|
الإشكالات الواردة على هذا الاستدلال
أشكل مشهور الفقهاء على هذا الدليل وردّوه، وترجع عمدة إشكالاتهم إلى ثلاثة، هي:
الإشكال الأوّل وردّه لا ينحصر طريق النهي عن المنكر بالطلاق الخلعي; وذلك أنّ النهي عن المنكر يمكن أن يقع عن طريق الطلاق العادي، أي أن الرجل يطلق زوجته دون أخذ المال منها، فعدم أخذه المال يوجب حفظ غيرته ومكانته. هذا الإشكال ليس وارداً; لأنه إذا قيل بوجوب الطلاق على الزوج الذي تكرهه زوجته، وهو سعيد معها غير متأذ من حياته العائلية، مع عدم أخذه المال، فإن الحكم بالوجوب هنا ظلمٌ على الرجل نفسه، لأن قطع العلاقة الأسرية وتدمير العائلة، يترك آثاراً روحيةً ونفسيةً ضاغطة على الزوج الذي يرغب ببقاء هذه العلاقة الأسرية، فإذا ألزمناه بالطلاق مع دفع المال فسيكون ذلك ضرراً عليه، من حيث ما دفعه من أموال لتكوين هذه الأسرة والمصاريف التي قدّمها في هذا المجال. يضاف إلى ذلك أن هذا الإشكال نفسه يُثبت مطلوبنا ومقصودنا، وهو وجوب الطلاق على الرجل في حالة طلب الزوجة وكراهتها للزوج، بل هو ينتج أزيد مما نطلبه، إذ بهذا النوع من الطلاق تتحرّر المرأة بإرادتها من قيد الزوجية، وتأخذ معها مبلغاً من المال أيضاً، على خلاف طلاق الخلع الذي يفرض على الزوجة دفع شيء مقابل تحرّرها من عُلقة الزوجية، وبناءً عليه، وللحيلولة دون ظلم الرجل، لابد من القول بأن السبيل الوحيد للنهي عن المنكر في موضوع طلاق الخلع ـ أي كراهة الزوجة ـ منحصر في طلاق الخلع نفسه، لا في الطلاق العادي. الإشكال الثاني وجوابه لابد في المنكر أن يتحقق في الخارج حتى يغدو رفعه والنهي عنه واجباً، وفيما نحن فيه لم يحصل من المرأة فعلٌ للمنكر وإنما صدر منها مجرد التنفّر والكراهة لزوجها، وعليه لا يمكن الحكم بوجوب الطلاق على الزوج للمنع من وقوع زوجته في المنكر، فالاستدلال بالنهي عن المنكر لإلزام الرجل بالطلاق لا وجه له، وبعبارة أخرى: الواجب رفع المنكر لا دفعه. وفي الجواب عن هذا الإشكال يمكننا القول بأن دفع المنكر ـ كرفعه ـ واجب، ولتجلية هذه النقطة نقول: إن فلسفة النهي عن المنكر هي الحيلولة دون وقوع المفاسد وإصلاح المجتمع، وهذه العلّة موجودة أيضاً في دفع المنكر، كما أن رفع المنكر يرجع في الحقيقة إلى دفعه، ذلك أنه في رفعه يكون قد وقع منكرٌ ما، ويريد الناهي بنهيه عدم قيام الفاعل مرة ثانية بهذا الفعل السي والقبيح، وهذا بنفسه دفع للمنكر. وخلاصة الكلام أن فلسفة رفع المنكر ـ وهي عدم القيام بالمنكرات ـ تظهر بشكل أقوى في دفع المنكر; لأن الشارع الحكيم يمكنه، بإيجاب دفع المنكر ابتداءً، الحيلولة دون أصل القيام بالمنكر من رأس، وكما يقال: درهم وقاية خير من قنطار علاج. ويمكن أن يشكل على المناط المشار إليه بأنه مع الأخذ بعين الاعتبار فلسفة النهي عن المنكر ـ وهي عدم العصيان ـ إذا فعل شخصٌ منكراً، فلا معنى بعد ذلك لوجوب نهيه عن المنكر، لأن المنكر قد تحقق. وفي الجواب عن هذا الكلام نقول: إن حكم الشارع على المكلّف بوجوب النهي عن المنكر الذي وقع وتحقق إنما هو لأن صدور هذا المنكر من جانب العاصي يمثل قرينةً على تكرار هذا الشخص لهذا الفعل مرّةً أخرى، وعليه فقد أمر الشارع بالنهي عن المنكر حتى لا يكرّر هذا العاصي فعله في المستقبل مرةً اُخرى، من هنا تظل فلسفة النهي عن المنكر باقيةً على حالها لا تلغو ولا تبطل، فإذا حصل اطمئنان بأن شخصاً سوف يوقع المنكر فيما بعد ولم يوقعه حتى الآن فالنهي عن المنكر في مورده يكون واجباً أيضاً، رغم أنه لم يوقع المنكر بعدُ، ولابد من دفع هذا الشخص كي لا يصدر عنه الذنب. الإشكال الثالث والجواب عنه لو سلّمنا وقبلنا بأن هذا الكلام من المرأة وكراهتها منكرٌ، وأن رفع المنكر واجب، إلا أنه قد ثبت في محلّه أن