|
نتيجة البحث
وحاصل القول في المسألة : أنّ من جملة أدلّة التحريم النصوص الدالّة عليه بالخصوص ، وهي الأخبار التي ذكرناها في الوجه السابع من وجوه المختار ، وهذه الروايات يتعيّن العمل بها والأخذ بمقتضاها ، فإنّها كما علمت معتبرة الأسانيد ، ظاهرة الدلالة في المطلوب ، ومنها ما هو نصّ فيه ، ومع ذلك فهي معتضدة بعمل قدماء الأصحاب ، ومخالفتها لمذاهب الجمهور ، وموافقتها لطريقة الاحتياط واستصحاب حكم العنب وعمومات العصير والأشربة ، وتحديدات النقيع ، وغير ذلك ممّـا يعلم بالرجوع إلى ما سبق مفصّلا . لا يقال : هذا معارض بمثله ؛ فإنّ أخبار الحلّ موافقة للأصل ، والاستصحاب ، وعمومات الكتاب والسنّة ، والشهرة بين الأصحاب ، والسهولة المطلوبة في الشرع ، والشريعة السمحة ، واليسر المراد بالعباد ، وحينئذ فلا ترجيح . لأ نّا نقول : ما ذكر في معرض المعارضة لا يصلح للمعارضة . أمّا أوّلا : فلأنّ روايات الحلّ ضعيفة السند ، قاصرة الدلالة ـ كما بيّناه ـ فلا يصلح التمسّك بها فضلا عن جعلها معادلة لأخبار التحريم . ولو سلّم دلالتها على الحلّ فغايتها الدلالة من حيث الإطلاق أو العموم ، والمطلق لا يعادل المقيّد ، ولا العامّ الخاصّ . وما ذكر من وجوه التأييد فقد ثبت أكثره في سائر الأطعمة المحرّمة ، فلو اقتضى التقديم على خصوص الأدلّة وجب أن لا يثبت شيء منها إلاّ ما دلّ عليه نصّ الكتاب أو الإجماع المقطوع به ، والقائلون بحجّية أخبار الآحاد معرضون عن ذلك . وأمّا ثانياً : فلأنّ استصحاب حكم العنب دليل شرعيّ رافع لحكم الأصل ، ومخصّص لعمومات الحلّ ؛ فإنّ الأصل قد انتقض في العنب بالإجماع والنصوص الدالّة على تحريمه بالغليان ، وعمومات الكتاب والسنّة قد تخصّصت بهما قطعاً ، وحينئذ فينعكس الأصل في الزبيب ، ويكون الحكم فيه بقاء التحريم الثابت له قبل الزبيبيّة بمقتضى الاستصحاب ، فلا يرتفع إلاّ مع العلم بزواله ، وليس فيما ذكرنا ما يقتضي ذلك ؛ فإنّها عمومات لا تعارض الخصوص ، والخاصّ وإن كان استصحاباً مقدّم على العامّ ولو كان كتاباً ، كما حقّق في الاُصول . وأمّا استصحاب الحلّ فغايته الحليّة بالفعل ، وهي لا تنافي التحريم بالقوّة ، والحلّ المنجز يرتفع بحصول شرط التحريم المعلّق . وباقي الأدلّة مع ضعفها في نفسها لا تصلح لمعارضة ذلك . وبهذا التحقيق ظهر سقوط الوجوه المذكورة لتأييد الحلّ ، وعلم أنّ أخبار التحريم مطابقة لمقتضى الأصل الطارئ السالم عن معارضة الدليل الخاصّ ، وأ نّه لا يقدح فيها ضعف السند لو كان لاعتضاده بالأصل . فإن قيل : مرجع الاستصحاب إلى ما ورد من النصوص من عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، وهذا عامّ لا خاصّ . قلنا : الاستصحاب هنا ليس إلاّ بقاء التحريم الثابت للعنب بعد جفافه وصيرورته زبيباً ، وهذا المعنى خاصّ بالزبيب ولا يتعدّاه إلى غيره ، وعدم نقض اليقين بالشكّ وإن كان عامّاً إلاّ أ نّه واقع في طريق الاستصحاب وليس نفس الاستصحاب المستدلّ به ، والعبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة