|
1) الروايات
من بين أهمّ التحدّيات الماثلة أمامنا في إثبات نظريّتنا القائلة بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يشمل مرحلة الضرب والجرح، بعضُ الروايات ذات الظهور البدوي في إثبات مراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. توضيح ذلک : إنّ بعض الروايات تذكر مراحل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تبدأ بالإنكار القلبي، وتنتهي بالتدخل العملي واستخدام العنف والقوّة. ولكي نتخطّى هذه المعضلة، يتعيّن علينا دراسة هذه الروايات بالتفصيل. 1ـ عن جابر، عن أبي جعفر (ع) ـ في حديثٍ ـ قال: «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء... فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم ـ إلى أن قال ـ فجاهدوهم بأبدانكم، وأبغضوهم بقلوبكم...».[1] من خلال ملاحظة العبارات الواردة في هذه الرواية، والالتفات إلى قرينة «الفظوا بألسنتكم»، وسياق الرواية القائل بأنّ الأمر بالمعروف منهاج الصالحين وسبيل الأنبياء، يثبت أنّ المراد من هذه الرواية هو الأمر بالمعروف اللفظي، ولايدلّ على أكثر من ذلک؛ وذلک للعلم بأنّ سبيل الأنبياء لم يكن سبيل السيف والسجن، بل إنّ سبيلهم هو الرفق والرأفة واللين ـ وهذا ما تقدّم إثباته من خلال رواية عمار بن أبي الأحوص[2] أيضآ ـ وبطبيعة الحال فإنّ بعض العبارات من قبيل: «صكّوا بها جباههم» قد يُستفاد منها جواز الضرب والجرح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيد أنّه بالالتفات إلى أنّه قد يكون هناک احتمال آخر يرد على الذهن من هذه الجملة، وهو احتمال يقف إلى النقيض من الاحتمال الأوّل؛ فلا يجوز التمسّک بالاحتمال الأوّل للاستدلال بهذه العبارة، من باب «إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال». أمّا الاحتمال الثاني في «صكّوا بها جباههم» فهو أن يكون المراد به صكّوا وجوههم بالحجّة والكلام المنطقي، دون الضرب باليد، وأحيانآ يكون للكلام والحجّة من التأثير، بحيث يظهر أثره على وجه المخاطب باحمرار وجهه من شدّة الحياء والخجل، أو اسوداده كما هو ظاهر في بعض الآيات التي تبيّن سلوک بعض الأفراد في العصر الجاهلي عندما يرزق بنتآ؛ إذ يقول تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ).[3] جديرٌ ذكره أنّ عبارة «وجاهدوهم بأبدانكم» واردة في مورد جهاد الظلمة وأهل الجور والمصرّين على المعاصي، وهو عنوان آخر لا يرتبط بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. من هنا لا يمكن الاستناد إلى هذه الرواية في تجويز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر «اليدوي». 2ـ عن محمد بن الحسن، قال: قال أمير المؤمنين (ع): «من ترک إنكار المنكر بقلبه ولسانه (ويده)، فهو ميّت بين الأحياء في كلام هذا ختامه».[4] إنّ الاستدلال بهذه الرواية غير تام؛ إذ بالإضافة إلى عدم وجود كلمة «يده» في بعض نسخ الوسائل،[5] فإنّ هذه الرواية مرتبطة بإنكار المنكر وهو عنوان مستقل وله شرائطه الخاصّة، ويجب القيام به بكلّ الوسائل والسبل، ولا ربط له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 3ـ عن أبي جُحيفة قال: سمعت أميرالمؤمنين(ع) يقول: «إنّ أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم. فمن لم يعرف بقلبه معروفآ، ولم ينكر منكرآ قُلِبَ؛ فجُعلَ أعلاه أسفله».[6] والإشكال الوارد على الاستدلال بهذه الرواية، أولا: إنّها مرتبطة بباب الجهاد، ولا نظر فيها إلى المراحل الثلاث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بناءً على الرأي المشهور. وثانيآ : لو التزمنا بأنّ ذيل الرواية مرتبطٌ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقلنا بعدم ارتباطه بمسألة إنكار المنكر الذي هو عنوان مستقل، مع ذلک لن تدلّ هذه الرواية على مراتب ومراحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فضلا عن مرتبة ومرحلة الضرب باليد؛ وذلک لأنّ هذه الرواية لاتدلّ على أكثر من بيان عاقبة الذين لا يعملون بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهناک روايات أُخرى شبيهة بهذه الرواية من هذه الناحية.[7] 4ـ قال رسول اللّه (ع): «من رأى منكم منكرآ فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنّه لذلک كاره».[8] وكما تقدّم في الروايات السابقة، فإنّ هذه الرواية ناظرة إلى إنكار المنكر أيضآ، وهو عنوان مستقل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعليه لا يمكن لهذه الرواية أن تكون مستندآ لجواز الضرب باليد في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5ـ عن يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه (ع) قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان وكفّ اليد، ولكن جعلهما يبسطان معآ، ويكفان معآ».