الإجزاء (درس62)
الدرس دروس خارج الأصول مباحث الدليل اللفظي الدرس 62 التاريخ : 2008/12/21 بسم الله الرحمن الرحيم الأمر الآخر: في المراد من كلمة (وجهه) التي جاءت في تحرير محلّ النزاع.قال صاحب (الكفاية): (الظاهر أن المراد من (وجهه) في العنوان هو النهج الذي ينبغي أن يؤتى به على ذاك النهج شرعاً وعقلاً، مثل أن يؤتى بقصد التقرب في العبادة، لا خصوص الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعاً، فإنه عليه يكون (على وجهه) قيداً توضيحياً، وهو بعيد، مع أنه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع، بناءً على المختار، كما تقدم من أن قصد القربة من كيفيات الإطاعة عقلاً، لا من قيود المأمور به شرعاً، ولا الوجه المعتبر عند بعض الأصحاب، فإنه مع عدم اعتباره عند المعظم، وعدم اعتباره عند من اعتبره إلاّ في خصوص العبادات لا مطلق الواجبات ـ لا وجه لاختصاصه بالذكر على تقدير الاعتبار، فلابد من إرادة ما يندرج فيه من المعنى، وهو ما ذكرناه)[1]. وقد بيّن بعض المتكلمين والفقهاء هذا القول وبيّنوا ما فيه من إشكالات وإيرادات مختلفة. الأوّل: يلزم من هذا القول خروج التوصليات عن محل النزاع؛ لأن البحث فيما نحن فيه في إتيان المأمور به على قصد الوجه، لا غير مجزٍ أصلاً، وفي التوصليات لا يعتبر قصد الوجه أبداً، ومن يعتبر قصد الوجه يعتبره في التعبديات، كمن صلى صلاة الظهر مثلاً قربة إلى الله، وبناءً على هذا، يكون خروج التوصليات عن محل النزاع ممّا لا كلام فيه. الثاني: أنّ قصد الوجه لا يعتبر عند جميع الأعلام، إذ يلزم اعتبار شيء في محل النزاع غير معتبر عند الجميع، وهو أوضح من أن يخفى. الثالث: لا وجه ها هنا لذكر قصد الوجه فقط من بين جميع الشرائط المعتبرة، فهو أحد الشروط المعتبرة، والمراد منه الوجه المعتبر عقلاً وشرعاً حتى يتضمن التعبديات وفق مبنى صاحب (الكفاية) وغيره. تلخص من جميع ما ذكرناه: أن قصد القربة معتبر في العباديات عند كثير من الاُصوليين، ومعتبر عقلاً عند صاحب (الكفاية). أضف إلى الإشكالات الثلاثة المذكورة إشكالاً آخر وهو: إن كان المراد من (بوجهه) قصد الوجه الغائي، أي أقمت الصلاة لوجوبها، كان المناسب أن يقال: إتيان المأمور به لوجهه المعبر عنه باللام الجارة. ولا يخفى عليكم ما في كلام صاحب (الكفاية) واستدلاله؛ لأن كلامه واستدلاله تام ووجيه على مبناه في تحرير محل النزاع، لكن الأنسب أو المناسب جعل (على وجهه) أعم شرعاً أو عقلاً. ويحتمل أن يكون المراد من (وجهه) الشرائط المأمور بها، أي الأجزاء، و(وجهه) تعني الشرائط، وبناءً على هذا لا يكون القيد قيداً توضيحياً. ولا يخفى أن منشأ هذا الاحتمال وسره هو كون الشرائط خارجة عن المأمور به، والتقييد بالشرائط داخل في المأمور به، ونحن نقول: إن القوم ـ قدس الله أسرارهم ونوّر مضاجعهم ـ ذكروا (بوجهه) لكي يدخلوا الشرائط في محل النزاع، والإتيان بالإجزاء مع الشرائط الشرعية لا يوجب أن يكون القيد توضيحياً. ولا يخفى أن هذا البحث ـ أي البحث في كلمة (بوجهه) ـ يجيء في مثل عبارة (الكفاية) وغيره حيث قالوا بالإتيان بالمأمور به على وجهه، فيبحث في المراد من (وجهه)، أمّا في مثل عبارة (الفصول) فلا