|
الدليل الثاني: الروايات
إنّ من بين الأدلّة على الرأي المختار، الروايات التي تجعل الدية في قتل الخطأ على عاتق الجاني، وهي كالآتي: الرواية الأولى: أبي العبّاس عن الإمام الصادق (ع)، قال: ... قلت: رمى شاة فأصاب إنساناً؟ قال: «ذاك الخطأ الذي لا شكّ فيه، عليه الدية والكفّارة”.[1] كما هو واضح فإنّ الإمام (ع) في هذه الرواية قد صرّح بوضع الدية والكفّارة على عاتق الجاني، وهو موافق ـ بل مطابق ـ لمضمون الآية الشريفة، وعلى طبق القواعد والأصول العقليّـة والعقلائيّـة. وقال صاحب الجواهر مشيراً إلى هذه الرواية: إنّه وإن كان المغروس في الذهن أنّ دية الخطأ على العاقلة ابتداء إلّا أنّ التدبّر في النصوص وقاعدة اختصاص الجناية بالجاني دون غيره، أنّها عليه وإن أدّت العاقلة عنه؛ إذ قد سمعت ما في خبري البقباق وغيره، بل لعلّه المنساق من الآية[2] ولو بسبب جمع الكفّارة التي لا إشكال في كونها عليه مع الدية، فالجمع حينئذٍ بينها وبين ما دلّ على أنّها على العاقلة... .[3] ثمّ استطرد بعد ذلك قائلاً: أمّا احتمال كونه على الإمام مطلقاً حتّى في مثل هذا الزمان على وجه يبطل دم المسلم لعجز الإمام، أو أنّه يقوم مقامه نائب الغيبة فيؤدّيه ممّا يتّفق قبضه منه من مال الخمس أو من غيره من الأنفال، أو يؤدّيه من غير ذلك ممّا يرجع إلى المسلمين بناءً على أنّ الأداء من بيت مالهم لا ماله، فهو شبه الخرافة في الفقه...، فلا محيص حينئذٍ عن القول بكونه على الجاني... .[4] الرواية الثانية: يونس بن عبدالرحمن، عن أحدهما (ع): في الرجل إذا قتل رجلاً خطأ فمات قبل أن يخرج إلى أولياء المقتول من الدية؟[قال:] «أنّ الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال”.[5] فكما هو واضح من هذه الرواية أنّها تفترض وجوب دفع الدية على الجاني نفسه، وهو حكم موافق للقواعد، وعند موت القاتل، يدفع الورثة الدية من تركة القاتل. الرواية الثالثة: محمّد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر (ع): «أيّما ظئر قوم قتلت صبيّـاً لهم وهي نائمة فقتلته، فإنّ عليها الدية من مالها خاصّة إن كانت إنّما ظاءرت طلب العزّ والفخر، وإن كانت إنّما ظاءرت من الفقر فإنّ الدية على عاقلتها”.[6] وهناك من العلماء من أمثال الشهيد الثاني في “مسالك الأفهام”،[7] من تصوّر وجود ضعف في هذه الرواية، فامتنع عن العمل على طبقها. إلّا أنّ هذه الرواية ـ التي تعدّ من محاسن كلمات أهل البيت (ع) ـ تبين ضابطة رئيسة ومتطابقة مع أسمى الأصول والقواعد الأخلاقيّـة والإنسانيّـة والحقوقيّـة؛ إذ تقرر أنّ المرأة إذا اضطرّها الفقر إلى المجازفة وقبول مسؤوليّـة الحضانة ورعاية طفل رضيع، تكون عاقلتها مقصّرة في القيام بدورها تجاهها؛ فتقع عليهم ـ لذلك ـ المسؤوليّـة في التعويض عن تقصيرهم. وأمّا إذا لم تكن المرأة مضطرّة إلى القيام بهذا العمل، وإنّما قامت به لمجرّد التفاخر والسمعة، وجب عليها أن تتحمّل أعباء جريرتها. وعليه، فإنّ هذا المضمون ـ خلافاً للشهيد الثاني ـ موافق للقواعد والأصول الأخلاقيّـة والحقوقيّـة. هذا، وأنّ الشهيد الثاني إنّما يتحدّث عن ضعف سند هذه الرواية في الوقت الذي ينقلها المشايخ الثلاثة في كتبهم بطرق مختلفة.[8] كما تمّ نقلها في كتاب المحاسن للبرقي[9] ـ وهو من الكتب الشهيرة ـ أيضاً. من هنا تكون الرواية معتمدة، ويقوم بناء العقلاء على حجيّـة أمثال هذه الرواية، حيث يكون مضمونها مطابقاً للعقل واعتبار النقل والرواية. وعلى الرغم من تنوّع طرق نقل هذه الرواية، إلّا أنّ مضمونها واحد، وقد نقلها مشاهير الفقهاء من أمثال المحقّق في “شرائع الإسلام”، وقد أفتى على طبقها، وقال: لو انقلبت الظئر فقتلته، لزِمها الدية في مالها، إن طلبت بالمظاءرة الفخر. ولو كان للضرورة، فديته على عاقلتها.[10] الرواية الرابعة: موثّقة عمّار الساباطي، حيث تتضمّن إجابة الإمام الباقر (ع) عن سؤال في مورد شخص ضرير، فقأ عين رجل صحيح، قال فيها: “إنّ عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال فالدية على الإمام، ولا يبطل حقّ امرئ مسلم”.[11] ----------- [1]. تهذيب الأحكام 10: 156، الحديث: 3؛ وسائل الشيعة 29: 38، باب تفسير قتل العمد والخطأ وشبه العمد، الحديث: 9. [2]. أنظر: النساء: 92. [3]. جواهر الكلام 43: 444 ـ 445. [4]. جواهر الكلام 43: 446. [5]. تهذيب الأحكام 10: 172، الحديث: 16؛ وسائل الشيعة 29: 397، باب القتل خطأ، الحديث: 1. [6]. الكافي 7: 370، الحديث: 2؛ وسائل الشيعة 29: 265، باب حكم ضمان الظئر الولد، الحديث: 1. [7]. أنظر: مسالك الأفهام 15: 352. [8]. أنظر: الكافي 7: 370، الحديث: 2؛ من لا يحضره الفقيه 4: 119؛ تهذيب الأحكام 10: 222، الحديث: 5. [9]. أنظر: المحاسن 2: 305. [10]. شرائع الإسلام 4: 235. [11]. وسائل الشيعة 29: 89، باب حكم عمد الأعمى، الحديث: 1.
|