Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: انعكاسات
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: الإمام موسى الصدر... فكر وتجديد
في حوار مفتوح مع آية الله العظمى الصانعي حفظه الله الإمام موسى الصدر... فكر وتجديد

* إنّ الحافز الذي دعا إلى اختطاف الإمام موسى الصدر هو العداوة للإسلام.

* إنّ أفكار هذا السيد الجليل كأفكار المطهري والبهشتي، بعيدة عن التحجّر والخرافة.

يعدّ آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي (حفظه الله) إحدى الشخصيات العلمائية المعروفة في العالم العربي والإسلامي، وقد تتلمذ على يد عدّة من العلماء الذين طار صيتهم في العالمين: العربي والإسلامي، ولمع اسمهم في الآفاق، ومنهم الإمام موسى الصدر الذي سجّل عنده حضوراً إلى حدٍّ ما، وإن كان قصيراً إلاّ أنّه يكفي ما يغني التلميذ من التأثّر بأستاذه. وبمناسبة مرور ثلاثين عاماً على اختطاف الإمام الصدر، وغيابه عن الحضور الجماهيري والإسلامي، يتحدّث سماحة آية الله العظمى الصانعي في حوار مفتوح مع مراسلة وكالة «ايسنا» للأنباء عن ذكرياته وانطباعاته عن تلك الشخصية الفذّة ومكانتها المرموقة على الصعيدين: الحوزوي والجماهيري، ضمن هذا التقرير:
يتناول سماحته في أول حديثه عن شخصية الإمام موسى الصدر، أهم خصوصياته البارزة التي فاق بها أقرانه، ويؤكّد أنّه كان يتمتّع بخصوصيتين طالما ندرت عند سائر الناس، قائلاً:
كان السيد موسى يتمتّع بخاصتين اثنتين قلّما يتمتّع بها الناس، الأولى مرتبطة بأموره التكوينية غير الاختيارية، والأخرى بأموره الاختيارية. أمّا الأولى فمتعلّقة بخصائص عائلته التي انحدر منها، ونشأ في حجرها، فأبوه المرحوم آية الله العظمى السيد الصدر ابن السيد إسماعيل الصدر، الذي كان يعدّ أحد المراجع الكبار، ومن فضلاء الوجوه الشيعية العلمية، لما كان له من مكانة مرموقة، ومنزلة محمودة في الحوزة العلمية بقم المقدسة. فبعد رحيل الحاج الشيخ، شكّل الثلاثي الورع الزاهد: المرحوم آية الله الخوانساري والمرحوم آية الله آقا حجت وهو (قدس الله أسرارهم) محوراً نشطاً أخذ على عاتقه إدارة الحوزة العلمية وتسيير أمورها حتى تسنّم آية الله العظمى السيد البروجردي قدس سره إدارتها وزعامتها، وكان المرحوم السيد الصدر أيضاً ممّن ساهموا في تهيئة الأجواء لحضور السيد البروجردي إلى قم، والتعريف بمقامه الجليل عند القميّين، حينما أخلى مكانه من إمامة الجماعة في الصحن الفاطمي الشريف للسيد البروجردي إيذاناً منه بوصوله، وتجليلاً لشخصه.

واستمر سماحته في الحديث عن إسهامات السيد الصدر والد السيد موسى الصدر التي ضربت مثالاً للتفاني والخُلق الكريم أثار إعجاب الآخرين، فقال معقّباً:

المبادرة التي قام بها المرحوم السيد الصدر قد أبرزت مثالاً في الخُلق الكريم الذي ينبغي لكلّ رجل دين أن يحتذي به، وأظهرت أنموذجاً واحداً لواقع علماء الشيعة وفضلائهم على صعيد احترام بعضهم للبعض، وتجليل بعضهم للبعض، مثبتين أسس الأخوّة الحقيقية والمحبة الواقعية قبل أن يطرحوها إلى الناس العوام. فالمبادرة التي أبرزها المرحوم السيد الصدر (الأب) لم تكن بالشيء الهيّن البسيط كما تتصوّرونها، إذ إنّ من يتصدّر صفوف الجماعة في الصحن الشريف، وإمامة الصلاة في بقعة مباركة مهمّة في قم التي تشرّفت بهذه البقعة، فلابّد أنّ مكانته الاجتماعية والجماهيرية ـ فضلاً عن الدينية ـ من الرفعة والسموّ والأهمية بمكان، إذ لا شكّ أنّ من يتصدّر الإمامة في هكذا مكان فسوف يأتمّ به أناس كثيرون من وجوه اجتماعية رفيعة، وعلمية سامية، وشعبية راقية، وعليه فليس كلّ أحد يمكنه تقلّد هذه المكانة إلاّ ذي الحظّ العظيم، ثم يقوم بدوره فيتنازل عنه لغيره ويخلّيه له بكلّ بساطة ويسر، إنّ هذا شيء عظيم أمره، لأنّه سوف يدلّل على شيئين مهمّين:
الأول: أهمية هذا الرجل الإمام الجديد على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.
والثاني: أعلمية هذا الرجل الجديد وأفضليته على الصعيد العلمي والحوزوي.
لقد كان بإمكانه أن يجامله بتقديمه إلى إمامة الجماعة فحسب، أو يدعوه أمام الجماهير الغفيرة المصلّية إلى تصدّر الصلاة ـ ولو لمرّة واحدة ـ على سبيل المجاملة، ولا شك أنّ السيد البروجردي سيرفض ويرجّح الائتمام به كما هو خلقه المعروف، فيزداد السيد الصدر شرفاً وتجليلاً جراء ذلك، لكنّه رفض المجاملة الخاوية وأصرّ على تصدّر القوم ـ وفيهم العالم والفاضل، الخواص والعوام ـ للصلاة مكانه، والائتمام هو ومن معه به. إنّ هذه المبادرة ذات مغزى عظيم، هذا في الوقت الذي يتكالب الناس على المناصب والمقاعد، ولا يملكون أيّ استعداد لتقبّل فكرة «التنازل» عن جزء من منصبه لغيره، ويؤثره على نفسه.

وأضاف سماحته قائلاً:

لم ينفرد هذا السيد العظيم بالمبادرة، فقد بادر سيد عظيم آخر إلى ذلك أيضاً، فقد نقل إلينا أنّ إمام الأمة (سلام الله عليه) كان من ضمن الحضور آنذاك، ولما وجد أنّ سجادة الصلاة لم تكن في مكانها ـ إمّا أنّه لم يفرشوها أصلاً، أو هناك من رفعها ـ فبادر رحمه الله فنزع عباءته وافترشها الأرض بدل سجادة الصلاة، ليصلّي السيد عليها.
وأمّا جدّ السيد موسى ؛ السيد إسماعيل الصدر فكان رجلاً عالماً فقيهاً، وكان مثالاً للفضيلة والورع، وله مدوّنات فقهية، منها حواشيه على كتاب «نجاة العباد» يظهر منها أنّه كان فقيهاً متمرساً ومرجع تقليد محتاطاً، وذا تقوى وورع.

