|
الاستدلال في حرمة التشبّه في اللباس
ثمّ إنّه قد وقع الكلام في حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر في اللباس، وقد استدلّ عليها بوجوهٍ: أحدها: الأخبار الواردة في النهي عن التشبّه في اللباس بخصوصه، وهي إثنان: أحدهما: روایة سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله(علیه السلام) في الرجل يجرّ ثوبه، قال: «إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء».([39]) وثانیهما: ما روي عن أبي عبدالله، عن آبائه(علیهم السلام)، قال: «كان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، وينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها».([40]) ويرد عليهما أوّلاً: أنّ سند الخبرين ضعيفٌ. وثانياً: أنّ الخبر الأوّل منهما ظاهر، بل نصّ في الكراهة، والخبر الثاني محمولٌ على الخبر الأوّل، فلا تدلّان على الحرمة. إن قلت: إنّ مادّة «الكراهة» في الروايات ليست بالمعنى المصطلح عندنا؛ لعدم ظهورها فيه. قلت: إنّ مادّة الكراهة، وإن كان عامّاً يشمل الحرمة والكراهة المصطلحة، إلّا أنّ إسناد الإمام الكراهة إلى نفسه، حيث قال: «إنّي لأكره» موجبٌ لظهورها في الكراهة المصطلحة، فإنّ المستفاد منها عدم كون هذا العمل مرضيّاً للإمام(علیه السلام). ثانیها: ما استدلّ به المقدّس الأردبيلي(قدس سره)([41])من أنّ تشبّه كلّ واحد منهما بالآخر غشّ، والغشّ محرّمٌ. وفيه: أنّ التشبّه بما هو هو ليس غشّاً. نعم، لو كان التشبّه بغرض التدليس يمكن أن يكون غشّاً، إلّا أنّ الكلام ليس فيه. ثالثها: ما استدلّ به السيّد صاحب الرياض([42])من أنّ فيه إذلال المؤمن نفسه المنهيّ عنه اتّفاقاً، نصّاً وفتوىً واعتباراً. وقد ورد روايات([43]) دالّة على أنّ الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كلّ شيء، إلّا إذلال نفسه. وفيه: أنّ التشبّه بما هو هو ليس إذلالاً للنفس، فإنّـه قد يكون إذلالاً للنفس، وقد لا يكون إذلالاً لها، فعليه كان الحرمة دائراً مدار الإذلال، لا التشبّه. رابعها: ما استدلّ به صاحب الرياض([44])ـ أيضا ًـ بأنّ التشبّه من لباس الشهرة المنهيّ عنه في الروايات: منها: صحيحة أبي أيّوب الخزّاز، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «إنّ الله تبارك وتعالى يبغض شهرة اللباس».([45]) ومنها: مرسلة ابن مسكان، عن رجل، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «كفي بالمرء خزياً أن يلبس ثوباً يشهره، أو يركب دابّـة تشهره».([46]) ومنها: مرسلة عثمان بن عيسی عمّن ذكره، عن أبي عبدالله(علیه السلام)، قال: «الشهرة خيرها وشّرها في النار».([47]) ومنها: رواية أبي سعيد، عن الحسين(علیه السلام)، قال: «من لبس ثوباً يشهره كساه الله يوم القيامة ثوباً من النار».([48]) دلالة الروايات على حرمة لبس لباس الشهرة، لا إشکال فیها ظاهراً إلّا أنّ الكلام في المراد منه، وفيه احتمالات: أحدها: أنّـه صار محرّماً؛ لأنّـه يوجب كون الشخص في معرض الاغتياب. ثانيها: أنّـه صار محرّماً؛ لأنّ فيه إذلال للنفس. ثالثها: أنّـه صار محرّماً؛ لأنّ فيه إرادة الاشتهار والرئاسة من جهة حبّه للرئاسة، وهذا مذمومٌ ومبغوضٌ. رابعها: أنّ لباس الشهرة محرّم مطلقاً؛ سواء يوجب الاغتياب أم لا، وسواء كان فيه إذلال للنفس أم لا، وسواء كان المنشأ له إظهار الرئاسة أم لا. فلو كان المراد من الروايات هو الاحتمال الأخير يمكن أن يدلّ على