|
المقدمة
مقدّمة يدين الفقه الإسلامي ـ الذي يستمدّ حياته ونضارته من القرآن والسنّة ـ طيلة عمره الذي تجاوز الألف عام لجهود الفقهاء والمجتهدين، ولم يتمكّن هذا الفقه طيلة هذا الزمان الطويل من ترك بصماته على حياة المسلمين فحسب، بل أثار دهشة المدارس الحقوقية الأخرى كلّما حصل اقتراب منها أو تقارب. إن حياة هذا الفقه ونضارته إنّما يتحققان في سياق الاجتهاد الحقيقيّ الحيّ والحيويّ للفقهاء، فإذا ما مارس المجتهدون الاجتهاد، ولم يقبعوا في جمود الأخبارية بل بذلوا قصارى جهدهم، ووظّفوا تمام طاقاتهم وإمكاناتهم، متجنبين الاكتفاء ببعض المصادر الروائية والفقهية، وهو ما كان سائداً ومتعارفاً في أوساط الفقهاء الحقيقيين، لأضافوا كل يوم على هذا الفقه الإسلامي الشيعي غنىً، وبثّوا فيه روحاً جديدة و... نعم، يكون ذلك بمطالعة ذلك التراث العريق الألفيّ للفقه من جهة، كما وإحضاره في خضمّ التحوّلات العاصفة في حياة الإنسان، بما فيها من تأرجحات ونجاحات وإخفاقات. إنّ اهتمام الفقهاء بالثغرات والحاجات التي يعاني منها الفقه، والاستفادة من الاختصاصات ذات التأثير في عملية الاجتهاد، ووضع حدود فاصلة بين احترام الفقهاء الماضين وبين تناول أفكارهم ونظرياتهم الفقهية بالنقد والمناقشة، وتجنب الانشغال وإغراق الذات في الفروع الفقهية النادرة، قليلة الابتلاء، إلاَّ عندما تمسّ الحاجة إلى ذلك أو الاستفتاء.. ذلك كلّه، من العوامل المؤثّرة في ترشيد النشاط الفقهي، ورفع شأو الفقه ومكانته. إنّ تطوّر العلوم والتقانة من جهة، وانبساط العلاقات البشرية حتى تقاربت معها أنماط الحياة وأشكال العيش من جهة أخرى، يلحّان على الفقه الإسلامي بأسئلة جادّة لا مفرّ له من مواجهتها، ولا يكفي في هذا المضمار بعض الأجوبة النمطية أو إحالة القضايا إلى التعبّد في المجالات جميعها، لهذا كان واجباً على الفقهاء المتمسّكين بالاجتهاد الحقيقي، تقديم أجوبة ذات قوّة إقناعية، وذلك لإشباع العقول الفاحصة، والأذهان الباحثة عن الحقيقة، لا المعاندة. إننا نعتقد أنّ الفقه الإسلامى ـ الشيعي يملك من القدرة ما يستطيع به تقديم هذا النوع من الأجوبة، إنّه قادر على الخروج مرفوع الرأس من مسؤولية المعضلات العالقة والاستفهامات الكبيرة برمّتها، شريطة أن تؤخذ أصول الاجتهاد بعين الاعتبار. ونحاول هنا استعراض جملة من المبادئ التي نؤمن بها ونعمل على وفقها، وهي المبادئ عينها التي وظّفناها في كتاباتنا هذه: 1ـ اعتقد كبار فقهاء الإسلام على الدوام بأنّ القرآن الكريم هو المصدر الأوّل للاجتهاد، ولم يغفلوا في فتاويهم الفقهية عنه، إننا نعتقد أنّه كلّما تضاعف اهتمامنا أكثر بالآيات القرآنية، وزاد وتعمّق، اقترب الاجتهاد ودنت الفقاهة من الحق والصواب، وهو ما سيؤدّي ـ تلقائياً ـ إلى تلاشي الكثير من الفتاوى والاجتهادات المخالفة ليسر القرآن وسماحته، أو غير المؤهّلة للتنفيذ والتطبيق. يؤكّد القرآن الكريم فى آيات عدّة، وفي سياق بيانه للأحكام الشرعية، على مبدأ اليسر والسماحة، وبعبارة أخرى إنّه يقوم بـ تشييد مبدأ إمكانية التطبيق، وإذا أردنا تناول أحد الأمثلة على ذلك هنا للاحظنا كيف تحدّث الله تعالى في ستّ آيات عن تيسير القرآن ـ بشكل عام ـ وتسهيله، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِر)[القمر: 17[1]]، كما سهّل الطريق: ( ثُمَّ السَّبيلَ يَسَّرَهُ)[عبس: 20]، كما تحدّثت بعض الآيات عن التيسير والتسهيل، لدى حديثها عن تلاوة القرآن[2]، وذبح الأضحية فى الحج[3]، مقعّدةً قانوناً عاماً بقولها: (يُرِيدُ اللهُ بكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بكُمُ الْعُسْرَ )[البقرة: 185. ] إننا نعتقد بأنّ اليسر والعسر بإمكانهما أن يكونا معايير حقيقيّة لتقويم اجتهاداتنا الفقهية، ذلك أنّ الكلام المذكور كلام خالد، جامع، وعام أيضاً، ومن ثم لابد أن يستوعب تمام التساؤلات ليجيب عنها، ولن يكون لضمّ هذا الأمر مع سائر الأحكام الثانوية ومع الاضطرار والضرورة تأثير على الحكمة من التشريع. وعليه، فالأحكام الإلهية يمكنها - في تحليلها الأوّلي ـ استيعاب أكثر المجالات لوضعها موضع التنفيذ، وهي غير قابلة ـ سوى في حالات خاصّة ونادرة ـ للاستثناء، وهذا هو معنى اليسر القرآني في التشريع. 