الإمام موسى الصدر وتخلقّه بخلق الإسلام

وأمّا الخصوصية الأخرى للإمام موسى الصدر فهي شخصيته الفذّة، وما كان يتحلّى من شمائل حميدة متخلّقة بخلق الإسلام الكريم، وهذا ما كان يشير إليه سماحته ضمن حديثه عن الخصوصية الأخرى للسيد الصدر، يقول حفظه الله:

كان الإمام موسى متخلّقاً بأخلاق الإسلام، لا يحيد عنها ولا يميل، في أقواله وأفعاله، وفي تعامله مع الناس جميعاً، وهو ما اكتسبه حبّ الآخرين وانجذابهم إليه، والتفافهم حوله، من طلبة وعوام الناس. ربّما كنّا الأقلّ حظّاً من أفراد الحوزة العلمية آنذاك ممّن حظي برؤيته واللقاء به مع أنّنا من أوائل الطلبة الذين جاءوا إلى حوزة قم، وتشرّفوا بها، فوفّقنا بحضور حلقة درسه مع سائر الرفقاء، ومن خلال هذه الفترة ـ وإن كانت وجيزة ـ نشأ انطباعنا عنه، وأدهشنا خلقه الكريم. لقد عرفناه إنساناً خلوقاً بخلق الإسلام، عارفاً بمتطلّبات عصره وزمانه، يواكب ثقافة جيله وأترابه، لذا كان يتحدّث بلغة عصره، فيفهمها الآخرون بسرعة فينجذبون نحوه، ويحاورونه بجميع المسائل الإسلامية والحياتية، فولدت جرّاء ذلك علاقة صميمية وعميقة بينه وبين الناس على اختلاف أذواقهم ومستوياتهم العلمية والاجتماعية، وتفاوت مداركهم للحياة ومتطلّباتها المتعدّدة.
كان السيد موسى شخصاً ودوداً حليماً ومتواضعاً، ذا طبع بارد غير متشنّج، يحبّ للناس أكثر ممّا يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لها، وفوق كلّ ذلك لم يكن متكبّراً قطّ. وهذه صفات العلماء الربّانيين، وهو ما يجب أن يتحلّى به المؤمنون، كما جاء في الروايات عن أهل البيت عليهم السلام.

الإمام الصدر وآماله الحوزوية ويضيف سماحته وهو يستجمع ذكرياته حول شخصية هذا الرجل الفذّ فيقول:

كان السيد موسى يحمل آمالاً وأماني واسعة تجاه الحوزة والمنهج الحوزوي، إذ كان يرغب في أن تسمو الحوزة العلمية وينتشر صداها إلى كلّ أرجاء العالم الإسلامي، وتكون أهلاً لاحتضان المحقّقين والجامعيّين وذوي الشهادات العليا، وأن تكون لها القدرة على استيعاب جميع صنوف الناس وألوانهم ومشاربهم واتّجاهاتهم، كما كان يأمل في أن يأتي اليوم الذي تفخر الشيعة بما لديها من ميراث عظيم منشور في كلّ أطراف الأرض.
كان السيد يسعى إلى جذب كلّ من يجد فيه رغبةً وميولاً في دراسة علوم أهل البيت عليهم السلام ومعارفهم الشريفة وبشتّى الطرق.
لقد كان كثيراً ما يشير في حواراته مع الطلبة إلى مسألة جذب الآخرين إلى الانضمام إلى صفوف الحوزة العلمية، وهذا لا يتمّ بالقوة، بل بالخُلق الكريم والسيرة الحسنة. ولذا كان يؤكّد أنّ الأساتذة عموماً على قسمين: أستاذ يطرح مادته العلمية ويرحل، وآخر يلقي بحثه ولا يرحل بل ينتظر ردود فعل تلاميذه، ومدى تأثّرهم به، ثم يحاول أن يرغبهم إلى الإتيان بمثله أو ردّه ومناقشته. كان السيد يبذل جهداً في هذا المضمار، ويسعى إلى تكريس هذه الحالة في صفوف ونفوس طلاّبه.
وهذا بالضبط ما يذكّرني بشخصية إمام الأمة الراحل، وما كان يبذله من جهود جبارة في سبيل تربية نفوس مريديه وحوارييه، وتهذيبها على حبّ الخير والعدل والعمل الصالح، وحثّها على طلب الحقّ ومناقشة الباطل ودفعه.

ويقول سماحته وهو يعيد بعض ذكرياته ويداورها حيث الأيام التي قضاها في حضور درسه، والخلق التي اتّصف بها هذا الأستاذ الجليل:

تحضرني بعض الذكريات عن تلك الأيام التي قضيناها ونحن وعدّة آخرون نترع من معين علم وزجالة خلق هذا الأستاذ الكريم، وما كان يبرزه من مسائل محبّبة، يضحكنا إذا رآنا قد مللنا الجلوس والإصغاء، ثم يرسل إلينا ما يثير فينا الفضول لمعرفته. على أنّه لم تكن كلماته في النصح لوحدها تهذّب نفوسنا، بل بفعاله أيضاً.
نعم تحضرني قصة ذلك الشيخ الذي لم يدع يوماً يمرّ إلاّ وبرز بإشكال أو بملاحظة، ولا يفوّت مسألة إلاّ ويطرح ما يثير فينا الغضب أحياناً ممّا يطرحه، إذ غالباً ما كان يهدر وقتنا بأسئلته التي لا تستحق حتّى الاستماع إليها فضلاً عن الإجابة عنها، لكن السيد مع كلّ ذلك، وبما عرف من حلم وسعة صدر، وعطف واحترام للآخرين، كان يجيب على كلّ اسئلته وإشكالاته بكلّ رحابة صدر! واستمرّ هذا الشيخ على طريقته حتّى علمنا في يومٍ غيابه عن الدرس وسفره إلى بلدته، وتنفّسنا الصعداء! ولم نخف سرورنا عن السيد، لكنّه بدل أن يطاوعنا في الكلام ردّ علينا بالنفي! وأجاب: بل إنّ لسفره هو الحزن كلّه، لقد كان لحضوره فائدة لنا جميعاً، إذ إنّ كثرة اسئلته واستفساراته تجعلنا جميعاً في حالة تأهّب وتوثب لإحضار الجواب، واستعداد لإعمال الدقة في الطرح والبحث.
كم هو لطيف ما يطرحه هذا السيد، فمن جهة علّمنا بموقفه هذا أنّ الناس لهم الحقّ في السؤال والاستفسار، إذن لا تملّوا منهم، وأجيبوهم بالكامل، ومن جهة أخرى لم يطلب الكلام والمذمّة للناس من وراء ظهورهم. إنّه معلّم خير وأخلاق أكثر ممّا هو معلّم علم ومعرفة.

