بحرارة لا توصف تُقام مراسم عزاء الإمام الحسين هذه الأيام في ايران وجميع المناطق التي يقطنها الشيعة في العالم. إنّ التفاعل مع هذه المراسم لم تختص بطبقة أو شريحة خاصة بل تأثّرت جميع الطبقات بها، وكلّ واحد من أفراد المجتمع ينظر إلى هذه المراسم من زاوية خاصة. إنّا نشهدها في كل المدن والقرى والمحلات وكل نقطة هنا. يعلو هيام قلم الكتّاب ونشاط الفنانين بالحماس الحسيني. الباحثون والمحققون والوعّاظ والرواديد والكل ينطق بمحرم، ويتحدّث الصحافيون عن محرم، ويتوسّل الرياضيون بمولاهم في ميادين الرياضة حاملين معهم معالم حزن هذا الشهر... كلّ مكان وكلّ شيء تعطّر بعطر محرم والحسين.
تماشياً مع الناس في هذه الأيام جعلت شفقنا اللقاء بالمراجع وأصحاب الرأي على رأس ممهامها لكي تعطّر نفسها بعطر ذكر سيد الشهداء.
وبهذا الصدد التقينا سماحة آية الله العظمى الصانعي، وقد اعتبر في هذا اللقاء المحافظة على مراسم تعزية الإمام الحسين من مظاهر التنوير الفكري، وقال: إنّ المحافظة على القيم الدينية والاهتمام بقضايا الساحة ومعضلات العصر من مظاهر التنوير الفكر. كما عدّ هذا المرجع محرم فرصة لرفعة شأن الشيعة في العالم، وآلية لمواجهة الإرهاب، وطالب المعزّين أن يحذروا من تبديل محال التعزية إلى أماكن للتهمة والكلام البذيء والكذب.
تقرأون ما يلي لقاء شفقنا بآية الله العظمى الصانعي:
* ما هي جذور التعزية على الإمام الحسين؟
الصانعي: العزاء على أبي عبد الله (عليه السلام) متجذّر في تاريخ البشرية. ويمكن مشاهدة هذا في مناجاة موسى (عليه السلام) عند استغفاره لواحد من بني إسرائيل، حيث ورد: وحكي أنّ موسى بن عمران رآه إسرائيلي مستعجلاً وقد كسته الصفرة واعترى بدنه الضعف، وحكم بفرائصه الرجف، وقد اقشعر جسمه، وغارت عيناه ونحف، لأنّه كان إذا دعاه ربّه للمناجاة يصير عليه ذلك من خيفة الله تعالى، فعرفه الإسرائيلي وهو ممّن آمن به، فقال له: يا نبي الله أذنبت ذنباً عظيماً فاسأل ربّك أن يعفو عني فأنعم، وسار، فلمّا ناجى ربّه قال له: يا ربّ العالم أسألك وأنت العالم قبل نطقي به فقال تعالى: يا موسى ما تسألني أعطيك، وما تريد أبلغك، قال: ربّ إنّ فلاناً عبدك الإسرائيلي أذنب ذنباً ويسألك العفو، قال: يا موسى أعفو عمّن استغفر لي إلاّ قاتل الحسين، قال موسى: يا ربّ ومن الحسين؟ قال له: الذي مرّ ذكره عليك بجانب الطور، قال: يا رب ومن يقتله؟ قال يقتله أمة جده الباغية الطاغية في أرض كربلاً وتنفر فرسه وتحمحم وتصهل، وتقول في صهيلها: الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها فيبقى ملقى على الرمال من غير غسل ولا كفن، وينهب رحله، ويسبى نساؤه في البلدان، ويقتل ناصره، وتشهر رؤوسهم مع رأسه على أطراف الرماح، يا موسى صغيرهم يميته العطش، وكبيرهم جلده منكمش، يستغيثون ولا ناصر، ويستجيرون ولا خافر. قال: فبكى موسى عليه السلام وقال: يا رب وما لقاتليه من العذاب؟ قال: يا موسى عذاب يستغيث منه أهل النار بالنار... وهذه قصة العزاء منذ خلق آدم (عليه السلام) والقضية ليست قضية اليوم أو أمس، لكن التعزية بالنحو الذي نشهده اليوم من سيرة العلماء والمتشرعين والمحبين لأهل البيت (صلوات الله عليهم أجمعين) من التجمّع في مكان خاص وذكر المصيبة وذكر قضايا الإسلام، والإتيان بمقاطع من النثر والشعر فيعود إلى عهد الإمام الصادق والإمام الرضا (عليهما السلام). وقد جاء في التاريخ أنّ الناس ما كانوا يشهدوا عن الإمام الثامن الضحك عندما يحلّ محرم. ونفس هذا ذكر في بيان حالات الإمام الصادق (سلام الله عليه). وهذا هو سيرة الأئمة عموماً؛ وذلك لحفظ الإسلام حيا، ولإبراز النقمة من الظلم مهما كان وفي أي زمان ومكان، ولإبراز الحبّ للمظلوم ومواسته، وهذا ما علّمنا إيّاه أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
* ما سبب حبّ الناس للإمام الحسين من وجهة نظركم؟
الصانعي: ينفطر قلب الإنسان للمظلوم، ويسعى لمواساته ومؤازرته، وقد تبرز هذه الحالة بنحو بكاء، وأحياناً تبرز بأشكال أخرى، وقد يفقد الانسان في مثل هذه الحالة سيطرته على نفسه.
