|
الطائفة الثانية: الروايات التي تفسّر ﴿لـَهْوَ الـْحَدِيثِ﴾ بالغناء
فمنها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر(علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «الغناء ممّا وعد الله عزّوجلّ عليه النار»، وتلا هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لـَهْوَ الـْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾([827]).([828]) ومنها: رواية مهران بن محمّد، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «الغناء ممّا قال الله عزّوجل: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لـَهْوَ الـْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.([829]) ومنها: صحيحه الوشّا، قال: سمعت أبا الحسن الرضا(علیه السلام) يقول: «سئل أبوعبدالله عن الغناء؟ فقال: هو قول الله عزّوجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لـَهْوَ الـْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.([830]) ومنها: رواية الحسن بن هارون، قال: سمعت أبا عبدالله(علیه السلام) يقول: «الغناء مجلس لا ينظر الله إلى أهله، وهو ممّا قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَـهْوَ الـْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾.([831]) ومنهـا: مرسلـة الفضل بن الحسن الطبرسي في (مجمع البيان)، قال: روي عـن أبي جعفر وأبي عبدالله وأبي الحسن الرضا(علیهم السلام) في قول الله عزّوجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾([832]) أنّهم قالوا: «منه الغناء».([833]) ووجه شمول ﴿لَـهْوَ الْحَدِيثِ﴾ للغناء هو الوجه في شمول ﴿قَوْلَ الزُّورِ﴾ له بالتقريب المتقدّم؛ من تنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّـة العرفيّـة، لا من باب الوجوه المذكورة في كلام سيّدنا الاُستاذ (سلام لله علیه) في ﴿قَوْلَ الزُّورِ﴾ وفي ﴿لَـهْوَ الْحَدِيثِ﴾، حيث قال: «ووجه دخوله في لهو الحديث هو الوجه في دخوله في قول الزور».([834]) وذلك لما ذكرناه في الآية السابقة من أنّ الوجوه المـذكورة في كـلام سيّدنـا الاُستـاذ (سلام لله علیه) من الشمول على نحو المجاز اللغويّ المشهور أو المجاز الادّعائي، مخالفٌ لظاهر الآية، فإنّ الغناء لا يكون من مصاديق لهو الحديث حقيقة؛ إذ الغناء من مقولة الصوت، لا من مقولة الحديث. والقول بأنّ المراد من ﴿لَـهْوَ الْحَدِيثِ﴾ ما يشمل الغناء الذي من مقولة الصوت على نحو المجاز مخالفٌ للظاهر، والروايات المخالقة لظاهر القرآن ليست بحجّة. وأمّا ما ذهبنا إليه من شمول لهو الحديث للغناء من باب تنقيح المناط وإلغاء الخصوصيّـة العرفيّـة موافقٌ لظاهر القرآن والروايات غير المخالفة للقرآن، حجّة، فضلاً عمّا يكون موافقاً له. وعلی ما ذكرنا يكون الغناء على قسمين: ما يكون ملهياً ويستعمل ليضلّ عن سبيل الله، فهو حرامٌ، وما يكون غير ملهي عن الحقّ ولا يستعمل لإضلال الناس فلا يكون محرّماً؛ لعدم دلالة الآية الشريفة ولا هذه الروايات المفسّرة على حرمته، فالغناء المستعمل للتعليم مثلاً. وفي قراءة القرآن والمراثي وغيرها ممّا لايكون ملهياً عن الحقّ ولاكونه مضلاً عن سبيل الله، الظاهر عدم حرمته. ثمّ إنّ سيّدنا الاُستاذ (سلام لله علیه) ذكر في ذيل الاستدلال بهذه الروايات أموراً ينبغي لنا التعرّض لها. منها أنّـه: لولا الروايات المفسّرة، كان ظاهر الآية حرمة اشتراء لهو الحديث؛ أي الأخبار الموجبة بمدلولها لإلهاء الناس وإضلالهم عن سبيل الله، كما ورد في سبب نزولها أنّ النضر بن الحرث كان يخرج إلى فارس، فيشتري أخبار الأعاجم ويحدّث قريشاً ويصرفهم عن استماع القرآن،([835]) فلم تكن شاملة للغناء الذي هو من كيفيّات الصوت، ولا دخل له بمدلول الحديث ومضمونه، لكن بعد تفسيرها به وقلنا بدخوله فيها بالتقريب المتقدّم في الآية المتقدّمة، يصدق على من تعلّم الغناء للتغنّي: أنّـه اشترى لهو الحديث ليضلّ عن سبيل الله.