ويستمر سماحته في الحديث عن تلك الأيام التي قضاها طالباً وناشئاً جديداً:

لقد دأب أساتذة الحوزة على إعطاء الامتحانات بعد كلّ دورة ودراسة لكتاب من كتب علمائنا المتقدمين، ليختبروا حالنا، ويمحّصوا السمين من الغثّ وكان السيد البروجردي قدس سره يمتحننا وجميع الطلبة بشكل دوري، إذ كنّا آنذاك في المراحل الأولى للدراسة الحوزوية (السطح الأول) حيث كانت الحوزة على منهجية معروفة تتمّ الدراسة فيها في ثلاث مراحل (سطوح): السطح الأول: المقدماتي، السطح الثاني: السطح العالي، والسطح الثالث: عالي العالي، وكنّا آنذاك ندرس السطح الأول، وبالتحديد كنّا ندرس كتاب (القوانين) للميرزا القمي قدس سره، وقد اشتركنا في الامتحان كباقي الطلبة في مدرسة المرحوم الملاّ صادق، وكان المشرف على سير الامتحان شيخ زاهد يدعى الشيخ روحي اليزدي، وكان شيخاً فاضلاً خيّراً متواضعاً، وشيخ آخر لا يحضرني اسمه من مدينة تبريز. وهذه الامتحانات كانت تعدّ الحدّ الفاصل الذي عن طريقه يجتاز الطالب مرحلةً أخرى، مع زيادة في النفقة المصروفة له من الأموال الشرعية التي يدفعها الفقهاء والمراجع لطلاّب العلم. ومن الأساتذة الذين اجتزت اختباراتهم المرحوم آية الله آقا حجّت رضوان الله عليه الذي وافته المنية بعد أيام من اجتيازي امتحانه.
وكان المرحوم عالماً خيّراً، وقد عقد له المرحوم السيد الصدر (والد السيد موسى) مجلس فاتحة وأهداه إلى روحه.

ويضيف سماحته وهو يعيد ذاكرته إلى الوراء فيقول:

لاشكّ أنّ باطن الإنسان لا يعرفه إلاّ الله سبحانه وحده، والناس لا ينظرون إلاّ إلى ظاهر الإنسان وسيماه الخارجية: فإن كان ذا هيئة ولباس أبدوا له احتراماً مفرطاً، والعكس إذا رأوه في هيئة رثة فإنّهم لا يكترثون به ألبته. وفي ذلك الوقت كنّا كسائر الطلبة الذين يفدون على مدينة قم من أنحاء البلاد المختلفة، من ريفها وقراها، بهيئة لا تنمّ على حسن الحال ورفاهيته...
ومع ذلك لم يكن لأحدنا أن يشعر بالسوء أو الغيظ ممّا يستقبلنا به بعض الناس، بل نحاول تجنّب المواقف التي من شأنها أن تضعنا في حال محرج... وهذا ما دعانا إلى الخروج قبل اختتام مجلس الفاتحة التي عقده السيد الصدر (والد السيد موسى) وإهداء ثوابه إلى روح المرحوم أقا حجت، ولم نكن لنتناول أول الطريق قاصدين باب الخروج من مسجد (أعلى الرأس الشريف) بجانب ضريح السيدة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليهما السلام، ومتّجهين إلى الصحن الشريف حتّى استقبلنا السيد موسى بقامته المديدة، والتقط أيدينا للمصافحة، وكانت مصافحته بحرارة، وتوديعه بحفاوة قلّ نظيره من شخص ذي شأن لطالب شاب قروي، لا تدلّ هيئته على شيء ممّا يظنّون ! لقد رحب بنا بحفاوة تامة، وظلّ يشكر مساعينا لحضور المجلس، ثم بادرنا بالسؤال: ألم تكن يا شيخ منذ أيام في مدرسة الحاج ملا صادق تؤدي الامتحان لكتاب «القوانين» ؟ فأجبناه بنعم، ثم شدّ على أيدينا واستودعنا بالسلامة، فانطلقنا ولم نفهم آنذاك مغزى سؤاله!

ويستمّر سماحته في وصف شخصية هذا السيد وما كان يحمله من فكر تربوي فقال:

لم يكن درس السيد موسى ليختلف عن سائر الأساتذة إلاّ في الطابع التربوي الذي كان يضفيه عليه. فما من حادثة أو خبر إلاّ ويأتي به بقصد أخذ العبرة منه في الدقائق الأولى من درسه، ثم يشرع بالكلام في الدرس، ففي ذلك اليوم افتتح حديثه عن الراحل آقا حجت والترحّم له، لكنّه عرج فجأة علينا قائلاً: يا فلان، ثمة حديث دار بيني وبين أقا روحي حولك، لقد مدحك كثيراً وقال: إنّ هذا التلميذ (الصانعي) يتكلّم ويتحدّث بشكل كأنّه الميرزا القمي (صاحب كتاب القوانين) نفسه! فإنّ بيانه للمطالب كبيان الميرزا جميل للغاية! ثم راح الإمام موسى يسألنا بعض الأسئلة أثار فينا الحوافز للاستمرار في طلب العلم ومصاحبة العلماء.
ولا شك أنّ هذه الأخلاق عظيمة، وقلّما هي موجودة عند الناس، وهي تنبئ عن مدى تهذيبه وتخلّقه بخلق الإسلام.

