|
الاستدلال علی حرمة حفظ كتب الضلال
وكيف كان، فقد استدلّ علی حرمة حفظ كتب الضلال بخمسة عشر وجهاً: أحدها: ما ذکره الشیخ الأعظم([272]) من حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد. ثانیها: الذمّ المستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾.([273]) ثالثها: الأمر بالاجتناب عن قول الزور في قوله تعالى: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾.([274]) رابعها: قوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ﴾.([275]) خامسها: الآيات الدالّة على حرمة الكذب والافتراء على الله تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: ﴿انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً﴾.([276]) سادسها: قوله(علیه السلام) في رواية تحف العقول: «إنّما حرّم الله الصناعة التي حرام هي كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً»،([277]) بل قوله(علیه السلام) قبل ذلك: «أو يقوّی به الكفر والشرك من جميع وجوه المعاصي ـ إلی أن قال: ـ أو باب يوهن به الحقّ...».([278]) سابعها: رواية عبدالملك بن أعين، قال: قلت لأبي عبدالله(علیه السلام): إنّي قد ابتليت بهذا العلم، [علم النجوم] فأريد الحاجة، فإذا نظرت إلى الطالع ورأيت الطالع الشرّ جلست ولم أذهب فيها، وإذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: «تقضى»، قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك».([279]) ثامنها: رواية أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي جعفر(علیه السلام) التي استدلّ بها المستند، قال: «... من علّم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به، ولا ينقص أولئك من أوزارهم شيئاً»([280]).([281]) تاسعها: ما استدلّ به صاحب الجواهر من الأخبار([282]) التي تدلّ على وجوب جهاد أهل الضلال وإضعافهم بكلّ ما يمكن؛ ضرورة معلوميّـة كون المراد من ذلك تدمير مذهبهم بتدمير أهله، فبالأولى تدمير ما يقتضي قوّته.([283]) عاشرها: ما استدلّ به صاحب الجواهر أيضاً من أنّ كتب الضلال أولى بالحرمة من هياكل العبادة المبتدعة،([284]) فكما يجب إتلاف الهياكل العبادة المبتدعة، فكذلك كتب الضلال. الحادی عشر: حفظ كتب الضلال إعانة على الإثم والعدوان، وهي منهيّ عنها في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الاِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾.([285]) الثانی عشر: إنّ كتب الضلال منكر، ودفع المنكر واجب. الثالث عشر: إنّ في حفظ كتب الضلال احتمال الإضلال والابتلاء بالعذاب الأخروي، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلاً. الرابع عشر: حفظ كتب الضلال كاشف عن الرضا بالضلالة التي تحتويها هذه الكتب، والراضي بالإثم كالداخل فيه.([286]) الخامس عشر: الإجماع المنقول المدّعاة على حرمة حفظ كتب الضلال علی ما في مجمع الفائدة والبرهان. ([287]) هذه هي الوجوه الخمسة عشر التي استدلّ بها على الحرمة. وينبغي قبل البحث عن تماميّـة الوجوه المذكورة وعدمها، التعرّض لاُمورٍ: الأمر الأوّل: إنّ الاعتقاد المخالف للواقع إذا كان عن جهل وغفلة ليس بمحرّم ولا عقاب عليه، ولا فرق في ذلك بين المسائل المتعلّقة بأصول الدين وبين المسائل المتعلّقة بفروع الدين؛ لأنّ العقاب والعذاب عليه عقابٌ وعذابٌ على أمر غير مقدور، وهو قبيحٌ وممتنعٌ من الله تعالى. ولأنّـه مخالفٌ لقوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.