([836]) والأمر كما ذكره سيّدنا الاُستاذ (سلام لله علیه)، فإنّـه لولا الأخبار المفسّرة لم تكن الآية شاملة للغناء؛ لأنّ الغناء من مقولة الصوت، ولهو الحديث من مقولة الكلام، فلا تكون الغناء من مصاديق لهو الحديث، فلا تعمّه الآية. ومنها: إنّ الإضلال في الآية الشريفة: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾([837]) أعمّ من الإضلال بالفعل والإضلال بالقوّة، فالغناء المستعمل في قراءة القرآن والمراثي محرّم وإن لم يكن بالفعل موجباً للإضلال؛ لكونه موجباً لها بالقوّة، لأنّ الغناء بذاته مع تجريده عن معاني الألفاظ أو مع سماعه أو عدم فهم المعنى ممّا يترتّب عليه، ولو اقتضاءً، الصدّ عن سبيل الله والغفلة عن ذكر الله، وربّما ينجرّ به إلى فعل الكبائر وترك الواجبات، ومع العلم بأنّ ذلك من مقتضيات ذات الغناء وتعلّمه للتغنّي يصدق أنّـه تعلّم للإضلال؛ أي تعلّم ما يترتّب عليه ذلك. فالإشكال بأنّ التغنّي بالمواعظ والقرآن لايترتّب عليه ذلك، مدفوعٌ بأنّ هذا من مقتضيات نفس الغناء لو جرّد عن مداليل الألفاظ، والمفروض أنّ الغناء بذاته داخل في الآية، كما هو مفاد الأخبار.([838]) ويرد عليه: أنّ ما ذكره (سلام لله علیه) مخالف للظاهر؛ لأنّ الألفاظ ظاهر في المصاديق الفعليّـة، والحمل على المصاديق بالقـوّة خلاف الظاهر، مثلاً قول المولی: «أكرم العالم» ظاهر في العالم الفعلي، لا العالم بالقـوّة، وكذا قوله تعالى:﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾،([839]) ظاهر في الإضلال الفعلي، لا الإضلال الشأني وبالقـوّة، فكيف يمكن حمل الإضلال على الأعمّ من الإضلال الفعلي والإضلال بالقـوّة. ومنها: أنّ اللام في قوله تعالى: ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ﴾ لام النتيجة لا الغرض، مثل قوله تعالى: ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً﴾،([840]) وكقول عليّ(علیه السلام): «لدوا للموت واجمعوا للفناء وابنوا للخراب»،([841]) ولام النتيجة أعمّ من كون النتيجة غاية أيضاً أم لا، فتشمل مورد الغرض وغيره. وذلك لأنّ مقتضى إطلاق الأخبار أنّ مطلق الغناء داخل في الآية وأوعد الله عليه النار، مع أنّـه قلّما يتّفق لشخص أن يكون غاية تعلّمه للغناء أو تغنّيه، الإضلال عن سبيل الله والصدّ عنه. فعليه، يكون عدّ الغناء من الآية بنحو الإطلاق كحمل المطلق على الفرد النادر جدّاً، فقوله: «الغناء ممّا وعد الله عليه النار»([842]) في الآية، مع عدم دخوله فيها إلّا ما هو نادر كالمعدوم، يعدّ مستهجناً قبيحاً، فلابدّ وأن تحمل اللام على النتيجة أعمّ من كونها غايةً أو لا.([843]) ويرد عليه: أنّ الغالب في المتعلّمين للغناء في الأزمنة السابقة، بل اللاحقة إلى يومنا هذا، أنّ تعلّمهم للغناء كان بغرض إضلال الناس عن سبيل الله والصدّ عنه، فإنّ المتعلّمين للغناء إنّما يتعلّمونها للتغنّي في المجالس اللهويّـة المنعقدة للإضلال عن سبيل الله والصدّ عنه، لا للتغنّي بقراءة القران والمراثي، فلا يكون عدّ الغناء من الآية كحمل المطلق علی الفرد النادر، فلا يعدّ قوله: «الغناء ممّا وعد الله عليه النار» في الآية مستهجناً قبيحاً. -------------------- [827]. لقمان (31): 6. [828]. الكافي 6: 431، باب الغناء، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6. [829]. الكافي 6: 431، باب الغناء، الحديث 5؛ وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 7. [830]. الكافي 6: 432، باب الغناء، الحديث 8؛ وسائل الشيعة 17: 306، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 11. [831]. الكافي 6: 433، باب الغناء، الحديث 16؛ وسائل الشيعة 17: 307، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 16. [832]. لقمان (31): 6. [833]. مجمع البيان 7 ـ 8: 490؛ وسائل الشيعة 17: 310، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 25. [834]. المكاسب المحرّمة 1: 312. [835]. راجع: مجمع البيان 7 ـ 8 : 490؛ والکشّاف 210:3، في ذيل الآية 5 من سورة لقمان. [836]. المكاسب المحرّمة 1: 313. [837]. لقمان (31): 6. [838]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 312 ـ 313. [839]. لقمان (31): 6. [840]. القصص (28): 8. [841]. نهج البلاغة: 493، كلمات 132. [842]. تقدّم آنفاً في الصفحة 274 و 297؛ وراجع: الكافي 6: 431، باب الغناء، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 17: 304، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 99، الحديث 6. [843]. راجع: المكاسب المحرّمة 1: 313 ـ 314.
|