وأضاف سماحته قائلاً:

لقد أحببنا هذا السيد حبّاً صميمياً، وصرنا مع بعض الطلبة الزملاء البحث عن وسيلة لإقناعه في الاستمرار بالدرس ولكن لدروس السطح الثاني بعدما اجتزنا مرحلة السطح الأول، لذا عزمنا على أن نطرح مقترحاً عليه بشأن توليه التدريس لكتاب «الرسائل» أو «المكاسب» وهما كتابان رفيعا المستوى من حيث المحتوى والمادة العلمية فيه، وعلى حدّ قول الشيخ أقا حجت:
من يقرأ صفحة واحدة من كتاب المكاسب، ثم يشرح لي معناها شرحاً وافياً فسوف أعطيه إجازة الاجتهاد! بل هو عندي مجتهد! ولمّا عرضنا مقترحنا عليه رفضه بأدب وقال: وأين أنا وكتاب المكاسب يا أعزائي ! إنّ هذا الدرس يجب أن يتولاّه الأعلام المقتدرون كالشيخ جواد العاملي ـ وكان أحد أعلام أساتذة الحوزة العلمية ـ وأمثاله، إنّه حقّ الآخرين ولست ممّن هو مؤهل لتولّيه! ولمّا رأى إلحاحنا عليه قال لنا ما معناه: إنّنا وأمثالنا إذا أنطرح علينا عملٌ ما أو مقترح، وقبل أن نجيب له ينبغي أن نعي مقدرتنا عليه، وندرك ما الذي يمكننا فعله تجاهه، إنّ التدريس مسؤولية تربوية وتعليمية خطيرة، ليس كل ّ أحد يمكنه القيام بها.

ويقول سماحته وهو يعرّج في ذكرياته عن الإمام الخميني قدس سره:

إنّ الأساتذة المعلّمين والمربّين للأجيال يعون هذه الحقائق بشأن متطلّبات الجيل الجديد، وأنّه يجب أن يكون المعلّم بقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأن يوزن كلّ كلمةٍ وكلّ حرفٍ يتفوّه به ؛ لئلاّ تنعكس آثاره على نفسية وثقافة الجيل الصاعد. وهذا ما يذكّرني بحادثة وقعت حينما كنت في زيارة لمنزل الإمام (سلام الله عليه)، كانت باحة المنزل عريضة بعض الشيء، يتوسطها حوض ماء صغير يستخدمه الإمام لوضوئه، وكانت ثمة مضخّة ماء منصوبة بالقرب من الحوض، تعمل على ملئه بالماء إذا فرغ، فاتّفق وقوفي جنب المضخّة، وكان الشيخ أقا روحي (رحمه الله) حاضراً آنذاك، وكان يتحدّث مع الإمام عن قرب وإلى جانبه يقف ولده، وقد ذكر لنا ولده فيما بعد أنّ والده المرحوم لمّا رآني قرب الحوض ذكرني عند الإمام الذي أبدى اهتماماً تجاهي، فأجابه والدي: إنّه طالب مجدّ في درسه وعمله! فردّ عليه مبتسماً وهو يحدق النظر إلينا: حسن جداً! طالب مجدّ مجتهد.
إنّ هؤلاء العظماء يوزعون اهتماماتهم على كلّ الناس ويحضّون الآخرين على الجدّ والاجتهاد، إنّها وسيلة لتربية الأجيال، بالكلمة والفعل والحركة البسيطة. وهؤلاء لا ينحدرون من عدم، بل لأصولهم وتربيتهم أثر في ذلك.

أفكار الإمام الصدر كالشهيدين البهشتي والمطهري... ضدّ التحجّر وضمن بيان سماحته العلاقة بين الإمام موسى الصدر وسائر العلماء قال:

إنّ عائلة السيد موسى لم تكن عائلة عادية، وإنّما كان لها مقام شامخ علمياً واجتماعياً، وكانت تربطها علاقات حسنة وصميمية مع عوائل علماء قم والنجف الأشرف... إنّ ما يحضرني أنّه كانت لها علاقات طيّبة مع عائلة الشهيد البهشتي والمطهري (رحمهما الله)، لذا كانت الأفكار متلاقحة وقريبة من بعضها، تتّسم بالتحرّر وبعيدة عن التحجّر والخرافة، وإن كانت ثمة معاناة فإنّما هي المعاناة الصادرة عن ذوي الفكر المتحجّر، الذين لا يؤمنون بالتغيّر مطلقاً، ولا يرضون بمواكبة الزمان المتجدّد.

وفي إشارة من سماحته إلى ما كان يحمله هذا الرجل من آراء ونظريات حول الوحدة بين الشيعة والسنّة على الصعيد الفقهي، والتي لم تكن الأوساط المحافظة والمتحجّرة ترغب فيها، وتسعى إلى تجنّبها، بل وترفضها رفضاً مطلقاً، فقال في هذا الصدد:

كان ثمة تيار يؤمن بالتغيير والتجديد، ويرفض الوضع «الجامد» السائد، لأنّ الفقه الإسلامي من صفاته الواقعية مواكبة الزمان والمكان، ولعلّ الشهيد البهشتي والمطهّري والإمام موسى الصدر في صدارة هذا التيار، يسندهم المثقفون والحائزون على الشهادات الجامعية العليا، الذين كانوا يحملون أفكاراً خاصّة يطلبون بها نفع المسلمين، ومن أبرزها فكرة وحدة المسلمين جميعاً، لما لها من مزايا كثيرة لنفع الأمة وتقوية شوكتها.
ولذا نجد الشهيد المطهري في طرحه لمسألة الربا يفرق بين الربا لغرض الانتاج والربا على سبيل النفقات الحياتية، وأظهر الفرق بينهما على الصعيد الاجتماعي، وأبرز نفعه في هذا المضمار، لكنّه لم يستطع تحليل ذلك فقهياً، فهو يقول: إنّ من يمتلك مالاً، كأن يكون مائة مليون ريال على سبيل المثال، وطلب قرضاً مقداره مائة مليون ريال على أن يردّه بمائة وعشرين مليوناً، لغرض بناء مصنع أو مزرعة أو حقل تربية المواشي أو... فهذا ليس بربا من الجانب الاجتماعي ولا الاقتصادي، لأنّه لا يعدّ ابتلاءً بالنسبة له ولا معاناةً، ولا يشكّل ضرراً له بقدر ما يدّر عليه بالنفع والفائدة، لأنّ العملية برمّتها توسعة وتطوير استثماري.
إنّ هذا البحث المطروح من قبل الشهيد المطهري والذي يقسّم فيه الربا إلى قسمين قد أوحى إلى كثيرين من بعده ببعض الأفكار التجديدية وإن لم يستطع طرحه فقهياً، ولم يتمكّن من ردّه، ولم تكن آثارها ببعيدة عمّا نطرحه نحن من أفكار تجديدية على الصعيد الفقهي.