النهي عن المنكر غير واجب إذا لزم منه زوال حقّ الناهي. وبعبارة أخرى: حتى لو كانت المرأة تريد أو قد تقع في الحرام لا يمكننا أن نقول للرجل: إنه يجب عليك طلاقها حتى لا يتكرر منها فعل المنكر; لأن الطلاق مفض إلى ذهاب حق الرجل الذي يريد ـ كما قلنا ـ استمرار حياته الزوجية مع امرأته، ومن الواضح أنه لا يقول بهذا الكلام فقيهٌ قط; لأنه إذا كان النهي عن المنكر واجباً بشكل مطلق ودون قيد أو شرط، لزم وقوع لوازم باطلة; منها القول بأن العبد عندما لا يطيع مولاه في الأمور الراجعة إلى المولى ـ أي يعصي المولى ـ فيجب على المولى من باب النهي عن المنكر، وحتى لا يرتكب العبد إصراراً على المعصية... يجب عليه أن يحرّره من رق العبودية ويطلق سراحه!! وجواب هذا الإشكال واضح; وذلك أننا نقبل أيضاً بأن الحيلولة دون وقوع الذنب من الآخرين لا يفترض أن تؤدي إلى ذهاب حقوق الناهين عن المنكر أو أيّ شخص آخر، وهذه قاعدة عقلائية وشرعية، إلا أن إشكالنا هنا يكمن في أن إلزام الرجل بالطلاق الخلعي لا يضيّع حقاً من حقوقه; لأن طلاق الخلع يعطي الرجل الأموال التي دفعها مهراً لزوجته، فيما تأخذ المرأة ما كان مقابلا لهذا المهر، وهو البضع، بحيث لا يصبح للرجل بعد ذلك حقّ التصرّف في بضعها، وعليه، يكون الموقف مقارباً لعودة العوضين إلى المالك الأصلي والسابق، ولا يفوت ـ من ثمّ ـ حقّ على أحد، حتى يقال بعدم إمكان إجراء النهي عن المنكر لإفضائه إلى ضياع حقّ الناهي نفسه. وبعبارة ثانية: نحن نقبل الكبرى الكلية، إلا أن ما نرفضه هو تطبيق الكبرى على الصغرى، فلا نعتبر هذه الصغرى مصداقاً للقاعدة الكلية العقلائية المذكورة. وقد يُشكل على هذا الجواب بأن الذي يضيع على الرجل هو حقّه في بقاء حياته الزوجية حيث يلزم هنا صيرورته بلا زوجة، وهذا ما يعني أن إشكالية التعارض بين وجوب النهي عن المنكر ولحوق الضرر للناهي ما تزال باقيةً على قوّتها. لكن هذا الإشكال غير وارد أيضاً، إذ في الطلاق العادي الذي يدفع فيه الرجل المهر ويطلّق زوجته ستكون الزوجة بلا زوج، وهذا ما يؤدي إلى ضياع حقّ المرأة، وقد علمتَ أنه لا ضياع للحقوق في الموردين معاً، ولم يحلقهما ظلم، ذلك أن ما قدّمه كل واحد منهما بعنوان العوض قد عاد إليه. يقضي الارتكاز والاعتبار العقلائي في العقود بأنه إذا كان عقدٌ ما لازماً فإن لزومه يكون من ناحية طرفي العقد، كذلك إذا كان جائزاً فإن جوازه يطالهما معاً، أما الاختلاف بين الطرفين في لزوم العقد وجوازه، بحيث يكون لازماً بالنسبة لأحد الطرفين وجائزاً بالنسبة للطرف الآخر، فهو مخالف للارتكاز العقلائي; إذ لا يرى العقلاء مبرراً لإعطاء أحد الطرفين قرار فسخ العقد باختياره فيما يُحرم الطرف الآخر من هذا الحق، بل يرونه تمييزاً وترجيحاً بلا مرجّح ولا مبرّر، بل هو ـ إذا تحقق ـ يضيّع حقوق الأفراد، ويخالف الحياة الاجتماعية، كما يناقض مبدأ المساواة في القوانين. يضاف إلى ذلك أن استقراء تمام العقود التأسيسية والإمضائية ودراستها يدلّ على موافقة ما قلناه من الاعتبار العقلائي، فلا يمكن أن نجد عقداً يكون لازماً من أحد الطرفين فيما يكون جائزاً من الطرف الآخر، فإذا كان لأحد الطرفين حق فسخ العقد وإلغائه فلابد أن يثبت هذا الحق للطرف الآخر. وفي مسألتنا هنا، لا يقبل العقلاء أن يكون للرجل الحقّ ـ متى أراد ـ أن يفسخ أو يلغي أو يبطل عقد النكاح القائم بطرفين اثنين، فيما تسلب المرأة التي هي طرفٌ أساس في هذا العقد من مثل هذا الحقّ، وبناءً عليه يقول العقلاء: إنه حيث لا مجال لأن تطلّق المرأة نفسها، فلابدّ من العثور على سبيل يمكّن المرأة من إلزام الرجل بإلغاء العقد، ولو لم يرغب الرجل في ذلك أو يرده; حتى تتم بهذه الطريقة مراعاة البناء العقلائي في