|
الاستدلال علی حرمة الرشوة فیما تعمّ على خلاف الحقّ أو بالحقّ
وأمّا حرمة ما تعمّ، ـ أي الحرمة حتّى فيما إذا بذله الراشي ليحكم له بالحقّ ـ ففي المستند([435]) أنّـه مقتضى إطلاق الأكثر وتصريح والدي العلّامة في معتمد الشيعة.([436]) وعن ظاهر المقنعة([437])والمحكيّ عن القاضي:([438]) الجواز. واستدلّ على الحرمة بوجوهٍ، إثنان منها لصاحب المستند، ففيه ما حاصله الاستدلال عليها أوّلاً: بصدق الرشوة لغةً وعرفاً على ما إذا دفع المال إلى القاضي للحكم بالحقّ، المؤيّد بما هو ظاهر تفسير الرشوة في القاموس بالجعل.([439])وفي المصباح: «ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له، أو يحمله على ما يريد».([440]) وعن النهاية لابن الأثیر: «أنّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة».([441]) فهذه العبائر الثلاث ظاهرة في تعميم الرشوة لغةً لما إذا دفعت للحكم للراشي، حقّاً كان أو باطلاً. وبعد الصدق العرفيّ، مقتضى إطلاق الأدلّة حرمتها. وثانياً: بالصحيحة، حيث قال: ويدلّ عليه استعمالها فيما أعطي للحقّ في الصحيح: عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحولّ من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس به»،([442]) فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة، كما حقّق في موضعه. نعم، عن النهاية الأثيريّـة ربّما يشعر بالتخصيص.([443]) وفي كلا الوجهين ما لا يخفى. ففي الأوّل منع الصدق عرفاً؛ لعدم معلوميّـة معناه العرفيّ ومفهومه، والعهدة على مدّعيه. وما جعله(رحمه الله) مؤيّداً لمدّعاه، ففيه: مضافاً إلى أنّ من نصّه المعلوم عدم كون مراد القاموس من الجعل مطلقة، وإلّا يلزم حرمة الجعل في الإجارة والجعالـة ونحوهما، وهو كما ترى. وبعد ما لم يكن المطلق مراداً، بل المراد بعض أفراده ـ مع عدم التعیيّن ـ يصير مجملاً، فكيف يكون مؤيّداً؟ هذا، مع ما فيه من تفسيره الرشوة بما يلزم منه العار، ولا عار ولا ذمّ في بذل الراشي ليحكم المرتشي بالحقّ، إن لم نقل بالحُسن فيه، كما أنّ في صدر كلام النهاية لابن الأثیر وذيله من التهافت أنّ ما في عبائرهم معارضٌ بما في المنجد وأقرب الموارد والنهاية، بل وبما في مجمع البحرين والمصباح، ومع التعارض، كيف يكون مؤيّداً؟ ولكن في النهاية بعد ما نقلناه عنه، ما يستفاد منه الاختصاص، حيث قال: والرائش الذي يسعى بينهما، يستزيد لهذا ويستنقص لهذا.([444]) وكذلك المستفاد من مجمع البحرين، قال: الرشوة قلّما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.([445]) وفي الثاني ـ أي الصحيحة ـ فيأتي الكلام فيه.([446])هذا كلّه في وجهي المستند. وثالث الوجوه، الأخبار الخاصّة: منها: ما رواه دعائم الإسلام، عن جعفربن محمّد(علیه السلام): «من أكل السحت الرشوة في الحكم»، قيل: يابن رسول الله؛ وإن حكم بالحقّ؟ قال: «وإن حكم بالحقّ، فأمّا الحكم بالباطل فهو كفر، قال الله عزّوجلّ: ﴿وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾»([447]).([448]) فإنّها نصّ أو كالنصّ على عدم اختصاص الرشوة بالدفع للحكم بالباطل، بل تعمّ للدفع للحكم بالحقّ أيضاً. ومنها: ما عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر(علیهما السلام)، قال: قال موسى بن عمران (على نبيّنا وآله وعليه السلام): إلهي مَن أصفياؤك من خلقك؟ قال: «الرَيّ الكفّين، الرَيّ القدمين، يقول صدقاً، ويمشي هوناً، فأولئك تزول الجبال ولا يزالون» قال: إلهي فمن يَنزل دار القدس عندك؟ قال: «الذين لاتنظر أعينهم إلى الدنيا، ولا يُذيعون أسرارهم في الدين، ولا يأخذون على الحكومة الرشاء، الحقّ في قلوبهم، والصدق على ألسنتهم، فأولئك في سِتري في الدنيا وفي دارالقدس عندي في الآخرة».([449]) ومنها: رواية يوسف بن جابر عن أبي جعفر(علیه السلام)، عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً يحتاج الناس إلى فقهه (نفعه) فسألهم الرشوة».([450]) تقريب الاستدلال: أنّ الفقيه القاضي إذا أراد أن يحكم بين الناس في الشبهة الموضوعيّـة أو الحكميّـة، فسألهم الرشوة في حكمه وقضائه، كان مورداً للّعن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، الظاهر في الحرمة بقرینة السیاق، ولا يكون شخصاً متعلّقاً للعنه(صلی الله علیه و آله و سلم)إلّا بفعله المحرّم. ولكن يمكن أن يناقش فيه أوّلاً: بأنّ الرواية على بعض النسخ كلمة «نفعه» بدل «فقهه»، وعليه، لاتدلّ على حرمة الرشوة. وثانياً: أخذ الأجرة على الفقه لا إشكال فيه، وإنّما الحرمة متعلّقة بالرشوة له، دون الأجرة. نعم الروایة تدلّ على حرمة من يحتاج الناس إلى فقهه أو نفعه، فيسألهم الرشوة لبيان المطلب بنفع الباذل للرشوة على خلاف الحقّ، أو للإتيان بالفعل كذلك. وبهذا البيان يصير هذه الفقرة مناسباً للفقرتين الأوليين في تعلّق اللعن، فإنّ هذه خيانة بالنسبة الی المجتمع والأمّة الإسلاميّـة، كما أنّ النظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له والخيانة في أخاه في امرأته، خيانة لأخيه المؤمن. ولزیادة توضیح في المطلب ينبغي نقل ما في مفتاح الكرامة، قال(قدس سره): والذي ينبغي أن يقال: أنّ هنا أجرةً وجعلاً ورزقاً ورشوةً، والقاضي إمّا أن يتعيّن على القضاء أو لا، وعلى التقديرين إمّا أن يكون ذا كفاية أو لا. والمراد من الأجرة ما يؤخذ من المتخاصمين أو غيرهما، كأهل البلد أو المحلّة؛ والجعل هو الأجرة، لكنّـها من المتخاصمين أو أحدهما لاتعدوهما، فيكون تابعاً للشرط قبل الشروع في سماع الدعوى، فإن شرطه عليهما أو على المحكوم عليه، فالفرق بينه وبين الرشوة ظاهر. وإن شرطه على المحكوم له، فالفرق أنّ الحكم لايتعلّق فيه بأحدهما بخصوصه، بل من اتّفق له الحكم منهما على الوجه المعتبر يكون الجعل عليه، وهذا لاتهمة فيه، ولا ظهور غرض، بخلاف الرشوة؛ لأنّها من شخص معيّن ليكون الحكم له إن كان محقّاً أو مبطلاً، وقد أخذ فيه أيضاً كالأجرة، بحيث لو لم يكن لم يفعل. والمراد بالرزق ما كان من بيت المال من المصالح منوطاً بنظر الحاكم، وصاحب الرياض([451]) جعل الرزق أعمّ من الأجر، ذكر ذلك في توجيه الخبر، وهو وهمٌ، كما ستسمع، وقد علمت أنّ الرشوة ما يعطيه ليحكم له بحقّ أو باطل، فكانت غير الثلاثة.