الوحدة الإسلامية... ذخيرة ومصدر لكلّ المشاريع وفي إطار إشارته (حفظه الله) إلى دور الوحدة الإسلامية وتكاتف المسلمين جميعاً في حلّ المشاكل العالقة، فيقول:

إنّ بحث الوحدة الإسلامية ليس بجديد على المسلمين وعلماء المسلمين، فقد برزت دعوات عديدة فرضها واقع الأمة المتردّي، وكان آية الله البروجردي (قدس سره) قد طرحها في ثنايا مصنّفاته، مؤكّداً على أنّ لها جذوراً في الكتاب والسنّة الشريفة، فليست إذاً هي غريبة ولا جديدة على الحوزة العلمية، لكنّها كانت مقتصرة على بعض العلماء، وتدور في إطار الفكر والنظرية، فلم تجرؤ أن تخرج إلى الواقع وإن كان هنالك من يريد أن يخرجها إلى عالم التطبيق بإمكاناته القليلة، لكنّه ما يلبث أن يصطدم بصيحات المتحجّرين، ونظرة الرأي السائد الضيقة تجاه تعاملها مع مفردات الحياة والحوادث الواقعة.
لقد أراد بعض المثقفين العمل في هذا السبيل رغم قدراته المحدودة، وهذا لم يكن ليتمّ لولا بُعد هؤلاء عن الجو السائد والمقيّد الذي صنعه المحافظون والمتطرفون، وسفرهم إلى الخارج ولقائهم بوجوه عديدة وعقول مختلفة. فبدأ هؤلاء بطرح فكرة توحيد أعياد المسلمين، وجواز الصلاة خلف المخالف المذهبي.. وغير ذلك، كخطوة أولى في الطريق الطويل حتّى تحقيق الهدف المنشود.
وجذور مسألة الوحدة بين المسلمين عميقة في تراثنا الإسلامي، كان قد أشار إليها المرحوم البروجردي في أكثر من موضع، لذا فمن المفترض على أمة المسلمين جميعاً، خواصها وعوامها، علمائها وطلبتها وجهّالها، متابعة هذه الدعوة، إذ إنّ في الوحدة الخير الكثير، وهي تشكّل ذخيرةً ومصدر قوة لكلّ المشاريع التنموية.

ويضيف سماحته أيضاً قائلاً:

لقد لقينا نحن أيضاً بعض الرفض من جهات متعدّدة، وتعرّضنا للنقد الثقيل من بعض الاطراف الحوزوية بسبب طرحنا لبعض الأفكار التجديدية في ميدان الفقه. لنأتي بمثال في هذا الإطار: في عام 1330 هـ ش (1951 م) طرح آية الله البروجردي قدس سره مشروع تأليف كتابه المعروف (جامع أحاديث الشيعة) واختار لجنة مشرّفة متكوّنة من مجموعة من علماء وفضلاء الحوزة العلمية ممّن لديهم باع في التحقيق والبحث العلمي في مجال الحديث، منهم: آية الله واعظ زاده الخراساني والإمام موسى الصدر والشيخ مجد الدين المحلاتي وآخرون من ذوي الفضل والعلم والتحقيق، حيث يقع على عاتقهم مسؤولية جمع الروايات المتناثرة في الكتب والمصنّفات الشيعية، وتبويبها في أبواب ثابتة؛ ليسهل الرجوع إليها، ومطالعتها، من دون هدر المزيد من الوقت إذا ما أراد الباحث مراجعة المصنّفات كتاباً كتاباً، فيتوفّر له الوقت بالإضافة إلى المادّة العلمية، إذا ماتمّ جمعها في كتاب جامع واحد.
يروي لنا آية الله واعظ زاده فقال: لقد أكّد علينا السيد البروجردي آنذاك في ابتداء عملنا أن نجمع الروايات الشيعية والسنّية معاً؛ ليكون مرجعاً حديثياً إسلامياً جامعاً، يرجع إليه المسلمون: شيعيهّم وسنّيهم. وعلى هذا الأساس شرعنا بالعمل، وأتممنا كتاب الطهارة (الباب الأول من أبواب الفقه) ولم نكن لنشرع بكتاب الصلاة حتّى فوجئنا يوماً أن أطلّ علينا السيد المرحوم البروجردي وأمرنا أن نوقف العمل، وقال إنّه علينا تغيير منهج العمل، دعوا الروايات السنّية جانباً، واقتصروا على الروايات الشيعية فقط! ولمّا سألناه عن المجلّد الأول بخصوص كتاب الطهارة الذي أتممناه، فقال: امحوها ودعوا الروايات الشيعية فقط! تعجّبنا من كلامه، لكن لم يجرؤ أحد منّا سؤاله عن علّة ذلك... لكن بعد أيام أخبرنا ولده الأكبر عن سبب قرار والده، وهو الضغوط الشديدة التي تعرّض لها والده جرّاء مبادرته هذه !!
نعم، رغم جلالة منزلة السيد البروجردي في الحوزة العلمية، وهو زعيمها آنذاك، لم يستطع مقاومة ضغوطات الجهات المتطرّفة والمتحجّرة في الحوزة، حتّى إنّهم بدأوا باتهامه بأنّه صار يخلط بين الروايات التي طالما عكف «أصحابنا» على عزلها عن روايات الآخرين! وهذا يُظهر مدى قوة العقول المتحجّرة آنذاك، ومقدار تسلّطها على الحوزة العلمية.

ويستمر سماحته في حديثه فيقول:

لقد كانت الضغوطات هائلة لدرجة أركعت زعيم الحوزة العلمية آنذاك على الخضوع لها، والعجز عن مقاومتها، فأُجبر على حذف روايات أهل السنّة عن كتابه الجامع. إنّ عوامل التحجّر التي كانت تدور وتمرح في أروقة الحوزة العلمية هي التي أجبرت مرجعاً عريقاً وعالماً ربّانياً مثل آية الله البروجردي على التراجع عن خططه، وهي خطط علمية محضة، أرادها أن تكون الخطوة الأولى نحو الوحدة بين المسلمين، لكنّهم اتّهموه بتخريب المذهب!
وانتقدوه بشتّى النقود حتّى أجبروه على التراجع عن فكرته التي أراد أن يثبت من خلال شروعه أنّ للوحدة الإسلامية جذوراً في رواياتنا ومن طرقنا والتي تحضّ الشيعة على الذهاب إلى جماعتهم، بل والوقوف في الصفوف الأمامية.

