|
الاستدلال علی حرمة الغیبة بالکتاب
وأمّا الکتاب، فاستدلّ عليه بآیات: منهـا: قـوله تعالی: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضـاً أَ يُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾.([1151]) ففي جعل المؤمن في الآیة أخاً تنزیلاً وعرضه کلحمه والتفكّه به أکلاً وعدم شعوره بذلك حالة موته تنزیلاً، دلالة علی الحرمة، کما أنّ ما في صدرها من النهي﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضاً﴾ دلالة علی الحرمة أیضاً؛ لمکان النهي. فإنّـه ظاهر في الحرمة، أو حجّة علیها علی اختلاف المبنی المذکور في محلّه. هذا، بل لك أن تقول: إنّ في الآیة الشریفة شواهدٌ وقرائن ثلاثـة علی کون المراد من النهي، الحرمة؛ أحدها: سیاق الآیة؛ حیث إنّ النهي عن الغیبة واقع في السیاق الدالّ علی حرمة بعض الظنّ بالأمر بالاجتناب عنه وبکونه إثماً، وعلی حرمة التجسّس بالنهي عنه، وبما أنّ النهي عن الغیبة واقع في سیاقهما ممّا لاریب في دلالة الآیة علی حرمتهما، فالمراد من النهي عن الغیبة، الحرمة؛ لوحدة السیاق. ثانیها: ما في آخر الآیة من الأمر بتقوی الله، فإنّ الظاهر کونه قرینة علی حرمة الغیبة، وأنّ النهي عنها بقوله: ﴿وَلَا يَغْتَبْ﴾ یکون نهیاً مولویّاً تحریمیّاً، بل صریحٌ في ذلك؛ حیث إنّ تقوی الله غیر مناسبٍ مع الحکم الإرشاديّ، بل التقوی المطلق؛ لعدم الحکم والدستور فیه حتّی یتقی المکلّف من الله، فالمناسب معه الحکم التکلیفيّ المولويّ، کما لا یخفی. ثالثها: ظهور النواهي والأوامر في المولویّـة، وأنّ الحمل علی الإرشاد محتاجٌ إلی القرینة. هذا کلّه، مضافاً إلی ما روي عن الإمام أبومحمّد العسکري(علیه السلام) في تفسیره المنسوب إلیه: «إعلموا أنّ غیبتکم لأخیکم المؤمن من شیعة آل محمّد(علیهم السلام) أعظم في التحریم من المیتـة، قـال الله عـزّوجـلّ: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُکُمْ بَعْضاً أَيُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾»([1152]).([1153]) والمناقشة في ذلك بأنّ قوله تعالى: ﴿أَ يُحِبُ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ﴾ قرينة على الحمل على الإرشاد؛ حيث إنّها بمنزلة العلّة للنهي عن الغيبة، وظهور العلّة مقدّم على ظهور المعلول. ففیها أوّلاً: إنّها لم يبيّن كونه علّة للحكم ولا كونه بمنزلة العلّة له، بل هو لتقريب حرمة الغيبة إلى ذهن السامعين، وهذا يدلّ على اهتمام الله تبارك وتعالى بأمر الغيبة، حيث تكفّل لبيان زائد لتقريبها إلى الذهن. وثانياً: إنّ تقدّم ظهور العلّة على ظهور المعلول أو عکسه أمرٌ عقلائيّ يختلف بحسب المقامات وبحسب قـوّة الظهور فيهما، وظهور النهي هنا أقوى من ظهور الذيل؛ لما مرّ من الشواهد الثلاثـة علی ذلك، فيقدّم عليه. ومنها: قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَة لُّمَزَة * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفْئِدَةِ﴾.([1154]) وفيه أوّلاً: أنّ الهمز واللمز بمعنى كثير الطعن على الغير بغير حقّ، والطعن مبائن للغيبة مفهوماً ومصداقاً، ولا أقلّ من أن يكون بين العنوانين عموم وخصوص من وجه، فلا تدلّ حرمة الهمز واللمز على حرمة الغيبة إلّا في المصاديق التي صدق عليه عنوان الهمز واللمز. وثانياً: أنّ الحرمة في الآية الشريفة تعلّقت بالطعن الخاصّ، وهو طعن الأغنياء للفقراء فيما يرجع إلى طغيان الغنيّ وتحقير الفقير وتمسخره، ويشهد عليه ما بعدها من قوله تعالی: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾. ومنها: قوله تعالى: ﴿لَا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً﴾.([1155]) وفيه: أنّ الجهر بالسوء غير الغيبة؛ من جهة أنّ الغيبة يمكن أن لا يكون جهراً، مثل ما إذا کان السامع لها شخصاً واحداً، لاسیّما إذا کان من أصحاب الستر، ومن جهة أنّ الغيبة عبارة عن إظهار ما ستره الله حسداً عليه، والجهر بالسوء يمكن أن يكون الداعي إليه غير الحسد، کالتظلّم. ومنها: قوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾.([1156]) وفيه أوّلاً: أنّ الآية الشريفة مربوطة بحبّ شيوع نفس الفاحشة في الذين آمنوا، لا بإظهار الفاحشة والإخبار بها وإعلامها فقط من دون حبّ الشيوع. وثانیاً: أنّ المراد من الفاحشة في الآیة، القذف ونسبة الزنا إلی المحصنات الغافلات المؤمنات، کما یظهـر من الآیات السابقة ([1157])واللاحقـة ([1158])علیـها، والإفك في قوله تعالی: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْکِ﴾،([1159])والإفك وإن کان بمعنی مطلق التهمة، لکنّ المراد منه هنـا هو القـذف بقرینـة ما بعـده من قـوله تعالی: ﴿وَقَالُوا هٰذَا إِفكٌ مُبِينٌ * لَوْ لَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولئكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْکَاذِبُونَ﴾.([1160]) وبقرینة جعل العذاب للّمحبّ لتشیع الفاحشة في الدنیا والآخرة، فإنّ الظاهر من عذاب الدنیا، بل المعلوم هو حدّ القاذف. هذا، ولکن مع ما ذکر من المناقشات یمکن الاستدلال بها بدعوی أنّ المراد من حبّ شیوعها ولو بملاحظة ورود الآیة في ذیل قضیّـة الإفك، هو نفس إشاعتها، أو یقال: إنّ المراد بتشیع الفاحشة إظهارها وإفشائها، إلّا أنّ الاستدلال بنفس الآیة للمدّعي، مع ما مرّ من المناقشة فیه بأنّ المراد من الفاحشة القذف والإفك غیر تمام، کما لایخفی، حتّی مع ما ذکر من الوجهین([1161]) أیضاً. نعم، یتمّ الاستدلال بها بمعونة الروایات، کمرسلة ابن أبي عمیر، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «من قال في مؤمن ما رأته عینـاه وسمعته أُذنـاه فهـو مـن الذین قـال الله عزّوجـلّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾»([1162]).([1163]) ومرسلاته بحکم الصحاح، لکن في محکيّ أمالي الصدوق روایتها عن ابن أبي عمیر، عن محمّد بن حمران، عنه(علیه السلام)،([1164]) وهو إمّا النهدي الثقة،([1165])وهو الأقرب؛ بناء علی أنّ ابن أبي عمیر لایرسل إلّا عن ثقة، والظاهر أنّها عین المرسلة. أو من آل أعین، وهو حسنٌ لو لم یکن ثقةٌ باعتبار عدّه ابن أبي عمیر في محکيّ الأمالي([1166]) بسند صحیح من مشایخه مع أبان بن عثمان وهشام بن سالم.([1167]) بل یمکن الاستشهاد علی وثاقته بإرسال ابن أبي عمیر عنه علی هذا الاحتمال. لکن یحتمل أن یکون إرساله عن هشام، کما في الروایة الآتیة، ولابأس به بعد وثاقة هشام.([1168]) وکیف کان، فالروایة صحیحة دالّة علی أن مطلق الغیبة داخل في الآیة الکریمة، فتدلّ علی أنّ المراد بالآیة لیس الحبّ فقط، ولا الشیاع بمعناه المعروف، بل مطلق الإظهار وکشف الستر. ولو کان المراد به الإلحاق الحکميّ بلسان الإلحاق الموضوعيّ، کما سنشیر إلیه في استماع الغیبة، فلایضرّ بالاستدلال علی المطلوب. وکما في تفسیر البرهان، عن تفسیر عليّ بن إبراهیم، قال: حدّثني أبي، عن ابن أبي عمیر، عن هشام، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «من قال في مؤمن ما رأت عیناه وسمعت أُذناه کان من ﴿الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾»([1169]).([1170]) وفي مجمع البحرین: وروي فیما صحّ عن هشام، عن أبي عبدالله(علیه السلام).([1171]) فالآیة من آیات حرمة الغیبة. ---------------------------- [1151]. الحجرات (49):12. [1152]. الحجرات (49):12. [1153]. التفسير المنسوب إلي الإمام العسکري(عليه السلام): 245، السورة التي يذکر فيها البقرة، الحديث 350؛ مستدرك الوسائل 9: 113، کتاب الحجّ، أبواب أحکام العشرة، الباب 132، الحديث 1. [1154]. الهمزة (104): 1ـ 7. [1155]. النساء (4): 148. [1156]. النور (24): 19. [1157]. النور (24): 11ـ 19. [1158]. النور (24): 23. [1159]. النور (24): 11. [1160]. النور (24): 12و13. [1161]. أي بدعوي المراد، أو أنّ المراد بتشيع الفاحشة إظهارها. [1162]. النور (24): 19. [1163]. الكافي 2: 357، باب الغيبة والبهت، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 12: 280، کتاب الحجّ، أبواب أحکام العشرة، الباب 152، الحديث 6. [1164]. الأمالي (للصدوق): 276، المجلس الرابع والخمسون، الحديث 16. [1165]. اُنظر: تنقيح المقال 3: 110، الرقم 10633. [1166]. نفس الهامش والمصدر الأمالي. [1167]. اُنظر: تنقيح المقال 3: 110، الرقم 10631. [1168]. اُنظر: تنقيح المقال 3: 301، الرقم 12858. [1169]. النور (24): 19. [1170]. البرهان في تفسير القرآن 3: 128؛ تفسير القمّي 2: 100. [1171]. مجمع البحرين 4: 355، مادّة: «شيع».
|