الصحيح والأعم (درس30)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 30 التاريخ : 2008/12/24 بسم الله الرحمن الرحيم نظريتان في هذا المجال يوجد نظريتان: أحدهما: للإمام ـ رحمه الله ـ حيث يرى رجوع اختلاف العرف والشارع إلى الاختلاف في المفهوم عند كلٍّ منهما. ثانيهما: للشيخ الآخوند الذي يُرجع الاختلاف بين الشرع والعرف إلى الاختلاف في المصاديق. الأمر الثالث: لا يقتضى دليل المسبَّب صحة السبب، ورفع الشك عن المسبَّب يكون بالمعنى التالي: إذا شككنا في اشتراط الكتابة في عقد التأمين، فلا يمكن رفع الشك بهذا الأمر وتصحيح المسبَّب من خلال إطلاق الدليل؛ وذلك لأنَّهما مختلفان وجوداً وحقيقة، بمعنى إذا كانت لدينا أدلّة تصحّح البيع والصلح وعقد التأمين (بمعنى المسبَّب) وكنَّا قد شككنا في لزوم الكتابة في العقد وعدم لزومها وكفاية العقد الشفوي، فذلك لا يسوّغ التمسك بإطلاق دليل المسبَّب ولا يمكننا رفع الشك من خلال ذلك. وقد ورد عن الشيخ قوله بأنَّ إمضاء المسبَّب إمضاء للسبب بالملازمة العرفية. وعلى هذا، لو كان لنا دليل يحمل إطلاقاً تجاه المسبَّب نقول بقبوله للسبب بالملازمة. ويبدو لنا أنَّ هذا غير تام؛ لمنع الملازمة العرفية بين إمضاء المسبَّب والسبب. نعم لو كانت أسباب وعلل غير متقنة لزم ذلك اللغوية؛ لأنّ المقنّن إذا أمضى المسبَّب لابدَّ وأن يكون قد أمضى السبب كذلك جزماً. لكن الأسباب والعلّل إذا كانت متقنة فنحتمل اكتفاء المقنِّن بهذه الأسباب المتقنّة ونحتمل إمضائه لها دون غيرها، وهذا لا يلزم أية لغوية في البين، والتمسك بالإطلاق هنا لا بأس به سواء قلنا بوضع ألفاظ المعاملات للأعم أو للأخص؛ وذلك لأنَّ الموضوع واحد من وجهة نظر العرف والشرع. ولهذا لو شككنا بترتّب المسبَّب على البيع الذي جرت صيغته بالفارسية أو عدم ترتبه، قلنا بأنَّ الصحيح عند العرف صحيح عند الشرع كذلك والبيع العرفي عين البيع الشرعي. أمّا إذا قلنا بأنَّ ألفاظ المعاملات نظير ألفاظ العبادات في أنّها موضوعة للصحيح، لكن عند العرف غير الصحيح عند الشرع ويختلفان في مفهومهما، فعندئذٍ إذا شككنا في صدق البيع على البيع بالفارسية، فلا يمكننا التمسك بإطلاق الآية الكريمة: (أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ)[1] ؛ لأنَّ التمسك به يُعدُّ تمسكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، إلاّ أن ننكر وضع الشارع لألفاظ المعاملات. جاءت ألفاظ المعاملات في ألسنة الآيات والروايات بصيغة ضابطة وقاعدة كلية من قبيل (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و ((المؤمنون عند شروطهم))[2] و ((الصلح جائز بين المسلمين))[3] وقد اُريد منها هنا معناها العرفي. توضيح ذلك: الآية الكريمة: (لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ)[4] الباء في (بالباطل) سببيَّة، والآية تعني لا تأكلوا أموالكم بسبب الباطل إلاّ أن تكون تجارة يحصل خلالها تراضٍ بين الطرفين. الآية الشريفة: (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) التي جاء قبلها الآية التالية: (قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)[5] ، فأحلَّ يُعد جواباً لما قالوه عند مقارنتهم بين البيع والربا. جاء في الحديث المعروف: ((المؤمنون عند شروطهم)) والشرط إمّا مطلق الإلتزام كما هو غير بعيد، لذلك كانت العقود الابتدائية لازمة، وإمّا أن يكون الشرط عبارة عن الإلتزام في الإلتزام كما هو معروف، ولذلك قالوا بعدم لزوم العقود الابتدائية. وجاء في حديث آخر: ((الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما حرّم حلالاً وحلَّ حراماً))[6]. وبالجملة، مراجعة صدور وذيول الآيات والروايات العامّة في باب العقود والإيقاعات تكشف لنا عن أن المراد هو الأسباب والعلّل لا المسبَّبات. هذا كلّه في غير (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)[7] فإن المراد هنا هو السبب وذلك واضح، فالعقود هي الأسباب، وعمل المتعاقدين لا علاقة له بالمسبَّب. لكن المرحوم النائيني وكذا تلميذه السيّد الخوئي خالفا في ذلك وقالوا بأنَّ المراد هنا هو المسبَّب لا السبب؛ لكون السبب فانياً ولا يمكن للفاني أنْ يكون متعلقاً للوفاء عكس ما عليه المسبَّب حيث فيه بقاء. ومما ذكرنا يظهر ضعف هذا القول:لأنَّ السبب ليس عبارة عن اللفظ لكي يصح القول بأنَّه فانٍ، بل السبب عبارة عن العقد وهو من الاُمور الاعتبارية الباقية عند العقلاء: غاية الأمر أنَّ العقلاء قد يرّتبون الآثار على بعض العقود ويقولون بصحتها وقد لا يعملون هكذا ويعتبرون العقد فاسداً. والتحقيق الذي قام به لحلّ الإشكال هو قوله: إذا قلتم بأنَّ إطلاق الدليل لا يسبب رفع الشك عن السبب مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة اُخذت بمعنى السبَّب، إذن كيف أمكن التمسك بهذه الآيات والروايات لرفع الشك عن السبب. الإشكال ينشأ من عدّهم باب العقود باباً للسبب والمسبَّب، مع أنّه ليس كذلك، بل باب العقود هو باب آلة الإيجاد والموجود، فالمسبَّب ليس باختيار الفاعل، ولا تتعلق إرادة الفاعل بالمسبَّب مباشرة، وهو من قبيل الإلقاء في النار، فالإلقاء سبب والاحتراق مسبَّب، والإرادة لا تتعلّق بالإحراق مباشرة، بل تتعلق بالإلقاء في النار. أمّا إذا قلنا أن الباب باب الإيجاد والموجود فكان من قبيل القلم والكتابة، فالقلم آلة ووسيلة والإرادة تتعلّق بالكتابة مباشرة؛ لأنّها عبارة عن تحريك القلم على الصفحة بالوضع الخاص، فالكتابة ليست موجوداً والسبب موجوداً آخر، بل كلاهما موجود واحد وهو الكتابة ولدينا هنا آلة واحدة وهي القلم. هذا حاصل ما قاله. يبدو في كلامه خلطان مع غض النظر عن متبنياته التي يعتمدها. الأوّل: أنَّه اعتبر اللفظ بما هو لفظ سبباً مع أنَّ السبب عبارة عن إنشاء الأمر الاعتباري باللفظ. الثاني: عدَّ المسبَّب منشأً مع أن المنشأ غير المسبّب، فالمنشأ هو بيد العاقد، بخلاف السبب الذي هو أمر عقلائي يتحقق بإنشاء اللفظ في الخارج. إشكالات تهذيب الاُصول أمّا ما جاء في (تهذيب الاُصول) من أن المراد من ألفاظ المعاملات والعقود والإيقاعات في الآيات والروايات هو المسبَّبات والألفاظ قد وضعت للمسبَّبات، فإشكاله في أنّه كيف يُتمسَّك بهذه العمومات لرفع الشك في السبب في الفقه؟ هذا، مع أنَّ كلامه هنا ينافي مبناه الذي التزمه في أوائل المكاسب المحرّمة وحتى بيع الفضولي، حيث اعتبر الأدلّة التي تضمّنت أمراً ونهياً تجاه العقود والمعاملات ناظرة إلى أفعال المكلّفين أي الأسباب فالآية الكريمة: (وَإِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ)[8] ناظرة إلى أفعال المكلّفين وأعمالهم ولا علاقة لها بالمسبَّبات. هذا من المباني الأساسية للإمام ـ رحمه الله ـ وهو مبنى جميل وقد توصّل إليه صاحب (أجود التقريرات) في نهاية المطاف. كما يمكننا التمسك بإطلاق (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)، كذلك يمكننا التمسك به في الأجزاء والشرائط، بمعنى أنّه لو كان عندنا دليل من الكتاب والسنّة يبيّن الأجزاء والشرائط للعقود من قبيل البلوغ واللفظ وكونه بصيغة الماضي، لكنَّه لم يبيّن العربية كشرط معتبر، أمكننا التمسك بإطلاق هذه الأجزاء والشرائط لنحكم بعدم اشتراط العربية؛ وذلك أنَّها لو كانت مشترطة لكان على الشارع بيانه؛ لأنّه في مقام البيان، فلو بيّن تسعة أجزاء من الصلاة ولم يبيّن العاشر كان ذلك دليلاً على عدم اشتراطه وعدم اعتباره. وهناك طريق ثالث لرفع الشك عمّا شُكَّ في اشتراطه في المعاملات والعقود وهو عدم ردع الشارع، بمعنى أنَّ معاملة لو كانت رائجة وبمرئى ومنظر من الشارع ولم يردع عنها الشارع، كان ذلك دليلاً على صحة المعاملة. قد يتوهم في هذا المجال أنَّ عدم ردع الشارع باعتبار اكتفائه بأصالة الفساد وأدلتها واستصحاب عدم انتقال المثمن من البائع إلى المشتري وعدم انتقال الثمن من المشتري إلى البائع. لكن هذا الوهم مدفوع، ولا يمكن للشارع أن يكتفي في ردعه بقاعدة ((لا تنقض اليقين بالشك))[9] ؛ وذلك لأنَّ دليل الاستصحاب ناظر إلى العرف، والعرف بما هو عرف لا يعتبر نفسه شاكاً، بل يرى نفسه جازماً بالصحة، فهو يرى نفسه هنا في حالة يقينٍ في يقين. الخلاصة تلخّص مما ذكرنا أنّه يمكن تصحيح المعاملة مشكوكة الشرط أو الجزء بوجوه: أحدها: الإطلاقات والعمومات كقوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) سواء كان المراد من المعاملات هنا هو المسبَّب كما يرى ذلك أمثال المرحوم النائيني أو أن المراد هنا هو السبب. ثانيها: التمسك بإطلاق أدلّة الجزئية أو الشرطية إذا كان عندنا أدلّة من هذا القبيل. ثالثها: عدم ردع الشارع . إذا أردنا المقارنة بين هذه الوجوه والأدلّة من حيث السعة والضيق، كان الدليل الأوّل أوسعها؛ لأنَّ الإطلاقات والعمومات تصحّح الشك في الشرطية والجزئية كما تصحّح الشك في أصل المعاملة. إنَّ الإطلاق في (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) يرفع الشك باشتراط العربية، كما يرفع الشك في أصل معاملة المشكوك بصحتها مثل معاملة الضمان التي لم تكن في العقود الغابرة أو عند نزول الآية ولا تدخل في أيٍّ من العقود المألوفة مثل البيع والإجارة والجعالة وغيرها. هذا، مع أنّ الوجه الثاني يحل مشكلة الشك في الشرطية والجزئية فقط، والوجه الثالث يختص بالمعاملات التي كانت بمرأى ومنظر من الشارع ولا يشمل المعاملات التي تبلورت في العقود المتأخرة. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - البقرة: 275. [2] - الوسائل 21: 276، أبواب العهود، ب20، ح4. [3] - الوسائل 18: 443، كتاب الصلح، ب3، ح2. [4] - النساء: 29. [5] - البقرة: 275. [6] - الوسائل 21: 276، أبواب العهود، ب20، ح4. [7] - المائدة: 1. [8] - الجمعة: 9. [9] - الوسائل 1: 245، أبواب نواقض الوضوء، ب1، ح1.
|