ويستطرد سماحته قائلاً:

ورغم هذه المقاومة استمر دعاة الوحدة والتكاتف بين المسلمين في منهجهم حتّى بعد رحيل السيد البروجردي، وكان للإمام الخميني قدس سره الأثر البالغ في إسنادهم ومعونتهم لأنّه كان هو نفسه من دعاة هذا الأمر، حيث ينقل عنه أنّه لمّا كان في موسم الحج لأداء المناسك مع أناس من مريديه، فما أن سمع أذان المسجد الحرام أو مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتّى هبّ قائماً، ووضع عباءته على كتفيه وانطلق مسرعاً للائتمام بصلاتهم، ولم ينتظر أحداً منهم، وسط تعجّب المرافقين له، الذين لم يألوا جهداً في أن يلحقوا به.
ومسألة الوحدة لم تقتصر على ذكرها في الرسائل العملية، بل في الأخبار ما يؤيّدها لمن يراجع مصادرنا الحديثية والفقهية. وهذا الكلام ذكره آية الله البروجردي في كلماته وحواراته مع الناس، ينقل الشيخ واعظ زاده أنّه رحمه الله كان يقول: تعالوا نطرح المسائل الإسلامية على بساط البحث، ونجمع ما نقوله نحن أنّه من الإسلام، وما تقولونه أنتم أنّه من الإسلام بصورة عملية، لندع الكلام ونبدأ بالعمل، وما تقولونه أنتم أنّه من الإسلام بصورة عملية، لندع الكلام ونبدأ بالعمل، لنرى أيّنا هو الأفضل والمطابق للإسلام. تعالوا نطرح مسألةً فقهية فندلي برأينا فيها وأدلوا برأيكم فيها، ثم نناقش أدلّتنا وأدلّتكم،، ثم نقف معاً على أيّ الرأيين هو أقرب للوحي؟ وأيّهما يرضى عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ وقد استمرّ العلماء من بعده في الدعوة إلى الجلوس معاً ومناقشة الأمور برويّة من غير عصبية ولا عناد.

ويضيف قائلاً:

وكان الإمام موسى الصدر يرى أيضاً هذه الآراء، ويعتقد بصحّتها، لكنّه كان يعجز عن الإدلاء بها نظراً إلى الظروف القاسية والصعبة التي كانت تحيط به، غير أنّه طرح أفكاراً لعلّها تكون خطوة أولى إلى الهدف الأسمى، فمثلاً طرح مسألة الأفق ورؤية الهلال، وأظهر آثارها الاجتماعية، لكنّه لم يكن ليظهر المسألة على الصعيد الفقهي، لكن بعد انتصار الثورة المباركة واجتياح رياح التغيير للحوزة العلمية، ظهرت آراء فقهية تجديدية قد تبنّيناها مؤخراً وإن كان قسم منها قد بيّنه آية الله الخوئي على صعيد رؤية الهلال ووحدة الأفق، ورأينا، ثابتاً عندنا أيضاً.
إذ لو اشترك بلدان أو أكثر في مقدارٍ من الليل ـ عدّة ساعات ـ على أن يكون نهار هذه البلدان كلّه متفاوت ومختلف، فإذا رؤي الهلال في إحداها ثبت حلول شهر رمضان في جميعها التي يشترك الليل فيها أربع أو ثلاث ساعات، وأيضاً إذا ثبتت رؤية هلال شهر شوال في إحداها ثبت العيد فيها جميعاً، وهكذا في رؤية هلال ذي الحجة وثبوت عيد الأضحى.
إنّ هذا الرأي الفقهي يقوم على مبنىً فقهي، ولم نقل به حتّى ثبت عندنا ذلك، رغم أنّ المتقدمين من فقهائنا، وطائفة من المتأخرين كانوا يجدونه مشكلاً، وإشكاله هو أنّ إثباته مشكل جداً.

وبصدد حديث سماحته عن الوحدة الإسلامية، وتأسّفه على ما عليه المسلمون في وقتنا الراهن، قال موضحّاً:

نحن جميعاً نقول وندّعي وحدة المسلمين، ولكنّ أعمالنا تكون مخالفة لما نقوله وندّعيه، ومواقفنا تظهر وكأنّنا نريد الخداع لا الحقّ والحقيقة. إنّ الوحدة الإسلامية تتطلّب منّا العزم والتصميم في القول والعمل معاً، وهي كما يقول الشيخ واعظ زاده نقلاً عن السيد البروجردي: تعالوا ندع اختلافاتنا جانباً، ونؤكدّ على موارد اتفاقاتنا. لنترك البحث والتفصّي في موارد الاختلاف بيننا وبينكم وكلّ ما يثير السوء والضلال والضغينة. وهذا ما نريد قوله إلى الآخرين، وعلى الآخرين أيضاً في مقابل ذلك أن يقبلوها ويرضوا بها ؛ لنبدأ بالعمل في هذا الطريق الطويل. والإنصاف أن نتمسّك بالقاعدة التي وضعها أهل البيت عليهم السلام حبّ لأخيك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكرهه لها.

وأضاف قائلاً:

إنّ هنالك من يخالف هذه الدعوات ويرفضها جملةً وتفصيلاً، ويجدون مسألة الوحدة ما هي إلاّ مكر يحيكه المخالف ضدّنا!! ولعلّ حادثة بيت الله الحرام التي وقعت عام 1344 هـ ش (1965 م) خير دليل على ذلك، حيث كنّا هناك لأداء المناسك، فاتّفق حضور آية الله عبد الله الشيرازي هناك، وقد سررنا في ذلك وفي ليلةٍ سمعنا من البعض أنّ المسجد النبوي سوف تفتح أبوابه حتّى الصباح تكريماً على ما يبدو للشيرازي، فزاد سرورنا، ولمّا حلّ الليل ذهبنا إلى المسجد فرأينا حشداً قرب قبر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقد شرعوا بالمديح لصاحب القبر الطاهر، لكن فجأة حضرت الشرطة واحتشدت، وشرعت بدون سابق إنذار في ضرب الحشد المؤمن الزائر وطردهم من المسجد بالقوة والعنف، ثم أغلقوا المسجد بوجه الزائرين!! لو أنّ الآخرين أرادوا تحقيق الوحدة، فلا نجد هنالك مانعاً من تحقيقها إذا اتفق المسلمون على ذلك وتكاتفوا في سبيل تحقيق هذه الغاية، ولا عسر في ذلك.
نعم، الآن هنالك مساعٍ وجهود مبذولة في هذا الاتجاه، وإن شاء الله يكتب التوفيق والنجاح للشيخ الرفسنجاني (حفظه الله) في مساعيه في هذا الطريق، سواء بتنظيم المؤتمرات الوحدوية أو بتكثيف اللقاءات الأخوية، طالما كان الهدف هو تحقيق هذا الحلم الكبير، ومن ثم بناء صرحه العالي.