* من الأمور التي تعرّضت للنقد من قبل شريحة من المجتمع هو فقدان الإنسان سيطرته على نفسه في التعزية، وقد يخمش المعزون وجوههم من جراء ذلك، فما هي وجهة نظركم كفقيه تجاه هذه القضية؟
الصانعي: قد يضرب البعض على جبهته أثناء التعزية فتتورّم، لكن هنا لا معنى لطرح قاعدة (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام). عندما تجيش عندي العواطف والأحاسيس عند ذكر مصيبة الزهراء (سلام الله عليها) أو الإمام الحسين (عليه السلام) وأضرب على جبهتي فتتورّم، فذلك يخالف الشرع بمقدار تورّم الجبهة. إنّ العواطف والأحاسيس تتأثر بقضية أبي عبد الله (عليه السلام) وذلك بسبب ما يولوه الناس من حب له، فيعجزون عن ضبط نفوسهم. وهذا ممّا يستدعي بحثاً فقهياً، ولا أريد الولوج في هذا البحث لكنّي أريد القول بأنّ هذا ما تفعله العواطف والأحاسيس والحب الذي يوليه الناس للإمام، ولا ينبغي التصدي لهذه الظاهرة، ولا ينبغي الصدي لإبراز الأحاسيس، لنترك الناس يبرزوا أحاسيسهم الطاهرة، لنتركهم يتباكون. إنّ هذه المراسم هي من السياسات التي التزمها أهل البيت (سلام الله عليهم أجمعين). وكما قال إمام الأمة (سلام الله عليه) ينبغي الحفاظ على هذه المراسم والتقاليد، والاحتفاظ بها لا علاقة له بالتنوير الفكري. وهل الذي يحافظ على تقاليده لا يكون متنوّراً؟ لا ينبغي خلط التقاليد بالتجديد، بل الحفاظ على القيم الدينية والاهتمام بقضايا اليوم ومعضلاته يعد تنويراً بحدّ ذاته. وهل هناك أكثر تنويراً من الإمام الخميني (سلام الله عليه)؟ كان دقيقاً في القضايا السياسية وفي الفقه الإسلامي بجميع أبعاده. كان يقرأ الزيارة الغديرية (التي نقلت عن الإمام النقي) في النجف الأشرف واقفاً، والتي قد تطول ساعة. وهذا الامام نفسه كان يقول: حافظوا على مراسم العزاء التقليدية، وكلّ ما لدينا هو من محرم وصفر. علينا الاهتمام بهذه المراسم، لكن ينبغي أن نعي ما نقول وما يقال عنّا.
* ما نقول وما يقال عنّا؟
الصانعي: عند ارتقائنا المنبر وذكر المصيبة والقصائد ينبغي الالتفات إلى نقاط يهتمّ بها المخاطبون وبخاصة جيل الشباب. على الفصحاء والعلماء والمفكرين وأصحاب القلم والمتنوّرين في الحوزة والجامعة أن يهمّوا ببيان دروس حادثة كربلاء، لكي يعي الناس أكثر عظمة عاشوراء وشخصية أبي عبد الله التي لا مثيل لها.
* ما هي الدروس التي يمكن لمجتمعنا اليوم أن يستلهمها من هذا الحدث؟ وما هي الزاوية التي على الخطباء أن يهتموا بها عند ذكرهم لهذا الحدث العظيم؟
الصانعي: ما يمكن لمجتمعنا اليوم أن يتعلّمه من واقعة كربلاء لأجل حلّ مشاكله هو أنّ الرجل والمرأة والعبد والمولى والجميع كانوا مع بعضهم الآخر، ولم يكن الأمر بيد مجموعة خاصة أو قشر محدّد. لقد كان زهير وزوجته، وكان حبيب بن مظاهر وغلامه. ما تلك المدرسة التي أوجدها أبو عبد الله؟ إنّها مدرسة استفاد فيها من جميع شرائح المجتمع.