يجيء هذا البحث أصلاً؛ لأن عبارة (الفصول) بهذا اللفظ: إذا أتى الأمر بالشيء على وجهه، ومعناه واضح أيضاً، إذ (على وجهه) تعني على النحو الذي يعتبر في الشرع الأنور لا غير. الأمر الآخر: قول صاحب (الكفاية): (الظاهر أن المراد من الاقتضاء ـ ها هنا ـ الاقتضاء بنحو العلية والتأثير، لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة). ثم أشكل قائلاً: (إن قلت: هذا إنما يكون كذلك بالنسبة إلى امره، وأمّا بالنسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري بالنسبة إلى الأمر الواقعي، فالنزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما على اعتباره، بنحوٍ يفيد الإجزاء، أو بنحو آخر لا يفيده. قلت: نعم، لكنه لا ينافي كون النزاع فيهما كان في الاقتضاء بالمعنى المتقدم، غايته أن العمدة في سبب الاختلاف فيهما، إنما هو الخلاف في دلالة دليلهما، هل أنه على نحوٍ يستقل العقل بأن الإتيان به موجب للإجزاء ويؤثر فيه، وعدم دلالته؟ ويكون النزاع فيه صغروياً أيضاً، بخلافه في الإجزاء بالإضافة إلى أمره، فإنه لا يكون إلاّ كبروياً لو كان هناك نزاع، كما نقل عن بعض[2] فافهم)[3]. وقد أشكل صاحب (التهذيب) على (الكفاية) من أنه لا يراد من الاقتضاء العلية والتأثير[4]. وهذا الكلام غير صحيح بالكلية في هذا المورد، سواء كان معنى الإجزاء الكفاية أو سقوط القضاء أو سقوط التعبد؛ لأن العلية والتأثير يكونان في الاُمور التكوينية، كالسببية والشرطية، إذ في الاُمور الاعتبارية لا يكون مجال للتأثير والتأثر، بل للجعل والقرار فقط. وإن شئت الإيضاح الأكثر فانظر إلى مثال الوقت، كما لو قال: وقت الظهر سبب لوجوب صلاة الظهر، أو قتل العمد علة للقصاص أو سبب للقصاص، أو الاستطاعة شرط لوجوب الحج، إلى غير ذلك من الأمثلة، فإنها لا تكون في باب التكوينيات، بل باب العلة والمعلول والتأثير والتأثر والسبب والمسبب والشرط والمشروط وما شابهها من الاُمور المتعلقة بالتكوينيات، ولا أثر لذلك في الاعتباريات، فباب الاعتبار باب الجعل، أي أن شيئاً كان شبيهاً للسبب فسمي سبباً، وشيء كان يشبه الشرط فسمي شرطاً. فتلخص من جميع ما ذكرناه كون إشكال (التهذيب) على (الكفاية) عبارة عن أن الاقتضاء لا يكون بمعنى العلية والتأثير؛ لأن العلية والتأثير يرتبطان بالاُمور التكوينية. واُضيف إلى كلام إمام الشهداء وقائد الثورة الإسلامية في إيران ومجدد الإسلام بعد قرون متمادية ومتوالية اُستاذنا الأكبر السيد الخميني ـ سلام الله عليه وعلى آبائه وأجداده وإخوته وأخواته وأولاده ـ كون السببية والشرطية كذلك يرتبطان بالاُمور التكوينية، ولا ارتباط لهما بالاُمور الاعتبارية، إذ أنها تابعة للجعل، ولذلك يمكن أن يكون الشرط متأخراً على المشروط أو بالعكس. والسرّ في ذلك واضح أيضاً؛ لأن باب الجعل ـ كما قلنا آنفاً ـ غير تابع للتأثير والتأثر والعلة والمعلول، بل تابع للجعل، ويعمل به على النحو الذي جُعل به. -------------------------------------------------------------------------------- [1] - كفاية الاُصول: 81. [2] - القاضي عبد الجبار، راجع المعتمد 1: 90. [3] - الكفاية: 81 ـ 82. [4] - تهذيب الاُصول 1: 136.
|