|
2 ـ إشكالية مخالفة مبدأ العدالة
ثمة مشكلة أخرى هنا وهي:
أوّلا: إن الحكم المستفاد من صحيحة زرارة وموثقة سماعة والروايات المطلقة الدالّة على أنه يمكن للرجل أخذ أيّ مقدار أراده من المرأة على أن يطلقها... هذا الحكم مخالف للعدل الذي يعدّ جزءاً من الأصول الإسلامية المسلّمة; لأن البنية التحتية لتمام الأحكام هي العدالة والحيلولة دون الظلم وتضييع الحقوق، فالعدل والعدالة ميزان أحكام الإسلام، لا أن الأحكام الشرعية هي ميزان العدالة ومعيارها. وما أجمل أن نبيّن هنا ـ لاتضاح هذه النظرية الفقهية ـ كلام العلامة الشهيد مرتضى مطهري، حيث يقول بأن «أصل العدالة من مقاييس الإسلام، حيث لابد أن نرى ما الذي ينطبق عليه; إن العدالة تقع في سلسلة علل الأحكام لا معلولاتها، فليس ما قاله الدين هو العدل، بل ما هو عدلٌ قاله الدين، وهذا معنى معيارية العدالة للدين، إذاً فلابد من البحث: هل الدين مقياس العدالة أم العدالة مقياس الدين؟ الشكل التقديسي للأمور أن نقول: إن الدين هو مقياس العدالة، إلا أن الحقيقة مختلفة تماماً عن ذلك، فهذا شبيه بما ساد في أبحاث المتكلمين في مسألة الحسن والقبح العقليين، فصار الشيعة والمعتزلة عدليين، أي أنهم جعلوا العدل مقياساً للدين، لا الدين مقياساً للعدل; من هنا كان العقل أحد الأدلّة الشرعية حتى قالوا: «العدل والتوحيد علويان، والجبر والتشبيه أمويان»...ففي الجاهلية كان الدين هو مقياس العدالة ويعتبرونه معياراً للحسن والقبح; لهذا نقل عنهم في سورة الأعراف أنهم كانوا ينسبون كل عمل قبيح إلى الدين، وقد قال القرآن الكريم: (قُلْ إِنَّ اللهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ)([75])»([76]). والمهم في هذا المجال أن تحديد العدالة وعدم الظلم في غير التعبديات يرجع إلى العقلاء وضمن مسؤولياتهم; وذلك أن الشارع والمقنّن الحكيم إذا أراد بيان حكم وطالب الناس بالعمل به، فلا محالة مضطرّ لسنّ قانون يفضي إلى نشر العدالة في المجتمع ورفع ألوان الظلم والتمييز; وهذا ما يستلزم أن يرى أفراد المجتمع والعقلاء هذا القانون عادلا. وانطلاقاً من هذا التوضيح يمكننا القول أيضاً: أ ـ إن هذا الحكم ليس مخالفاً للعدل فحسب، بل هو حكم ظالم، ومخالف للآية الشريفة: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ)([77]); لأنّ الرجل إذا أراد طلاق زوجته فهو ملزم فقط بدفع المهر لها، أما المرأة إذا أرادت الطلاق فإن بإمكان الرجل أن يطالبها بما أراد ورغب وتمنّى، بل يمكنه أن يقدم مطالب ثقيلة قد تعدمها حقها في الحياة والوجود، وهي الحياة التي قدّرها الشارع سبحانه واحترمها. إن هذا الاختلاف في الحكم بين شخصين نتيجة أمر غير اختياري (الذكورة والأنوثة) في اتفاق وعقد عقلائي، ليس سوى ظلم وإجحاف. ب ـ إن هذا الحكم مخالف لقوله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ...)