2ـ السنّة الشريفة هي المصدر الثاني من مصادر الفقاهة والاجتهاد والمعرفة الدينية، فلا سبيل أمام الاجتهاد لكي يتبلور ويظهر للعيان سوى أن يمارس الفقيه البحث والتنقيب جاداً في الروايات والأحاديث، إلاّ أنّه حيث كان للوضع والدسّ ـ طوال التاريخ الإسلامي ـ مجاله الرحب على لسان النبي(صلى الله عليه وآله)والأئمة(عليهم السلام)انطلاقاً من دوافع مختلفة، كان رصد الأحاديث ودراستها وتمييزها قسماً هاماً من الاجتهاد. جاء في رواية عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «قد كثرت عليّ الكذّابة وستكثر، فمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوّأ مقعده من النار...»(4) كما أكّد أئمة أهل البيت(عليهم السلام) ـ وبتعابير مختلفة ـ على هذا الأمر، من قبيل ما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّا أهل بيت صادقون، لا نخلو من كذّاب يكذب علينا، ويسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس»[5]. ويذكر هشام بن الحكم أنّه سمع الإمام الصادق (عليه السلام)يقول: «لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة، فإنّ المغيرة بن سعيد ـ لعنه الله ـ دسّ فى كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي، فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى، وسنّة نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله)»[6]. والسبيل الأفضل لكشف الأحاديث الموضوعة إنّما يكمن في نقد المتن، أي ما عبّرت عنه النصوص عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام)بالعرض على الكتاب، إنّ الإمام الصادق(عليه السلام)يشير في الرواية السالفة إلى أنه لا ينبغي الأخذ بأيّ حديث إطلاقاً، ومن ثم نسبته إليهم(عليهم السلام)قبل عرضه على الكتاب الكريم والسنّة. وقد جاء في مصادر أهل السنّة عن أبي هريرة عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) أنّه قال: «سيأتيكم عنّي أحاديث مختلفة، فما جاءكم موافقاً لكتاب الله ولسنّتي فهو منّي، وما جاءكم مخالفاً لكتاب الله ولسنّتي فليس منّي»[7]. وثمّة روايات كثيرة أخرى في هذا المجال، نعرض ـ فعلاً ـ عن ذكرها، اكتفاءً بما أسلفناه. ومن الطبيعي، أنّه لا يجدر في هذا المضمار إغفال الدراسات السندية والرجاليّة، فلعلم الرجال سهم وافر في تقويم الأحاديث من حيث صدورها، وتحديد مدى صحّة نسبتها أيضاً، إلاّ أنّ الاكتفاء به لا يحمي الفقيه من الأخطاء والهفوات في ممارساته الاجتهاديّة، كما لا يحميه من السقوط في فخ الأحاديث المدسوسة والموضوعة، ذلك أنّ الكاذب لا يجعل الحديث ويسنده إلى من هو معروف بالكذب، بل ينشره بما يوهم عدم وجود خدشة في سنده، تماماً كمن يريد تزوير العملات، فإنّه يسعى لصنع أوراق نقدية تحتوى خصائص الأوراق النقديّة الصحيحة من حيث اللون والشكل والمواصفات وإلاَّ لاكتشفت العملة المغشوشة بسرعة ودون مقدّمات تذكر. إننا نعتقد أنّ الفقيه يقارب الصواب ويدنو منه ويحقق اجتهاداً صائباً وموفّقاً كلّما ركّز جهوده على النقد المضموني، أي على عرض الأخبار على الكتاب، كما ووضع الأصول والمبادئ المسلّمة المستمدّة من القرآن والحديث موضع المعيار والاهتمام. 