الحقيقة الشرعية (درس21)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 21 التاريخ : 2008/12/25 بسم الله الرحمن الرحيم الدليل الثاني على عدم الحقيقة الشرعية هو كون هذه الألفاظ موضوعة في لسان العرب وبقيت على ما كانت عليه، وقد بنى على ذلك الصرفيون وكذا نحن، ولم يأتِ الشارع بألفاظ محل التي كانت موضوعة قبل مجيء الشارع المقدس، أي أنّه لا حقيقة شرعية، مع العلم أن الوضع للتفهيم، فما الفائدة في وضع الشارع إذن؟ عمله هنا يكون لغواً، إضافة إلى أنّ الله يقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ)[1] ولم يتخطّ الرسول لسان قومه لا في العبادات ولا في المعاملات، كيف نحتمل أنَّ الألفاظ كانت غير هذه وأبدلها الشارع بهذه المتعارفة عندنا؟ هنا، مع أنّه في باب الماهيات ليس من المفروض رعاية الخصوصيات، فاللفظ يوضع لأصل الماهية وتفهم الخصوصيات من خلال القرائن، فالمسجد يستخدم لذلك المكان المعين ويُغض النظر عن حجمه، لذلك كان شاملاً للمسجد الصغير جداً والكبير جداً، وهذا كلّه لكون اللفظ عندما يوضع للمعنى لا يلاحظ فيه الاختلاف في الخصوصيات. إشكال أشكل محمّد بن المصنف المشكيني على الاستدلال بهذه الآيات، بأنَّ الآيات تثبت كون هذه الألفاظ حقائق ولا تثبت كون استعمالها هنا على نحو الحقيقة أو المجاز، لذلك لا تثبت الحقيقة اللغوية، فقد تكون من باب الحقيقة الشرعية. وهذا الإشكال لا يرد على كيفية استدلالنا، بل على طريقة صاحب (الكفاية) في الاستدلال، ونحن لم نستدل على المطلب بالكتاب فقط، بل استفدنا منه ثبوت الحقائق قبل مجيء الشارع المقدّس. لفت نظر نعرض هنا لمطلب مأخوذ من السيّد البروجردي ـ رحمه الله ـ وهو: هل هذه المعاني أو ألفاظها كانت سابقاً، أو أنه كانت ألفاظ ومعانٍ غيرها؟ الحق أن نقول: إن الحقيقة اللغوية ثابتة والحقيقة الشرعية غير ثابتة، وهذا واضح في مثل ألفاظ الصوم والصلاة وأوضح منهما ألفاظ المعاملات، نظراً لكون الناس يزاولون التعامل ويمارسون المعاملات في كلّ زمان ولا علاقة لذلك بالشارع المقدّس إلاّ أنّه أمضى معاملاته. ومثل ذلك ألفاظ أجزاء العبادات مثل الركوع والسجود والقراءة (فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ)[2] ، ومن المسلَّم أن القراءة ليست حقيقة شرعية؛ لأنَّها كانت قبل الإسلام بنفس اللفظ قطعاً. ولا يبعد أن يكون شأن مفردة الخمس كذلك، فهي تعني جزءاً من خمسة أجزاء، وذلك لا علاقة له بالشرع وبغيره. ثمرة وتظهر الفائدة فيما إذا علم تاريخ الاستعمال وعلم تأخّره عن النقل، أي نعلم متى استعمل الرسول المفردة، وقد كانت بعد النقل كذلك، فتُحمل على المعاني الشرعية بناءً على الحقيقة الشرعية، وعلى المعاني المجازية بناءً على الرأي القائل بعدم وجود الحقيقة الشرعية. وأمّا فيما إذا جهل التاريخ فهل يجوز حمل اللفظ على المعنى الشرعي والحقيقي المنقول إليه من باب أصالة تأخّر الحادث أم لا؟ الحقّ أنّه لا يجوز؛ لأن أصالة تأخّر الاستعمال ليس استصحاباً ، لكونه فاقداً للحالة السابقة، لذلك نقول: لم يستعمل اللفظ في هذا المعنى إلى أن نُقِل، وبعد النقل استُعمل في المعنى المنقول إليه، وهذا هو معنى أصالة التأخر. لكن التمسك بهذا الأصل مختص بما إذا كنا عارفين بتاريخ النقل وجاهلين بتاريخ الاستعمال، كأن نعلم بأنَّ الرسول نقل اللفظ في العام الخامس من الهجرة، لكنّا نجهل تاريخ الاستعمال ما إذا كان في العام الرابع لكي نحمله على المجاز أو في العام السادس لكي نحمله على الحقيقة الشرعية، فالتمسك بهذا الأصل هنا جيد. أمّا إذا كنا نجهل كلا التاريخين (تاريخ النقل وتاريخ الاستعمال) أو كنا نعلم بتاريخ الاستعمال لكن نجهل تاريخ النقل، فالاستصحاب في الاستعمال لا يجري هنا؛ لأنّ الفرض كون تاريخ الاستعمال معلوماً. هذا مضافاً إلى أنّه إذا جرى الاستصحاب سقط بالمعارضة أولاً، وثانياً: كونه أصلاً مثبتاً. الاستصحاب خاص بصورة من الصور الثلاث الماضية، أمّا صورة المثال الآتي فغير مشمول، وخلاصتها هي: نعلم بأن اللفظ منقول عام 55، لكنا نجهل تاريخ الاستعمال ما إذا كان عام 54 أو عام 56، فنقول بأنّه لم يكن استعمال حتى عام 55، واللازم العقلي لهذا هو كون الاستعمال حصل عام 56، والاستصحاب يقول: إنّ الاستعمال لم يكن قبل عام النقل، بل حتى في عام النقل لم يكن كذلك. أمّا المرحوم الحائري صاحب (دُرر الاُصول) فيذهب إلى حمل اللفظ على معناه المجازي عند العلم بتاريخ الاستعمال والجهل بتاريخ النقل، وذلك من باب أصل عدم النقل، ورغم كون هذا الاُصل مثبتاً إلاّ أنَّ الأصل عقلائي، ومثبتات الاُصول العقلائية حجة، عكس مثبتات الاُصول الشرعية فهي غير حجة. للعقلاء حجة تجاه المعنى الأوّل فهو الموضوع له الأوّل، وهم يشكّون بالوضع تجاه المعنى الثاني، والعقلاء لا يرفعون اليد عن الحجة إلاَّ بالحجة، وهذا مبنى كلي عند العقلاء. لكن كلام الحائري غير تام؛ لأنّه لا وجود لبناءٍ عقلائي في الشك في النقل من حيث الجهل بالتاريخ، والبناء العقلائي موجود في الشك بأصل النقل لا بتاريخه، أي لا يعلم بكون هذا اللفظ نقل أو لا، فعندئذٍ يحملون اللفظ على المعنى الأوّل إلى أن يثبت النقل. وبعبارة اُخرى: بناء العقلاء في عدم النقل والحمل على المعنى الأوّل خاص بالشك البدوي، أمّا بالنسبة إلى الشك المقرون بالعلم الإجمالي، أي العلم بالنقل والجهل بتاريخه فلا بناء عقلياً فيه. وإن أبيت قبول ذلك فلا أقل نقول بعدم إحراز البناء العقلائي المدَّعى، وإذا لم يُحرز فليس بحجة. هذا أوّل إشكال على المرحوم الحائري. وثانياً: لو سلمنا بهذا البناء العقلائي، فلا وجه لاختصاصه بصورة واحدة، أي صورة العلم بتاريخ الاستعمال والشك في النقل، بل يجري في عكس هذه الصورة كذلك، أي صورة العلم بتاريخ النقل والشك في تاريخ الاستعمال، فيكون هذا حجة كذلك لكون مثبتات البناء العقلائي حجة. وثالثاً: إذا كانت هناك حجة بالنسبة إلى صورة الجهل بالتاريخ، فكذلك حالة اقتران الصورة بالعلم الإجمالي، فهو حجة، ومضمونه أني أعلم بأصل النقل لكني أجهل تاريخه، وينبغي رفع اليد عن العلم التفصيلي بواسطة العلم الإجمالي الثاني وعملية الرفع تتم لأجل التعارض فنتوقف عندئذٍ في جميع الصور. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - إبراهيم: 4. [2] - المزمل: 20.
|