([452]) هذا كلّه في الاستدلال برواية يوسف بن جابر، مضافاً إلى ما فيه من الضعف في السند. وأمّا رواية أبي حمزة، ففيه ـ مضافاً إلى الضعف في السند أيضاً ـ لا دلالة فيه على الحرمة؛ لكونه في مقام أوصاف الأصفياء. وأمّا رواية الدعائم، فليس لها سندٌ من رأس؛ لعدم السند لنا بکتابه. هذا، ولکن يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من مجموع الروايات هو أنّ الرشوة وإن كانت محرّمة مطلقاً، إلّا أنّ ما يبذل للحكم بالباطل حرمته أشدّ وأنّـه كفرٌ بالله العظيم، وأنّ ما يبذل للحكم بالحقّ حرمته أخفّ، وأنّـه سحتٌ؛ وذلك لأنّ ذلك مقتضى الجمع بين الروايات، فإنّها على قسمين: القسم الأوّل: ما يدلّ على أنّ الرشوة ليست من السحت، بل کفرٌ وشرك: منها: رواية عمّار بن مروان، قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحتٌ، والسحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أجور القضاة وأجـور الفواجر، وثمـن الخمر والنبيذ والمسكر، والربا بعـد البيّـنة، فأمّـا الرشوة ـ یا عمّار ـ في الأحكام، فإنّ ذلك الكفر بالله العظيم وبرسوله(صلی الله علیه و آله و سلم)».([453]) ومنها: مرسلة الطبرسي في مجمع البيان، قال: وروي عن أبي عبدالله(علیه السلام): «أنّ السحت أنواع كثيرة، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر بالله».([454]) ومنها: رواية سماعة، قال: قال أبوعبدالله(علیه السلام): «السحت أنواع كثيرة، منها: كسب الحجّام إذا شارط، وأجر الزانية، وثمن الخمر، فأمّا الرشا في الحكم، فهو الكفر بالله العظيم».([455]) فإنّ الظاهر منها بقرينة المقابلة والتفصيل بين السحت والرشاء، أنّ الرشاء ليست من السحت، بل هي كفرٌ بالله العظيم. القسم الثاني: ما يدلّ على أنّ الرشوة من السحت: فمنها: ما رواه يزيد بن فرقد، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: سألته عن السحت؟ فقال: «الرشا في الحكم».([456]) ومنها: موثّقة السكونيّ، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغيّ، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن».([457]) ومنها: ما رواه حمّاد بن عمرو وأنس بن محمّد، عن أبيه، جميعاً عن جعفر بن محمّد، عن آبائه(علیهم السلام) ـ في وصيّـة النبيّ لعليّ(علیه السلام) ـ قال: «يا عليّ؛ من السحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر الزانية، والرشوة في الحكم، وأجر الكاهن».([458]) فإنّ هذه الروايات الثلاث نصّ في أنّ الرشوة سحتٌ. والجمع بينها يكون بحمل ما دلّت على أنّها ليست بسحتٍ، بل هي الكفر بالله العظيم، على الرشوة به للحكم بالباطل، وبحمل ما دلّت على أنّها سحتٌ ممّا كانت كثيرة بالبذل للحكم بالحقّ. لا يقال: إنّ الجمع بين الروايات بهذا الجمع، تبرّعيّ لا شاهد عليه. لأنّـه يقال: على الجمع شاهد من نفس الروايات؛ حيث إنّ في الحكم بالباطل ستر للحقّ والعدل، وستر الحقّ والعدل كفرٌ بالله العظيم، فإنّ الكافر يستر الحقّ. وأمّا ما يبذل للحكم بالحقّ ليس فيه ستر الحقّ والعدل، فلا يكون كفراً، بل هو سحتٌ، فالمناسب بين الحكم والموضوع يقتضي أن يكون الرشوة التي هي الكفر بالله العظيم هي الرشوة للحكم بالباطل، والرشوة التي هي السحت هي ما يبذل للحكم بالحقّ. [الوجه] الرابع:([459]) أنّ أخذ الرشوة للحكم بالحقّ أيضاً يوجب إزالة الاستيثاق بالقاضي، بل يصير مورداً للتهمة والظنّـة. [الوجه] الخامس: أنّ أخذ الرشوة على الحقّ يوجب الاستدراج في الرشوة