حرمة تشبّه كلّ من الرجل والمرأة بالآخر في اللباس أيضاً؛ لأنّ في تشبّه كلّ منهما بالآخر في اللباس يصدق لبس ثوب الشهرة غالباً، وأمّا لو كان المراد هو الاحتمالات الأخر فلا دلالة للروایات علی حرمة التشبّه؛ لکون الموضوع فیها غیره. والظاهر منها هو الاحتمال الثاني؛ أي ما كان اللباس موجباً لإذلال النفس ومهانتها. ويشـهد علیه رواية حمّاد بن عثمان، قـال: كنت حـاضراً عند أبي عبـدالله(علیه السلام) إذ قـال له رجلٌ: أصلحك الله، ذكرت أنّ عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) كان يلبس الخشن، يلبس القميص بأربعة دراهم وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيّد؟ قال: فقال له: «إنّ عليّ بن أبي طالب(علیه السلام) كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشهّر به، فخير لباس كلّ زمان لباس أهله، غير أنّ قائمنا إذا قام لبس لباس عليّ(علیه السلام) وسار بسيرته».([49]) هذه هي مجموع الأدلّة التي استدلّ بها على حرمة تشبّه كلّ منهما بالآخر في اللباس، ولكنّ القدر المتيقّن من مجموع الأدلّة هو حرمة التشبّه، وتزيّ الرجل بالمرأة إذا كان بغرض إظهار كونه مرأة، وكذا حرمة تشبّه وتزيّ المرأة بالرجل إذا كان بغرض إظهار كونها رجلاً. هذا مضافاً إلى أنّـه يصدق عليها التدليس والإغراء بالجهل، فلا ريب في حرمة هذا القسم من التشبّه. وأمّا إذا لم يكن التشبّه بذلك الغرض فلا دليل على حرمته. وممّا ذكرناه ظهر أنّـه لا دليل على حرمة لبس كلّ من الرجل والمرأة لباس الآخر إذا كان لأغراض أخر، مثل ما إذا كان اللبس بغرض صيانته عن الحرّ والبرد وحرارة الشمس، ومثل ما إذا كان ذلك لتجسّم واقعة كربلاء وإقامة التعزية لسيّد شباب أهل الجنّـة أبا عبدالله الحسين(علیه السلام)، ومثل ما يوجد ذلك في بعض الأفلام. -------------------- [39]. الكافي 6: 458، باب تشمير الثياب، الحديث 12؛ وسائل الشيعة 5: 42، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 23، الحديث 4؛ و5: 25، الباب 13، الحديث 1. وفيه: «عن سماعة بن مهران، عن أبي عبدالله، أو أبي الحسن(علیهما السلام)...». [40]. مكارم الأخلاق: 118، الباب السادس في لباس و..، الفصل السادس، في تشبّه الرجال بالنساء. وفيه بسقط «أن»؛ وسائل الشيعة 5: 25، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 13، الحديث 2. [41]. مجمع الفائدة والبرهان 8: 85. [42]. رياض المسائل 8: 174. [43]. راجع: وسائل الشيعة 16: 156، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، الباب 12. [44]. رياض المسائل 8: 173ـ 174. [45]. الكافي 6: 444، باب كراهيّـة الشهرة، الحديث 1؛ وسائل الشيعة 5: 24، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 12، الحديث 1. [46]. الكافي 6: 445، باب كراهيّـة الشهرة، الحديث 2؛ وسائل الشيعة 5: 24، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 12، الحديث 2. [47]. الكافي 6: 445، باب كراهيّـة الشهرة، الحديث 3؛ وسائل الشيعة 5: 24، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 12، الحديث 3. [48]. الكافي 6: 445، باب كراهيّـة الشهرة، الحديث 4؛ وسائل الشيعة 5: 24، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 12، الحديث 4. [49]. الكافي 6: 444، باب اللباس، الحديث 15؛ وسائل الشيعة 5: 17، كتاب الصلاة، أبواب أحكام الملابس، الباب 7، الحديث 7.
|