([288]) ولحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. ولقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلّا مَا آتَاهَا﴾،([289]) ولقوله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلّا وُسْعَهَا﴾،([290]) ولقوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «رفع ما لا يعلمون».([291]) وبالجملة، كلّ ما يستدلّ به للبراءة للجهل والغفلة عن قصور في الفروع، يستدلّ به فيما يتعلّق بأصول الدين أيضاً. ولا فرق بين من كان في طبقة العوام ومن كان من صنف العلماء، فإنّ العالم أيضاً قد يعتقد أمراً مخالفاً للواقع، جهلاً قصوريّاً، ولذا نرى الاختلاف الكثير بين العلماء والفقهاء فروعاً وأصولاً، فبعضهم يفتى بوجوب شيء، وبعضهم بعدمه بل بحرمته. مثلاً: ذهـب كثـير من الفقهاء إلى حلّـيّـة حيل بـاب الـربـاء، وذهـب سيّـدنـا الاُستاذ (سلام لله علیه) إلى حرمتها؛ لأنّها مخالفٌ للعقل، وللزوم لغويّـة حرمة الرباء. وكذا في المسائل المتعلّقة بأصول الدين، فبعضهم يعتقد بأنّ الأمر الفلاني موافقٌ للصواب، وآخرٌ إلى بطلانه، كالاختلاف الواقع في المعاد الجسماني وأنّـه هل هو متعلّق بالجسم أم بالجسم والبدن كليهما؟ وممّا يشهد على ما ذكرناه ما ذهب إليه الشهيد الثاني (قدس سره) في المسالك ذيل عبارة المحقّق(قدس سره) في الشرائع في اعتبار الإيمان في الشاهد: «لاتّصافه بالفسق والظلم المانع من قبول الشهادة»،([292]) قال(قدس سره): ظاهر الأصحاب الاتّفاق على اشتراط الإيمان في الشاهد، وينبغي أن يكون هو الحجّة، واستدلّ المصنّف(رحمه الله) عليه بأنّ غيره فاسقٌ وظالمٌ، من حيث اعتقاده الفاسد الذي هو من أكبر الكبائر، وقد قال تعالى: ﴿إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا﴾،([293]) وقال: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾.([294]) وفيه نظر؛ لأنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه، بل مع اعتقاد أنّها طاعة، بل من أمّهات الطاعات، فلا. والأمر في المخالف للحقّ في الاعتقاد كذلك؛ لأنّه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهمّ الطاعات؛ سواء كان اعتقاده صادراً عن نظر أم تقليد، ومع ذلك لا يتحقّق الظلم أيضاً، وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به.([295]) الأمر الثاني: إنّ الأصل في التصرّف في أموال الناس وحقوقهم وحدودهم وشئونهم هو الحرمة إلّا مع رضاهم؛ قضاءً لأصالة الحظر، ولمنافاة الجواز مع كرامة الإنسان الذي جعله الله له بقوله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ...﴾.([296]) ويدلّ عليه أوّلاً: أنّـه من ضروريّات مذهب التشيّع، بل من ضروريّات الإسلام، فلا حاجة إلى ذكر الدليل وغنيّ عنه. وثانياً: قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لا يحلّ دم امرئٍ مسلم ولا ماله، إلّا بطيبة نفسه».([297]) فإنّ المال ما یبذل بإزائه شيء حسب رغبة العقلاء، فإنّ المالیّـة أمرٌ اعتباريّ یعتبره العقلاء وصفاً لشيء یرغب فیه؛ سواء كان ممّا يطلق عليه المال بالمعنى الأخصّ، أم من الحقوق الماديّـة، أم من الحقوق المعنويّـة، مثل حقّ التأليف والتصنيف، وحقّ الاختراع والتصنيع، وحقّ الحياة الوطنيّـة، وحقّ الحريّـة والتعيش. بل كلّما يرتبط بالغير، كمعلوماته، وكلامه الذي يتحدّث به ونحوهما، حقّ له ولا يحلّ لأحد أن يتصرّف فيه إلّا بطيبة نفسه، فإنّ المال من مقولة الإضافة، فكلّ شيء لـه إضافة إلى الغير، مال له، ولا يجوز لغيره التصرّف فيـه من دون إذنـه ورضاه. وثالثاً: الروايات الكثيرة، ولعلّها متواترة، الدالّة على أنّ التصرّف في حقوق الناس إثم ومعصية. مثل ما روي عن عليّ بن الحسين(علیهما السلام)، قال: «يغفر الله للمؤمن كلّ ذنب، ويطهّره منه في الدنيا والآخرة ماخلا ذنبين: ترك التقيّـة، وتضييع حقوق الإخوان».