([78]); لأن مثل هذا الحكم الظالم لا يتناغم مع مطالبة الناس بإقامة العدل والقسط. كيف يمكن لأحكام يفترض أن تكون مصدراً لتعليم القسط وعدم الظلم للناس... أن تغدو هي بنفسها أحكاماً تمييزية على أسس غير إرادية مما يمثل أعلى درجات الظلم والجور؟! ج ـ إن هذا الحكم مخالف لآية التسريح بإحسان أو الإمساك بالمعروف في الطلاق، قال تعالى: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَان وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً)([79]). وقد يشكل شخص هنا بأن هذا الذي ذكرتموه بأجمعه اجتهاد في مقابل النص; ذلك أن الحكم الذي تعدّونه ظالماً، قد استفيد من الروايات الصحيحة التي تملك ـ في بعضها ـ دلالات نصية صريحة، وعليه ومع الأخذ بعين الاعتبار وجود هذه الروايات فلابد لنا من التعبّد بالحكم الوارد فيها. لكن هذا الإشكال غير وارد; وذلك: 1 ـ إن أوامر المعصومين(عليهم السلام)ورواياتهم جعلت ملاك صحّة الروايات وحجيتها عدم مخالفتها للقرآن، وقد أثبتنا فيما سبق أن هذا الحكم مخالف للأصول القرآنية المسلّمة. 2 ـ إن الروايات المخالفة للعقل والنقل لا يمكن أن تكون حجةً ومعتبرة، وإنما ـ كما قال الفقهاء ـ: «يردّ علمها إلى أهلها»([80])، وهذا ما يصدق على مواضع متعدّدة من رواياتنا، كالكثير من الروايات التي يمتاز بعضها بأسانيد معتبرة، لكنها تدلّ على تحريف القرآن([81])، أو الروايات المرتبطة بسهو النبي والمذكورة في الكتب الأربعة، وعددها ثمانية عشر رواية نقلها ثلاثة عشر شخصاً من المحدّثين الكبار، إلا أنّ العلماء ـ غير الصدوق([82]) وأستاذه ـ ردّوها لمخالفتها لمبدأ عصمة الأنبياء الذي هو مبدأ عقلي وعقلائي. وبناءً عليه; فصرف وجود روايات صحيحة لا يمكن أن يبرر إصدار أحكام وفتاوى; وذلك ـ أوّلا ـ لضرورة عرضها على القرآن حتى لا تكون مخالفةً للآيات الصريحة والمحكمة، كما أنه ـ ثانياً ـ يفترض عدم كونها مخالفةً للعقل أيضاً. وقد أشار الفقيه المحقق الزاهد المرحوم المقدس الأردبيلي(قدس سره)في كتاب (مجمع الفائدة والبرهان) مراراً إلى هذا الأمر، وعلى سبيل المثال ذكر ذيل الحكم بتنصيف دية المرأة نسبةً لدية الرجل، بأن هذا الحكم مخالف للقواعد المنقولة والمعقولة، مع أنه هو نفسه ذكر الأخبار الصحيحة الدالّة على التنصيف([83])، ويستفاد من كلامه واستدلالاته أن المقصود من العقل ليس عقل المعصومين(عليهم السلام)، وفهمهم الذي هو علم ويقين; إذ لا سبيل لنا إليه، كما أنه ليس المراد من العقل العقلُ البرهاني القطعي الفلسفي; لأن تلك البراهين ـ كاجتماع النقيضين وغيره ـ تتصل بالحقائق والتكوين، لا بمجال القوانين والأحكام التي هي مجالات اعتبار ومواضعة... يضاف إلى ذلك غالبية وجود مقدّمة ظنية في مجال الأحكام الشرعية وحيث إن النتيجة في كل برهان تتبع أخسّ المقدمتين لهذا كانت نتيجة البرهان ظنية، ومن الواضح أن المقدمة الظنية لا يمكنها أن تكون وسيلةً لنتيجة قطعية، ولابد من الالتفات أيضاً إلى أنّه ليس المراد من العقل هو الإدراكات والأفكار والآراء المستقلّة غير المرتبطة بالكتاب والسنّة، وذلك أنه ـ أوّلا ـ لا دليل على اعتبار ولا حجية مثل هذه الآراء التي هي ظنية; لأصالة عدم حجية الظن: (...إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئاً)([84]). كما أن الأدلّة القطعية دلّت ـ ثانياً ـ على حرمة وبطلان القياس والاعتبارات العقلية غير المتصلة بل المنفصلة عن الكتاب والسنّة. لا يراد هذا كلّه من العقل; وإنما المراد ما استدلّ به في الفقه وأصوله وطرح في موارد كثيرة من الفقه الإسلامي وكان معتمداً عند الفقهاء، وهو الفهم والاستنتاج الذي يتراءى للفقيه من خلال نظره في الكتاب والسنّة (القرآن والعترة). وبناءً عليه، فإذا عثر الفقيه على حكم مخالف لحكم العقل فلا يمكنه الإفتاء وفقه، حتى لو دلّت عليه الروايات الصحيحة; ومن الواضح أن هذه المخالفة لا سبيل لها إلى أحكام العبادات; لأن العقل لا يمكنه إدراك الحسن والقبح والمصالح والمفاسد في التعبديات التي هي بيد الشارع نفسه، وهذا معناه أنه لا يمكن للعقل الحكم بصواب أو عدم صواب عمل ما... وبعبارة أخرى: لا يملك العقل فهماً كاملا للمصالح والمفاسد والحسن والقبح وسائر الجهات فيها; فيمكنه تقديم حكم اطمئناني في موردها. جواب آخر مع الأخذ بعين الاعتبار وجود نصوص صريحة من جهة على جواز أخذ الزائد على المهر في طلاق الخلع، ومخالفة هذه الأخبار من جهة أخرى لحكم العقل والعقلاء في باب المعاوضات، ووجود شبهة الظلم في هذا الحكم... لذا يمكن رفع هذه الشبهة بالقول: على المرأة أن تشرط في بداية عقد الزواج على الرجل أنه إذا أرادت أن تصبح مختلعة فلا حقّ للرجل بأخذ ما زاد على المهر منها; وبهذا الشرط لا تخالف عقد النكاح ومقتضياته، كما وأنه في الوقت عينه يمكن رفع شبهة الظلم السالفة الإشارة إليها، والعمل بالنصوص والروايات المتقدمة. إشكال على الجواب يعاني هذا الجواب من إشكال واضح، وهو أن رفع نقصان القوانين بوسيلة الشرط يدلّل على نقص المقنّن نفسه، فإن العادة في التقنين أن يكون القانون عادلا أولا، وعاماً ثانياً، بمعنى أن هذه العدالة التي لوحظت عند تدوين القوانين موجودة حتى في حق أولئك الذين لا يلتفتون إلى القوانين; لأن العدالة قانون عام، وإن لم تكن كذلك وكان غير الملتفت للقانون يجري في حقه القانون كان الحكم حينئذ ظالماً; لأن القانون جرى على شخص وحده وهو غير مطلع على وضعه ولا على رفعه. من الواضح أن وضع الشرط في التقنين وحاكمية الإرادة أمر مربوط بذيول القانون وما يلحقه، حيث يتمكن الأفراد من الاستفادة من الشروط لتحصيل أرباح أكثر في معاملاتهم أو معاوضاتهم دون إلحاق ضرر بالطرف الآخر، ولا يجوز أن تكون هذه الشروط معارضةً أو منافيةً لذات المعاملة والمعاوضة، وعليه فإنّ الشروط لم توضع كي ترفع الظلم الموجود في الأحكام أو تجبر النقص الموجود في القوانين. __________________________________________ [75] . الأعراف: 27 ـ 28. [76] . مطهري، بررسي إجمالي مباني اقتصادي: 14. [77] . فصلت: 46. [78] . الحديد: 25. [79] . البقرة: 229. [80] . يقول المحقق الخوانساري في جامع المدارك 6: 202: «فمع جواز تخصيص الأصول والقواعد المسلّمة في الفقه، لا مانع من العمل بالرواية مع صحتها، ومع الإباء يردّ علمها إلى أهلها». [81] . مرآة العقول 12: 525. [82] . من لا يحضره الفقيه 1: 234، باب 49 (باب أحكام السهو في الصلاة)، ذيل ح 48. [83] . مجمع الفائدة والبرهان 14: 468، و8: 24، بل إنه يرى أن الرواية ينجبر ضعفها بموافقتها للعقل: «ولا يضرّ ضعفها; لأنها موافقة للعقل والنقل». [84] . النجم: 28.
|