ومطروحان من الأساس. أمّا التوهم الأوّل، فهناك فرق فاحش بين الإجزاء وعدمه، وبين المرة والتكرار؛ لأن المرة والتكرار كان في مقام تعيين حدود المكلف به، أي هل المكلف به المرة أو التكرار؟ أمّا البحث في الإجزاء وعدمه فبحث عن حدود المكلف به، أي إذا علم المكلف تكليفه وأتي به واقعاً فهل الإتيان بالتكليف مجزٍ للمكلف أم لا؟ إن شئت قلت: نسبة البحث في المرة والتكرار إلى البحث في الإجزاء وعدمه نسبة الصغرى إلى الكبرى، إذ البحث هناك يدخل في عنوان: ما المأمور به، المرة أو التكرار؟ أما البحث في الإجزاء فيندرج تحت عنوان: إذا اُتي بالمأمور به فهل يوجب الإجزاء أم لا؟ نعم، لقائل أنْ يقول: الأمر يقتضي التكرار أبداً، وهذا القول مساوق للقول بعدم الإجزاء، وفي الحقيقة نتيجته واحدة، وبناءً على ذلك بين البحثين فرق وتفاوت فاحش، ولا ارتباط بينهما من هذه الجهة انصافاً. أمّا التوهم الثاني، فهناك تباين موضوعي بين البحثين، ولا وجه للاشتراك بينهما، كما ذكر ذلك سيدنا الاُستاذ[3]؛ لأنّ البحث هنا في المأمور به، أي أن المكلف إذا لم يأتِ بالمأمور به فهل القضاء يكون بأمر جديد من ناحية المولى، أم بالأمر الأوّل؟ بين الموضوعين والمسألتين اختلاف وفرق، والفرق بينهما واضح بلحاظ الإيضاحات المتقدمة. صاحب (الكفاية) اعتبر البحث في الإجزاء بحثاً من حيث حكم العقل، أي هل العقل يحكم بالإجزاء عند الإتيان أم لا؟ بينما البحث هناك في دلالة الصيغة، فجهاتهما مختلفة، وإذا كان الفرق من حيث الجهة فلابد لنا أن نقول: المرة والتكرار، والإجزاء وعدمه مسألتان مختلفتان، ولا ارتباط بينهما أصلاً، كما ذكرناه سابقاً[4]. أي أن صاحب (الكفاية) يعتبر الفرق بين بحث الإجزاء وبحث التبعية في كون أحدهما بحثاً لفظياً والآخر عقلياً، وهذا غير تام؛ لأن موضوع البحث اللفظي والعقلي إذا اتحد فلابد وأن يكون محمولهما واحداً كذلك، وبالنتيجة: لا حاجة لجعلهما بحثين، بل بحثاً بحث واحد، غاية الأمر نبحث من حيثيتين، الاُولى: عقلية، والثانية: لفظية، ولا ارتباط لذلك بمسألة الجهة. لا يقال: الاختلاف في الجهات موجب للاختلاف في المسائل، كما بيّنه سابقاً، كما أن الاختلاف في الأغراض موجب للاختلاف في العلوم، وكلام صاحب (الكفاية) هنا صحيح، وهو المختار. لأنا نقول: الاختلاف في جهات المسائل موجب للاختلاف في المسائل إذا رجع الاختلاف في الجهة إلى الاختلاف في الغرض، وإلاّ نحن لا نسلّم بأنهما مسألتان. على أي حالٍ، سواء ثبت الأمر باللفظ أو بالعقل فنتيجة الإجزاء مع عدم التبعية واحدة، ونتيجة الإجزاء مع التبعية واحدة كذلك. إذا عرفت ذلك نقول: لا ثمرة عملية هنا سواء ورد عن طريق الإجزاء أو من باب أن القضاء لا يكون تابعاً للأداء، وبناءً على ذلك يكون ما قاله صاحب (الكفاية) من الفرق في الجهة غير تام؛ لأن الاختلاف في الموضوع. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - كفاية الاُصول: 81. [2] - الإسراء: 78. [3] - تهذيب الاُصول 1: 138. [4] - كفاية الاُصول: 82.
|