([298]) ورابعاً: قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «الناس مسلّطون على أموالهم».([299]) الأمر الثالث: إنّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تعمّها إذا كانا بالحرام وبالمنكر؛ لأنّها منصرفة عمّا كانا كذلك، فإنّ أدلّة الواجبات والمستحبّات كلّها منصرفة عمّا كان بالحرام. فإنّ من الواضح عدم شمول الأمر بإكرام الضيف ولو كان كافراً؛ بإكرامه بالزناء والفحشاء والفجور والخمور، وإن كان مشتهياً ومشتاقاً إليها. وبعبارة اُخرى: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لايتحقّق إلّا بالمعروف، فإنّ المنكر لا يوجب رفع المنكر ولا دفعه، كما لا يخفى، فإنّ النار لايطفئ النار. ---------------------- [272]. المکاسب 1: 233. [273]. لقمان (31): 6. [274]. الحجّ (22): 30. [275]. البقرة (2): 78. [276]. النساء (4): 50. [277]. تحف العقول: 335، باب ما روي عن الإمام الصادق(عليه السلام)...، جوابه(عليه السلام) عن جهات معايش العباد و...؛ وسائل الشيعة 17: 85، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 2، الحديث 1. [278]. نفس المصدر من التحف: 333؛ والوسائل17: 84. [279]. من لا يحضره الفقيه 2: 175/779، كتاب الحجّ، باب الأيّام والأوقات التي يستحبّ السفر...، الحديث 14؛ وسائل الشيعة 11: 370، كتاب الحجّ، أبواب آداب السفر، الباب 14، الحديث 1. [280]. الكافي 1: 35، باب ثواب العالم والمتعلّم، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 16: 173، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 16، الحديث 2. [281]. راجع: مستند الشيعة: 14: 157. [282]. اُنظر: وسائل الشيعة 15: 124، کتاب الجهاد، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه، الباب 47. [283]. راجع: جواهر الكلام 22: 57. وفيه استناد برواية التحف. [284]. راجع: جواهر الكلام 22: 56. [285]. المائدة (5): 2. [286]. اُنظر: وسائل الشيعة 16: 137ـ 143، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 5. [287]. مجمع الفائدة والبرهان 8 : 76. [288]. الإسراء (17): 15. [289]. الطلاق (65): 7. [290]. البقرة (2): 286. [291]. الكافي 2: 463، باب ما رفع عن الأمّة، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 15: 369، کتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الباب 56، الحديث 1 و3. [292]. شرائع الإسلام 4: 115. [293]. الحجرات (49): 6. [294]. هود (11): 113. [295]. مسالك الأفهام 14: 160. [296]. الإسراء (17): 70. [297]. الكافي 7: 273، باب القتل، الحديث 12؛ من لا يحضره الفقيه 4: 66/195، باب تحريم الدماء والأموال بغير حقّها و...، الحديث 1؛ وسائل الشيعة 5: 120، كتاب الصلاة، أبواب مكان المصلّي، الباب 3، الحديث 1. [298]. التفسير المنسوب إلي الإمام الحسن العسكري(عليه السلام): 293، في وجوب الاهتمام بالتقيّـة و...، الحديث 166؛ وسائل الشيعة 16: 223، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 28، الحديث 6. [299]. عوالي اللئالي 1: 222، الفصل التاسع في ذکر أحاديث...، الحديث 99؛ و1: 457، الباب الأوّل، المسلك الثالث، الحديث 198؛ و2: 138، تتمّة باب الأوّل، المسلك الرابع، الحديث 383؛ و3: 208، القسم الثاني، باب التجارة، الحديث 59؛ بحار الأنوار 2: 272، کتاب العلم، الباب 33، الحديث 7.
|