|
الإشكال الأوّل: مخالفتها للقرآن الكريم
لا شكّ في أنّ الرواية مهما كانت درجتها من الاعتبار السندي، إلّا أنّها إذا كانت ـ من حيث المحتوى ـ مخالفة لآيات القرآن الكريم، تكون فاقدة للحجيّـة، ولا يعود بالإمكان الاستناد إليها بوصفها من الأدلّة الفقهيّـة الحجّة شرعاً. من هنا، فعلى فرض وجود الإطلاق في روايات ضمان العاقلة، إلّا أنّ هذا الإطلاق حيث يخالف آيات القرآن الكريم، يكون ساقطاً عن الحجيّـة. وإنّ تقرير مخالفة هذه الروايات للقرآن الكريم في بعض صوره في غاية الوضوح. فعلى سبيل المثال: إذا كان القاتل بالغاً وعاقلاً وكان متمكّناً من الناحية الماليّـة، ولم تكن العاقلة ـ في المقابل ـ تتمتّع بالرفاه المادي، ولم تكن هي المسؤولة عن إدارة شؤون الجاني، كي نعتبرها مقصّرة، فإنّ فرض الدية على قرابة القاتل دون أن يكون لها دور في الجناية، سيكون من مصاديق حمل عقوبة شخص على آخر، وهو مخالف لقول الله سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)،[1] كما هو مخالف لسائر الآيات الأخرى الدالّة على مسؤوليّـة الفرد تجاه أعماله.[2] قد يقال: إنّ هذه الآيات إنّما تتحدّث عن عدم تحميل أحد عقوبة معصية اقترفها شخص آخر، وأمّا في مسألة قتل الخطأ، فلا تكون هناك معصية أساساً، وإنّما هو مجرّد خطأ. وعليه، تكون الآية أجنبيّـة عن مسألة قتل الخطأ. ولكنّنا نقول في الجواب: أوّلاً: لقد عمد الفقهاء في مواضع متعدّدة من كتبهم الفقهيّـة ـ ومن بينها بحث ضمان العاقلة ـ إلى الاستناد إلى هذه الآية في صورة إقرار الشخص أو وقوع القتل على نحو شبه العمد، مع أنّ هذه الحالات لم تنطو على معصية قطعاً. وعلاوة على ذلك، هناك من الفقهاء من صرّح ـ في مورد العاقلة ـ بأنّها استثناء من هذه الآية، واعتبرها عدولاً عنها أو مخصّصة لها، وهو فرع القول بشمول الآية للمعنى المنظور لنا، وهو شاهد واضح على أنّ فهمه لكلمة “الوزر” لم يكن بمعنى الذنب والمعصية؛ وذلك إذ يقول: دلّ العقل على اختصاص الفاعل بأثر جنايته دون غيره، ونصّ الكتاب على مثل ذلك بقوله: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).[3] لكن عدل عن ذلك في الخطأ إلى تحمّل العاقلة.[4] وثانياً: إنّ “الوزر” لغة يعني الثقل، وهو يشمل جميع أنواع الثقل، بما في ذلك تحمل الضريبة الماليّـة الثقيلة على الفرد غير المذنب، دون مبرر منطقي معقول؛ لا سيّما إذا كان القاتل نفسه متمكّناً من الناحية الماديّـة. قد يقال في الفرار من المخالفة والتعارض بين الروايات وهذه الآية الكريمة: إنّ الآية تختصّ بالآخرة ومرحلة الحساب والعقاب في يوم القيامة، ولا ربط لها بالأمور الدنيويّـة. ولكنّنا نقول في الجواب: إنّ هذا الاختصاص يفتقر إلى الدليل؛ لأنّ الله تبارك وتعالى في مقام بيان حقيقة غير قابلة للإنكار، وهي أنّ كلّ شخص مسؤول عن أعماله وسلوكه دائماً وأبداً. وقد قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآية: قد تبيّن بما مرّ أنّ مجموع الجملتين: (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا)،[5] و(وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، سيق لإفادة معنى واحد، وهو أنّ ما كسبته نفس يلزمها ولا يتعدّاها، وهو مفاد قوله: (كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت رَهِينَة)[6].[7] علاوة على ذلك، هناك فهم فقهيّ صريح لبعض هذه الروايات،[8] ولم يرفع أحد من الفقهاء يده عن الآية بسبب هذا الفهم، بل على العكس من ذلك تماماً؛ إذ استندوا إلى هذه الآية في كتبهم الفقهيّـة،[9] ومن بينها ما نحن فيه. ---------- [1]. الأنعام: 164؛ الإسراء: 15؛ فاطر: 18؛ الزمر: 7؛ وانظر أيضاً: [2]. أنظر: الأنبياء: 22؛ النحل: 93؛ النجم: 39؛ فصّلت: 46؛ الأنعام: 164. [3]. الأنعام: 164. [4]. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع 4: 531. [5]. الأنعام: 164. [6]. المدّثر: 38. [7]. الميزان في تفسير القرآن 7: 396. [8]. راجع: وسائل الشيعة 28: 108، الحديث: 7، من أبواب حدّ الزنا. [9]. أنظر: جواهر الكلام 41: 237.
|