3ـ قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): «ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه»[8]. طبقاً لهذا النص النبوي، يغدو تعدّد الآراء وتنوّعها، كما ووجود فتاوى صائبة وأخرى غير صائبة، أمراً طبيعياً، بل هو مصداق من مصاديق انفتاح باب الاجتهاد. إن تقدير جهود الفقهاء السابقين في حفظ الموروث الفقهي لا يعني تصويب رؤاهم فيما ذهبوا إليه، وإلاَّ كان من المفترض الحكم بعقم العملية الاجتهادية في غير مستحدثات المسائل، واعتبار هذه الممارسة غير منتجة ولا مثمرة. ومن هذا النوع، تطرح على بساط البحث موضوع الشهرة، إنّ هذه الشهرة بإمكانها أن تكون قرينةً وشاهداً على فهم النصوص، إلاّ أنّها لا تمثل ـ في أيّ حال من الأحوال ـ دليلاً أو برهاناً، ولذا لو قام على خلافها دليلٌ فلابدّ من رفع اليد عنها، والعمل على ما يقتضيه ذلك الدليل. إن «شهرة القدماء» التي كان يؤكّد عليها فقهاء كبار من أمثال آية الله البروجردي(رحمه الله) إنما تلعب دورها في تصويب عمليات تناقل الأحاديث عبر الأجيال، بمعنى أنّه كلّما لم نعثر على حديث في المصادر الروائية فإن شهرة القدماء تساعدنا في الوصول إلى حكم الحديث، إذا كانت ـ أي الشهرة ـ جاريةً في الأصول الحديثية المتلقاة عن المعصوم(عليهم السلام)، وهذا ما لا يلغي شرعية الممارسة الاجتهادية في فهم الحديث، أو الخروج باستنتاجات منه طبقاً للموازين الاجتهادية. 4ـ يشير مصطلحا: الفقه الجواهري والفقه الحيوي التجديدي الواردان في كلمات الإمام الخميني«قده» إلى مبدأين أساسيين فى الاجتهاد هما: المبدأ الأوّل: لا يجدر بـالفقه والاجتهاد الخروج عن الحدود المتداولة لهما في الحوزات العلمية الدينية، ألا وهي الاعتماد على القرآن والسنّة، فلا ينبغي الخروج باستنتاجات مخالفة للفقه ثم فرضها على العملية الاجتهادية وتحميلها عليها، إنما المفروض جعل المعايير المسلّمة في فهم الكتاب والسنّة أساساً تقوم عليه الممارسات الاجتهادية، دون العدول عنها قيد أنملة. نعم، هذا هو الفقه الجواهري. المبدأ الثاني: من جانب آخر، يفترض أن لا يسقط الفقيه في ورطة النزعات الأخبارية والجمودية في فهمه واجتهاده الديني، ذلك أنّ الفقه إنّما جاء للإنسان وحياته في تمام العصور، وعلى مستوى الأجيال جميعها. يجب أن يمتزج الفقه بالحياة بل أن يتقدّمها، إن نتائج الفقه القروسطي لم تعد نافعةً اليوم، بل يتحدّث عنها بوصفها مخالفة لروح الحضارة والتقانة والتقدّم، وهذا ما لا يدرّ نتيجةً نافعة للفقه أبداً، وبل معناه أنّه من الضروري إبقاء باب الاجتهاد مفتوحاً على الدوام، وأن يعيش الفقيه زمانه ومكانه ولحظته، وذلك لكي يتمكّن من ضمان الفقه حياً وحاضراً فى الحياة وتلاطمها، وهذا هو معنى الفقه الحيوي المتجدّد. إنّ سلسلة «الفقه والحياة» تقوم على هذه المبادئ ـ وغيرها ـ وتهتمّ بالموضوعات التي غدت في هذا العصر محلاً لتساؤلات جادّة، أو أصبحت ظواهر جديدة في الزمن الراهن. وسوف نرصد ـ بإذن الله تعالى ـ في كل حلقة من حلقات هذه السلسلة موضوعاً فقهياً، نتناوله بآليات اجتهادية ومنهج علمي، وقد ارتأينا أن يكون الموضوع الأوّل واحداً من قضايا العصر الجادّة المثارة في الاقتصاد الحديث، عنيت: الربا الإنتاجي الاستثماري، فالنظام البنكي في الاقتصاد المعاصر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بأقسام مختلفة من الاقتصاد، كما يربط بينها بوصفه حلقة وصل محكمة، كما أنّ مسألة الربح في النظام البنكي تعدّ هي الأخرى أمراً مصيرياً وأساسياً. الربا الاستثماري اصطلاح جديد، يستعمل للدلالة على نوع من الأرباح في النظام البنكي أو القروض المشابهة له، وسوف نعالجه هنا بالبحث والمناقشة، وحيث كانت العصمة للأنبياء والأئمة(عليهم السلام)ولايصان غيرهم عن الخطأ والاشتباه كان هذا القلم فاقداً للمأمن من السقوط في الهفوة أو الوقوع في الخطأ، ولهذا كان النقد والانتقاد العلميان مساهمين في تقوية هذه الدراسة، وجرّ النفع والمصلحة لها. « والحمد لله » -------------------------------------------------------------------------------- [1] وراجع أيضاً، سورة القمر :22، 32، 40، ومريم :97، والدخان: 58. [2] المزمّل: 20. [3] البقرة: 196. [4] بحار الأنوار 2: 225، ح2، وج 50: 80، ح6. [5] اختيار معرفة الرجال: 305، رقم: 549; وبحار الأنوار 2: 217، ح12. [6] اختيار معرفة الرجال: 212، الرقم: 401; ووسائل الشيعة 8: 388، ح9;وبحار الأنوار 2: 249ـ250، ح62ـ 64. [7] سنن الدار قطني 2: 122، ح4427. [8] الكليني، الكافي 1: 43، ح1.
|