سبب اختطاف الإمام موسى الصدر وفي صدد الحديث عن الأسباب التي دعت إلى اختطاف السيد موسى الصدر، وتغييبه عن الحضور بين المسلمين يقول سماحة الشيخ الصانعي:

إنّ السبب الأول هو العداوة للإسلام وأهله، وهو السبب نفسه الذي دعا إلى اغتيال الشهيد المطهري وتغييبه عن المشهد الإسلامي، فقد علم الأعداء أنّ هذا الشيخ الجليل يمتلك المؤهلات التي تمكّنه من طرح مشروع الوحدة، بل وبإمكانه دفعه إلى مراحل متقدمة، لذا أسرعوا إلى تصفيته جسدياً باستخدام الإرهاب والعنف في التعامل معه. إنّ من يتابع خطابات هذا الرجل، ويقرأ كتبه ومقالاته، يجدها تشير إلى أمهات المشاكل التي تواجه المسلمين، ومن ثمّ يطرح الحلول المناسبة لها.
لقد كان فكره فكراً عملاقاً وجاداً، وهو بذلك يشكّل خطراً داهماً على الأعداء.
وكذلك الشهيد البهشتي الذي قضى نحبه في انفجار مريع للحزب الجمهوري الإسلامي كان يمتلك فكراً فذّاً وهادفاً أثار رعب الأعداء وأذنابه، وأيضاً الشهيد محمد المنتظري الذي امتدت إليه يد الغدر والعدوان بعدما أثبت أن أفكاره ذات بُعدٍ يمكن أن تشكّل خطورةً على الأعداء، فجاء القرار بقتله... وهكذا باقي أفراد الحزب الجمهوري الذي كان كلّ فرد من أعضائه يمثّل موقفاً صلباً لصالح الإسلام، وخطراً محدقاً للأعداء، نظير الشهيد الرجائي وباهنر وأقرانهما.
نعم، إنّ الحافز الأول الذي دعا إلى اغتيالهم وتغييبهم عن المشهد الإسلامي هو العداوة للإسلام وأهله. وعليه فكلّ من ينطق بحقيقة الإسلام، وينشر صورته الحقيقية، ويثير الفطرة السليمة للدعوة إلى الالتحاق بصنوف أهل الإسلام، ينتهي به المطاف إلى القتل والتصفية الجسدية.
هذه هي لغة الأعداء، حيث لا يمتلكون المنطلق والحوار تراهم يتوسّلون بآلات القتل والترهيب. إنّهم لا يكرهون الإسلام فحسب، بل وأهله وأتباعه أيضاً، لذا فكلّ مفيد ونافع للإسلام يعدّ خطراً عليهم، وكلّ متعلّق به يزيد من نهضته وشوكته يكون خطراً أيضاً عليهم، بل حتّى من يتكلّم في الفقه أو يطرح منهجاً فقهياً، لا علاقة له بالسياسة، يعدّ عدوّاً لهم وخطراً عليهم، ينبغي تصفيته!

ويضيف سماحته قائلاً:

اننا لم نهتمّ بالسياسة، لم نول لها أهمية، كلّ ما هنالك طرحنا مجموعة من المسائل الجديدة المواكبة ومشاكل المسلمين الراهنة، ومتناغمة مع منهج الحوزة العلمية، ومع ذلك حشد الأعداء والمناوئون علينا للنيل منّا، وكأنّنا ارتكبنا جرماً !
وليس هذا فحسب، بل تكاتفوا ضدّ كلّ من ينقل عنّا، ويردّد ما قلناه.
إنّ بحث الدية الذي طرحناه منذ عشر سنوات خلت، رغم كلّ الكلام الذي سمعناه، والصور التي صوّرها الأعداء على أنّها بداية مرحلة التخلّي عن مبادئ الحوزة العلمية الشيعية.. وما إلى ذلك، ترى اليوم الكثيرين قد أيدّوه واكّدوه بعدما أدركوا مغزاه ومبناه، لدرجة أنّ القوة القضائية قد أخذت به، وبدأت العمل به، بعدما كانت لفترة غير وجيزة متردّدة تجاهه.
وهكذا بحثنا في التأمين الصحي وغيره الذي وجّهت عبره لطمة إلى كلّ بوق للأعداء همّه بثّ الفرقة بين المسلمين، فبارك الله في كلّ من سعى في هذا المضمار الخيّر وشكراً له.
إنّنا نتمتّع بفيض بركات إمامنا (عجل الله فرجه)، واستناداً إلى تجربتنا الطويلة وخبرتنا في علوم الحوزة العلمية، وبحوثنا المتعدّدة في هذا الإطار، يضاف إليه الفكر الراشد والمتجدّد الذي يمتلكه مجتمعنا، كلّ ذلك ساعدنا على تخطّي الموانع، وتجاوز الصعوبات.

ثم يؤكّد سماحته قائلاً:

إذا لم تكن عناية إمامنا محيطة بنا، ومستوى إدراك مجتمعنا بالمقدار المطلوب لما بلغنا هذا المقدار من النجاح والموفقية أبداً، والحمد لله ربّ العالمين.
إذن العداوة للإسلام ولأهله هو السبب الأساسي الباعث إلى كلّ أعمال الإرهاب والقتل الذي مارسه الأعداء ضدنا، ولذا ترون أنّ كلّ من يبرز من المسلمين، ويقدّم عملاً نافعاً للإسلام وللمسلمين، يتكالب عليه الأعداء، ويحاولون قمعه بشتى الطرق والأساليب الماكرة. فأحياناً يأتونا مراسلون لوكالات أنباء أجنبية فيطرحون علينا أسئلة ذات مغزىً كبير ومعاني عميقة، مثل: هل إسلامكم يختلف عن إسلام الآخرين؟! هل ما تطرحونه يختلف عمّا يطرحه الآخرون؟ لقد وجد الأعداء أنّ الإسلام يمتلك مقومات الانتصار، وعمقاً يدخل في أقسى القلوب وأخشنها رغم كلّ الموانع المصطنعة، فلم يبق لديهم من منطق سوى استخدام أساليب الترويع والتخويف ضد كلّ من تسوّل له نفسه باعتناق الإسلام. نذكر يوماً أنّه حضر عندنا ممثّل إحدى الوكالات الدولية مع شخص مسؤول ومترجم، وبعد حوار قصير قال لي: إنني أرغب أن أكون مسلماً، لكن هنالك متاعب تنتظرني لا أستطيع تحملها! وآخر شيوعي من بلاد الصين، زارنا ثم طلب منّا الرسالة العملية كذكرى من قبلنا ! فتعجبنا من ذلك وسألناه عمّا تنفعه الرسالة وهو هو ! فأجاب: إنني أريد هذا القدر من العلاقة بيني وبينكم لعلّي أجد فيه خيراً !!