[9] في هذه الرواية ليست هناک أيّ إشارة إلى المراتب الثلاث من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا أوّلا. وثانيآ : إنّ هذه الرواية مرتبطة بباب الجهاد. ويؤيّد ذلک أنّ الكليني قد أدرجها في كتاب الكافي[10] ضمن كتاب الجهاد، وقبل باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، وإنّ صاحب الوسائل رغم ذكره لها في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا أنّه ذكرها في الباب الحادي والستّين من أبواب جهاد العدوّ[11] أيضآ. من خلال البحث في هذه الروايات ومناقشتها تبيّن أن لاشيء منها يدلّ على جواز الضرب والجرح في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد ذهب المقدّس الأردبيلي 1 إلى الاعتقاد بأنّ الضرب والجرح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لادليل عليه سوى الإجماع.[12] وعلى هذا الأساس، فإنّ جميع هذه الروايات إمّا تعود إلى باب الجهاد أو إلى إنكار المنكر، وكلاهما عنوان مستقل وله أحكامه الخاصّة، وقد أشرنا في الأبحاث المتقدّمة إلى أنّ الهدف من الأمر بالمعروف هو إصلاح المجتمع، والحفاظ على القيَم، والحيلولة دون صيرورة القبائح قيَمآ، وليس الهدف منها إصلاح الفرد، وإن كان إصلاح المجتمع تابعآ لفعل الإفراد وتروكهم. وبعبارة أُخرى: حتى إذا لم يرتكب المنكر في مجتمع، مع ذلک يجب النهي عن المنكر، بمعنى أنّه يجب إظهار الاستياء من القبائح والسيّئات، لكي يبقى المنكر على صفته المرفوضة. وهكذا حتى إذا كان المعروف معمولا به في المجتمع، يجب التأكيد على هذا المعروف، وأمر الناس به، لكي يتمّ الحفاظ على هذه القيَم. بيد أنّه في إنكار المنكر ليس الملاک إصلاح الفرد، ولا إصلاح المجتمع، وإنّما الملاک تغيير المنكر لمصلحة المجتمع، حتى إذا لم يتنبّه فاعل المنكر، وعمد جماعة إلى ارتكابه، ولكن مع ذلک يجب على الجميع العمل على تغيير هذا المنكر بشتّى الوسائل والطرق. خلاصة القول: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبط بمقام الدفع، في حين أنّ إنكار المنكر مرتبط بمقام الرفع. ويحسن في ختام هذا الفصل أن نذكر ـ لتأييد كون الملاک في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الحفاظ على القيَم ـ كلام العلامة الطباطبائي 1 في تفسير قوله تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)،[13] وذلک إذ يقول: «التجربة القطعية تدلّ على أنّ المعلومات التي يهيّئها الإنسان لنفسه في حياته ـ ولا يهيّئ ولا يحضر لنفسه إلا ما ينتفع به ـ من أيّ طريق هيأها، وبأيّ وجه ادخرها تزول عنه إذا لم يذكرها، ولم يدم على تكرارها بالعمل، ولا نشک أنّ العمل في جميع شؤونه يدور مدار العلم يقوى بقوّته، ويضعف بضعفه ـ إلى أن قال ـ وهذا الذي ذكر هو الذي يدعو المجتمع الصالح أن يتحفظوا على معرفتهم وثقافتهم، وأن يردوا المتخلف عن طريق الخير المعروف عندهم إليه، وأن لا يدعو المائل عن طريق الخير المعروف هو الواقع في مهبط الشرّ المنكر عندهم أن يقع في مهلكة الشرّ وينهوه عنه. وهذه هي الدعوة بالتعليم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي التي يذكرها اللّه في هذه الآية بقوله: (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ)».[14] -------------------------------------------------------------------------------- [1] . الكافي، ج5، ص55، ح 1، ورد هذا الحديث في الكافي ضمنرواية واحدة. وسائل الشيعة، ج16، ص131، أبواب الأمروالنهي، الباب الثالث، وصدر الحديث في ص119، البابالأول، ح 6. [2] . وسائل الشيعة، ج16، ص164، أبواب الأمر والنهي،الباب 14، ح 9، قوله 7: «... أما علمت أنّ إمارة بني أُميةكانت بالسيف والعسف والجور، وإنّ إمامتنا بالرفق والتألّفوالوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد؛ فرغبواالناس في دينكم، وفي ما أنتم فيه». [3] . النحل: 58. [4] . وسائل الشيعة، ج16، ص132، أبواب الأمر والنهي، الباب 3،ح 4. [5] . إنّ هذا الوجه من التأييد لا يخلو من الضعف؛ وذلك لورودكلمة (يده) في مصدر هذه الرواية وهو: (التهذيب، ج6،ص181، ح 374). [6] . وسائل الشيعة، ج16، ص134، أبواب الأمر والنهي، الباب 3،ح 10. [7] . راجع: وسائل الشيعة، ج16، ص117، أبواب الأمر والنهي،ص119 و 121 و 122، الباب الأول، ح 7 و 10 و 12، والبابالثامن، ح 1 و 2. [8] . وسائل الشيعة، ج16، ص135، أبواب الأمر والنهي، الباب 3،ح 12. [9] . وسائل الشيعة، ج16، ص131، أبواب الأمر والنهي، الباب 3،ح 2. [10] . الكافي، ج5، ص55، ح 1. [11] . وسائل الشيعة، ج15، ص143، أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه،الباب 61، ح 1. [12] . مجمع الفائدة والبرهان، ج7، ص542. [13] . آل عمران: 104. [14] . الميزان، ج3، ص 426.
|