على الباطل. وتحصّل من جمیع ما ذکرناه أنّ الأقوی هو العمومیّـة التي کانت مختار المستند ووالده، وکانت مقتضی إطلاق الأکثر. ---------------- [435]. راجع: مستند الشيعة 71:17. [436]. لم نعثر عليه. [437]. المقنعة: 588. [438]. المهذّب 2: 600. [439]. راجع: القاموس المحيط 4: 483، مادّة: «رشو». [440]. راجع: المصباح المنير 1: 228، مادّة: «الرشو». [441]. راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 226، مادّة: «رشا». [442]. تهذيب الأحکام 6: 375 /1095، باب المكاسب، الحديث 216؛ وسائل الشيعة 17: 278، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 85، الحديث 2. [443]. مستند الشيعة 71:17. [444]. النهاية في غريب الحديث والأثر 2: 226، مادّة: «رشا». [445]. مجمع البحرين 1: 184، مادّة: «رشا». [446]. وهي صحيحة محمّد بن مسلم التي تأتي في الصفحة 167. [447]. المائدة (5): 44. [448]. دعائم الإسلام 2: 532، كتاب آداب القضاء، الحديث1891؛ مستدرك الوسائل 17: 353، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 1. [449]. الأمالي (للمفيد): 85، المجلس العاشر، الحديث 1؛ مستدرك الوسائل 11: 176، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 4، الحديث 15. [450]. الكافي 5: 559، باب نوادر، الحديث 14. وفيه: «عن جابر»، وفيه: «إلى نفعه»؛ تهذيب الأحکام 6: 224/534، باب من إليه الحكم و...، الحديث 26. وفيه: «عن يوسف بن جابر»، وفيه: «لفقهه»؛ وسائل الشيعة 223:27، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي، الباب 8، الحديث 5؛ وجامع أحاديث الشيعة 25: 596، أبواب جملة من أحکام الرجال والنساء الأجانب...، الباب 1، الحديث 37343؛ وفي الوافي 22: 862، تتمّة کتاب النکاح و...، أبواب معاشرة النساء، باب العفّة وترك الفجور...، الحديث 14، عن سيف، عن جابر. [451]. رياض المسائل 8: 183. [452]. مفتاح الكرامة 12: 320 ـ 321. [453]. معاني الأخبار: 318، باب معني الغلول والسحت، الحديث 1؛ الخصال: 329، باب الستّـة، ستّـة أشياء من السحت، الحديث 26؛ وتفسير العيّاشي 1: 321، الحديث 115؛ وسائل الشيعة 17: 95، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 12. [454]. مجمع البيان 3 ـ 4: 303؛ وسائل الشيعة 17: 96، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 16. [455]. الكافي 5: 127، باب السحت، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 17: 92، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 2. [456]. الكافي 5: 127، باب السحت، الحديث4؛ وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 4. [457]. الكافي 5: 126، باب السحت، الحديث 2؛ تهذيب الأحکام 6: 368/1061، باب المكاسب، الحديث 182؛ وسائل الشيعة 17: 93، كتاب التجارة، أبـواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 5. [458]. من لا يحضره الفقيه 4: 262/824، باب النوادر، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 17: 94، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 5، الحديث 9. [459]. من الوجوه التي استدلّ على حرمة الرشوة فيما تعمّ على خلاف الحقّ أو بالحقّ.
|