آراء الإمام موسى الصدر وعقائده وحول عقائد وآراء الإمام موسى قال سماحته موضّحاً:

إنّ آراء الإمام موسى معروفة عند كلّ من عرفه والتقى به، فسيرته تفصح عنها، ومواقفه تلهج بها، لكن ما حصل أنّه عاش في ظروفٍ اتّصفت إلى حدٍّ ما بالجمود والتحجّر، فلم يكن ليستطيع أن يفصح عنها. وهذه الظروف التي أرويها يمكن أن أصوّرها بصورة مصغّرة لتعلموا كم هي عسيرة وصعبة على القطاع العلمي برمّته، وليس لطلبة الحوزة وحدهم. كان ثمة بائع صحف يقبع عند باب المدرسة الفيضية آنذاك، فلو أنّ طالباً اشترى منه صحيفةً وقرأها، فسوف يتلقّى مذمّة من أقرانه وزملائه! إذ يرون أنّ على الطالب ألا يقف على مسألة أجنبية، ولا يدور سوى حول محور واحد فقط، دروس الحوزة فحسب وضمن مسائل متكررة لا يتعداها، لكن هنالك شخصيات استطاعت أن تشقّ لها طريقاً في تلك الأجواء، عُرفت ببعض الآراء والأفكار المتحررة، ومن هذه الشخصيات الإمام موسى الصدر، والشهيد البهشتي والمطهري... هذا لأنّهم لم يرجّحوا الجلوس وكانوا قد سافروا إلى مدن وبلدان مختلفة.

الإمام موسى الصدر... والمصير المجهول وفي حديث سماحته عن مسألة البحث عن مصير الإمام موسى قال:

لقد طال غياب هذه الشخصية الفذّة عن المشهد الإسلامي، ولم يكن البحث عنه بالمستوى المطلوب، ولا نعلم ما هو السبب وراء هذا التعثّر بالضبط. ربّما هي غفلة المسلمين، لكنّها لم تكن بالمستوى المسؤول، كان يجب أن ينشط البحث والتقصّي عنه بدرجة أكبر، ولعلّ الشخص الذي لم يأل جهداً في هذه المسألة هو آية الله الهاشمي الرفسجاني، وإذا كان من يحسن الإجابة عن كلّ الأسئلة المتعلّقة بهذا الموضوع فهو هذا الشيخ (حفظه الله).
ينبغي أن نقف على تحليل شافٍ وكافٍ حول هذا الموضوع، ومن الأفضل أن لا نهمل الموضوع لأسباب سياسية أو اقتصادية، لأنّها قضية تتعلّق بصميم الإسلام وأهله، لذا فمن الأفضل أن نستمع إلى الشيخ الهاشمي حفظه الله حول هذه المسألة المعقدة، أو أخي أو السيد الموسوي الاردبيلي الذي هو الآخر له إحاطة حول الموضوع، لكنّنا نفضّل الشيخ الهاشمي الذي له إحاطة أفضل من غيره بالموضوع وملابساته، وذلك لأنّه ـ على حدّ قول أخينا ـ أنّ كلامه هو فصل الخطاب ؛ لكثرة ما كان يحاور ويجالس الإمام (قدس سره).

علاقة الإمام موسى بالإمام الخميني الراحل قدس سره وحول علاقة السيد موسى الصدر بالإمام قدس سره قال سماحته:

لا شكّ أنّه كانت ثمة علاقة رابطة بين الإمام الخميني (سلام الله عليه) والسيد موسى الصدر، ذلك أنّ إمام الأمة كان من صفته الاهتمام بكلّ إنسان نزيه يحمل فكراً أصيلاً ومفيداً، وكان يحترم الأفكار المتحررة التي تخدم الأمة الإسلامية وتضفي على الإسلام رونقاً وتطوراً وانتصاراً جديداً، لكنّه (سلام الله عليه) كان يفرق بين الإنسان الذي يخدم الثورة ويقدرّها وآخر لا يعمل على ذلك. والإمام الخميني كان فضلاً عن علاقته الشخصية به، كانت له علاقة صميمية بعائلة الصدر النجيبة، إذ إنّ العلاقة بين العوائل العلمائية غالباً ما تكون طيّبة.

الإمام الراحل والسيد موسى الصدر والسيد مصطفى... والهدف الواحد ويستطرد سماحته معقّباً:

لو كُتب للإمام موسى الصدر أن يشهد انتصار الثورة أو لو أبقاه القدر في إيران حتّى انفجار النور، لكان له شأن آخر، ولاستطاع أن يقدّم الأكثر والأفضل للإسلام، سيّما لو أمهله القدر وعمل مع السيد مصطفى الخميني (رحمه الله) وآخرين ممّن تلتقي أفكارهم في مصبّ واحد. كان من الممكن أن يشكّل السيد موسى الصدر والسيد مصطفى والشهيد المطهري معاً محوراً إبداعياً ينفع الإسلام وثورته في إيران، ولو كتبت لهم الحياة لقدّموا للإسلام الشيء الكثير، أكثر ممّا قدّموه. نعم، قد يختلفون في بعض الأمور باختلاف أذواقهم، لكنهم يشتركون جميعاً في النظرة الجديدة إلى الحياة والإنسان المعاصر ومتطلّبات المجتمع. لقد كانت أفكارهم وآراؤهم واحدة يعرفها كلّ من عرفهم والتقى بهم، إنّهم كانوا ذوي فكر متحرّر، حاولوا أن يعرّفوا الإسلام إلى العالم بثوبه الجديد الجميل. لم يفكّروا بالمناصب بقدر ما كان همّهم يصبّ في إزاحة الخرافة عن وجه الإسلام، والتحجّر عن فكر الإسلام، واللون غير المرغوب فيه عن صورة الإسلام.

وفي الختام قال سماحته:

نحن دائماً على اتّصال وارتباط بعائلة الإمام موسى الصدر، ولنا حظوة في اللقاء والحديث عن أمور مختلفة، وإلى حدٍّ ما استطعنا أن ننجز ما علينا من مسؤولية، وما نعلمه هو أنّ مساعي عائلته الكريمة مازالت قائمة في هذا المضمار، وما زالت الجهود مبذولة من الأطراف الأخرى تجاه هذه القضية العظيمة على قلوبنا جميعاً وإن كانت محدودة.
نسأل الله سبحانه التوفيق للجميع والنجاح على بذل المزيد من السعي والجدّ في حلّ هذه القضية، وتقديم ما يسرّ به عائلته وأصدقائه ومحبّيه إن شاء الله تعالى.

نشكر سماحتكم على منحنا هذه الفرصة الثمينة، رغم مشاغلكم، للحديث عن شخصية الإمام السيد موسى الصدر ومكانته في قلوب المسلمين، شكراً لكم وإلى لقاء آخر.
التاريخ : 2008/08/30
تصفّح: 12298





جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org