في واقعة كربلاء كان الرجال والنساء، وكان قدر النساء هناك بقدر الرجال. قد يتوتّر بعض ممّن لا بصيرة له من هذا، لكن لماذا؟ والبحث الفقهي لا يستدعي توتراً. لم ندعو أحداً لعبادة أصنام، بل قلنا إنّ قدر النساء مساوٍ لقدر الرجال. إنّ النساء كنّ في قدوة دفن الشهداء. ينبغي لهذه الحركة أن تكون مبنى فكرياً في الدين وفي الفقه الإسلامي وفي الأخلاق الإسلامية وفي التعاملات الاجتماعية. ولا يكون هذا في محرم فقط، حيث نقول: كان هذا في عاشوراء عند ذكر زينب وأم كلثوم ورباب، لكن بعد عشرة محرم نقول (أخّرهنّ الله).
الدرس الآخر الذي يمكن للمجتمع العالمي أن يتلقّاه من واقعة عاشوراء هو رعاية حقوق البشر وحقوق الحيوانات، وهو ما حصل في كربلاء بواسطة إمام الشيعة، فعندما وصل بيت ذي حسم أمر بإرواء جنود العدو؛ لأنّهم عطاشى، بل أمر بإرواء حيواناتهم كذلك، كما أمرهم بإروائهم تدريجياً خوفاً عليها أن تتألّم. أين يمكننا أن نجد إماماً يهتمّ لا بحقوق العدوّ فقط بل بحقوق حيواناته كذلك.
الدرس المهم الآخر الذي نحتاجه اليوم ونجده في واقعة عاشوراء هو الشفافية مع الجميع. لم يكن الإمام أبو عبد الله (عليه السلام) محتالاً أبداً ولم يقل شيئاً يخالف الواقع. لم يخف شيئاً عن أصحابه، بل كان شفافاً معهم. علينا جميعاً أن نكون شفافين في جميع الأوقات والأحوال، في الحياة العائلية، في الصداقة، في حياتنا كرجال دين، في الحكومة، في السياسة، في الاقتصاد، نحكي الواقع دون تمويه، حتّى لو كلّفتنا الحقيقة أمراً ثميناً. عندما حلّ اليوم السابع من ذي الحجة شرع في بيان قضيته فقال: من كان باذلاً فينا مهجته فليرتحل معنا فانّي راحل مصبحاً غداً ان شاء اللّه» وكان يعلم بأنّ نتيجته ليس شيئاً من قبيل الرئاسة والمقام بل كان طريقاً ينتهي إلى الشهادة والقتل. أي أنّه كان شفافاً منذ البداية. لقد كان شفافاً مع الجميع ومنذ البداية وعلى طول طريقه إلى كربلاء حتّى ليلة عاشوراء. علينا جميعاً أن نقارن ولو للحظة واحدة حياتنا مع حياة وسيرة الإمام أبي عبد الله، فلنكن شفافين، ولا نتفوّه بالخفاء، ولا ننطق بغير الواقع، ولنقف أمام المنكرات التي تحصل في المجتمع كما كان يفعل أبو عبد الله. ولا ينبغي لنا أن نحصر المنكرات في السفور وسوء التحجّب، ولا نحصر المعروف بالصلاة والصوم. لا شك أنّ السفور وسوء التحجّب منكر وذنب لكنّ المنكرات ليست هذه فحسب، فالظلم وتسقيط أعزّة الثورة والفقر والتضخم هذه كلّها من المنكرات وينبغي السيطرة عليها.
خاطب الإمام (عليه السلام) أصحابه في ليلة عاشوراء وقال لهم: إنّكم في حلّ من أمركم من يبقى يُقتل، أي أنّه أمرهم بالحركة ببصيرة معه، وعلينا أن نتعامل مع الآخرين ببصيرة، ولا نستغلهم فكرياً ولا نحتال عليهم.
أعطانا الإمام الحسين (عليه السلام) وعلى طول طريقه نحو كربلاء درس وثقافة الحوار، وكان يحاور كلّ من يلتقيه في الطريق حسب مستواه وقابليته. فالذي ما كان يدرك ظروف الزمان آنذاك كان يتمسك بما ورد عن رسول الله، بل يتمسّك أحياناً برؤياه الصادق، فالامام كان إمام حوار، كان يقنع الآخرين بالحوار، بل سعى حتّى في آخر لحظات عمره أن يحاور الأعداء. وهذا يكشف أنّ الإمام لم يكن من اولئك الذين يسعون لإيجاد الضوضاء، إنّه يعلّمنا أن نكون أهل حوار في مسير حركاتنا الدينية.