العقود، وهو البناء الذي لم يرد أيّ دليل على الردع عنه، لا عموماً ولا خصوصاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الارتكاز العقلائي في العقود ممضى من الشارع أيضاً ومقبول، إلا في موارد منع الشارع نفسه عنها، فعندما نقول: من الجائز للرجل متى أراد أن يطلّق زوجته مع دفعه المهر لها، فهذا إنما يقبل عقلائياً به ويحكم العقلاء بكونه حكماً عادلا عندما تطالب المرأة به، وتدفع المهر أو تهبه وتتنازل عنه، فيكون الرجل ملزماً بطلاق المرأة، وهذه الملازمة توافق الأصول والضوابط الإسلامية وكذلك عدالة الأحكام التشريعية، التي تدلّ عليها أيضاً نصوص الكتاب والسنّة، قال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلا لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)([46])، وقال سبحانه: (...وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ)([47])، كما يعتبر العقلاء أن ما يخالف هذه الملازمة مخالفٌ للعدل فيكون ظلماً. بعبارة أخرى: يعتبر العقل والعقلاء من القبيح أن يكون هناك أمرٌ غير اختياري ـ وهو الرجولة أو الأنوثة ـ سبباً لإعطاء تمام الصلاحيات لأحد طرفي العقد، ويكون هذا الأمر غير الاختياريّ نفسه موجباً لفقد أحد الطرفين المستعدّ لمراعاة تمام الحقوق... صلاحياته; فإن الرجولة أو الأنوثة ليست في يد الإنسان، قال تعالى: (...يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ)([48]). ونشير إلى أن أي مقنّن في الأمور الاختيارية الإرادية يمكنه أن يضع تفاوتاً واختلافاً ـ حسب المصالح الكامنة في تقنيناته ـ بين الأفراد في صلاحياتهم وحقهم في الاختيار والانتخاب والإرادة، ولا يوجد قبح عقلي ولا ظلم في ذلك; لا في الأمور غير الاختيارية كالذكورة والأنوثة. 3 ـ حكم العقل يحكم العقل بقبح تمكين الزوج لوحده من طلاق زوجته مع دفعه المهر لها متى أراد حتى لو لم ترضَ الزوجة بذلك، فيما تحرم المرأة من ذلك، فلا تقدر ـ ولو بالتخلّي عن مهرها أو دفعه ـ أن تلزم الزوج بطلاقها، ففي هذا النوع من الموارد يحكم العقل بأنّ هذا ظلم على المرأة، لأن العقل لا يرى اختلافاً بين المرأة والرجل في مثل هذا الحقّ; فإذا أراد الشارع الردع عن هذا الحكم العقلي أو الارتكازات العقلائية فمن الضروري أن يردع عبر نصوص كثيرة وصريحة، ويبيّن خطأ هذه الارتكازات واشتباهها، فالشارع يجب عليه أن يبيّن خطأ حكم العقل بالظلم أو القبح في فعل ما، بياناً واضحاً جلياً متيناً، وإلا فرواية واحدة أو دليل شرعي يقع على خلاف حكم العقل سوف يسقطان عن الحجية تلقائياً، ذلك أن المخالف لحكم العقل لا يمكنه أن يكشف عن بطلان الإدراك العقلي، وبناءً عليه فالشارع الحكيم مطالب بتفهيم خطأ الإدراك العقلي للمكلّف عبر إقامة أدلّة وبراهين ونصوص كثيرة. ومن الواضح أن موردنا لا توجد فيه أيّ رواية أو نصّ، فكيف بنصوص وروايات كثيرة! وغاية ما يمكن الاستناد إليه والتمسك به هو إطلاق الحديث القائل: «الطلاق بيد من أخذ بالساق»([49])، وهو حديث مخالف لمبدأ العدل ورفض الظلم في أحكام الإسلام، وقد بيّنا أنه لا حجية لظهور الدليل المخالف للأصول المسلّمة العقلية والنقلية، وهي العدل، وعدم الظلم في أحكام الإسلام، وعدم مخالفة الأحكام للعقل، فماذا لو أردنا أن يكون إطلاق مثل هذه الرواية هو الدليل هنا؟! من هنا لا سبيل ـ مع حكم العقل بظلم الحكم بجواز (وعدم وجوب) الطلاق على الرجل مع كراهة الزوجة وتقديمها المال له وقبحه ـ سوى القول بوجوب مثل هذا الطلاق الخلعي; انطلاقاً من حكم العقل بقبح الجواز، وحكمه بحسن اللزوم والإيجاب. __________________________________________ [46] . الأنعام: 115. [47] . فصّلت: 46. [48] . الشورى: 49. [49] . سنن الدارقطني 4: 37، ح 103.
|