* ما هي وظيفة الفقهاء ورجال الدين لأجل إحياء هذه القيمة؟
الصانعي: علينا دراسة هذه الواقعة على نحو ما نعمله في الدراسات الفقهية لاستلهام مفاهيمها لمجتمعاتنا البشرية، ولا يجوز لنا المرور من قضايا كربلاء ببساطة. علينا دراستها والتفكير بها وبيانها للآخرين.
نحن موظّفون لكسب الآخرين للإسلام، وللإسلام علينا حق، فلا ينبغي لنا أن نترك الآخرين يسيئون الظنّ بالإسلام أو بواقعة عاشوراء أو بفقه الشيعة.
على رجال الدين أن يكونوا دقيقين في طرح القضايا، فإنّ خطأ واحداً لرجل دين ينتشر اليوم في العالم بسرعة، ويمكنه أن يوجد مشاكل للآخرين. علينا تعلّم كيفية تحليل القضايا بنحو صحيح، علينا أن نطالع ونتفقّه في هذا المجال.
إذا ارتدّ شخص عن الإسلام بسب عدم دقتنا وكان بإمكاننا أن نحول دون ارتداده ولم نفعل شيئاً في قبال ذلك فإنّ هذا الارتداد سيثبّت في دفتر أعمالنا.
* كيف يمكننا توظيف واقعة كربلاء في سبيل الترويج لثقافة الشيعة؟
الصانعي: ممّا نسب كذباً إلى الإسلام المحمدي هو قضية الإرهاب. إنّ واقعة كربلاء تثبت كون الإسلام المحمدي الشيعي ليس إرهابياً. لماذا تدين الشيعة الإرهاب؛ وذلك لأنّا شهدنا في واقعة كربلاء مسلم ابن عقيل قد توافرت له جميع الظروف لاغتيال عبيد الله بن زياد عندما زار شريك بن عبد الله في بيت هاني، لكنّ مسلم لم يقدم على هذا العمل، وعندما سأل شريك مسلماً لماذا لم تقتله قال مسلم: انّ الإيمان قيّد الفتك أي منع من القتل بهذا النحو. وهذا عمل ذو قيمة كبيرة جداً، فهي قصة تعني مخالفة الفكر الشيعي للإرهاب برغم ما ترتّب على عدم قتل عبيد الله بن زياد من قتل جميع أصحاب الحسين. برأيي أنّ العالم سيؤيّد التشيّع ويميل إليه إذا بلّغ التشيّع كما هو، بأنّ نقول إنّه دين عدل وإنصاف وتعقّل وإحسان لا دين عنف وإرعاب وإرهاب بل هو دين الحرية، حرية الكلام والعمل.
الموضوع الآخر هو مقاومة الديكتاتورية والظلم، وهذا يتطابق مع فطرة جميع البشر، فإنّ فطرة البشر الطاهرة لا تتقبّل الظلم ولا الفكر الظالم. علينا إحياء العاطفة التي تميل للدفاع عن المظلوم في المجتمع البشري. وهذا من التقاليد التي ورثناها عن أئمة أهل البيت لبقاء الإسلام حيّاً، فقد درّسونا كره الظلم أينما كان ومن أي صدر، وإبراز الحبّ للمظلوم.
* هل لديكم كلام توجّهونه للمعزّين؟
الصانعي: هذا الشهر هو شهر سفينة النجاة. إذا كان الحسين سفينة نجاة فباقي الأئمة جميعهم (سلام الله عليهم) سفينة نجاة كذلك - وكما قال ذلك المرحوم الشوشتري _ لكنّ سفينة الحسين في لجج غامرة تأخذ براكبها إلى الشواطىء بسهولة أكبر وتنقذ الإنسان. للجنّة باب واسع باسم الحسين.
يمكن للإمام أن يدخل أي إنسان الجنّة ليس من خلال إقامة مراسم العزاء فحسب أو من خلال البكاء والإبكاء واللطم أو تعظيم الشعائر الحسينية فقط بل يمكن أن يدخل الإنسان الجنّة من خلال التباكي كذلك. وهذا هو سعة باب أبي عبد الله (عليه السلام)، فسفينته تختلف عن باقي السفن وبابه يختلف عن باقي الأبواب. للتوسّل به خصوصية، فلأيّ _ مهما كان وبأي شكل شاء _ أن يتوسّل بالحسين ليوفّر من خلال ذلك أسباب نجاته. لذلك علينا أن نسعى لاستغلال فرصة النجاة هذه، ولا نسمح للكذب والتسقيط والكلمات البذيئة لبعض الساسة أن تجد طريقها إلى هذه المراسم. بأمل أن يتقبّل الله هذه التعازي.
التاريخ : 2013/11/16