لا بأدلّة الأدلّة ، وإلاّ لزم أن لا يوجد في الأدلّة الشرعيّة دليل خاصّ أصلا ؛ إذ كلّ دليل فهو ينتهي إلى أدلّة عامّة هي دليل حجيّته ، وليس عموم قولهم (عليهم السلام) : « لا تنقض اليقين بالشكّ » بالقياس إلى أفراد الاستصحاب وجزئيّاته ، كعموم قوله تعالى : ( إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَـتَـبَـيَّـنُوا )[1]بالقياس إلى آحاد الأخبار المرويّة ، فكما أنّ ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّاً إذا اختصّ مع مورده بشيء معيّن ، فكذا هذا ، ولذا ترى الفقهاء يستدلّون باستصحاب النجاسة والحرمة في مقابلة الاُصول والعمومات الدالّة على طهارة الأشياء وحلّيتها ، وكذا باستصحاب شغل الذمّة في مقابلة ما دلّ على براءة الذمّة من الأصل والعمومات ، وفي مسائل العصير ما يبتنى على ذلك أيضاً ، كمسألة الشكّ في ذهاب الثلثين ، وكون التحديد به تحقيقاً لا تقريباً ، وكذا مسألة خضب[2] الإناء ، وصيرورة العصير دبساً قبل ذهاب ثلثيه ، وغير ذلك من المسائل الآتية في مباحثها إن شاء الله تعالى . ولولا أنّ الاستصحاب دليل خاصّ يجب تقديمه على الأصل ، والعمومات لم يصحّ شيء من ذلك ، وهذا من نفائس المباحث ، فاحفظ . وامّا ثالثاً : فلأنّ المعارضة بما ذكر فرع تعادل المرجّحات وتكافؤها ، والتكافؤ هنا غير حاصل ؛ فإنّ عمومات التحريم كأحاديث العصير والاشربة وغيرها لا يعارضها الأصل قطعاً ، ولا عمومات الكتاب والسنة ، فإنّ تلك العمومات أخصّ منها مورداً ، فيترجّح عليها بمقتضى القاعدة المسلّمة ، ويبطل التأييد بها ، بل هي أخصّ من الأخبار الدالّة على حليّة ما عدا المسكر من الأشربة ، وهى عمدة الروايات المستدّلة بها على الحلّ ، فإنّ ماتضمّن الحلّ بذهاب الثلثين كأحاديث العصير لا بدّ فيها من اعتبار عدم الإسكار ؛ فإنّ المسكر لا يحلّ بذهاب ثلثيه اجماعاً ، وإنمّا يحلّ بالتخليل لا غيره ، ومتى اعتبر فيها عدم الإسكار كانت أخصّ مطلقاً ممّا دلّ على حليّة غير المسكر ، فيترجّح عليه أيضاً ، ولم يبق فى جانب الحلّ سوى الاستصحاب وروايتي الزبيبيّة والزبيب ، وقد علم حالها مِمّا سبق . أ مّاالشهرة فيتوجّه عليها : أوّلاً : أ نّها شهرة بين المتأخرين ، وظاهر القدماء القول بالتحريم ، والشهرة بين المتأخّرين لا تعارض الشهرة بين القدماء ، وقد مضى تحقيق الحال في ذلك عند نقل الأقوال فى المسئلة[3] . وثانياً : أ نّ القول بالحلّ إن ترجّح بموافقة أكثر الأصحاب ، فالقول بالتحريم يترجّح بمخالفته لأقوال العامّة[4] ؛ فإنّهم مطبقون على الحليّة ، وقد ورد فى النصوص المستفيضة : « إنّ الرشد فى خلافهم »[5] . وثالثاً : أ نّ الاشتهار مرجّح وليس بدليل ، كما هوالمشهور ، فلا يعارض مؤيّدات التحريم ؛ فإنّ منها ما هو دليل شرعي ، كالإستصحاب وعمومات العصير ونحوها ، والدليل المرجّح مقدّم على المرجّح الّذى ليس بدليل ؛ فإنّ المرجع فى ذلك إلى وجود دليل شرعيّ لا معارض له من الأدلّة ، على أنّ الواجب نصرة الحقّ ، والأخذ بما هو أتمّ وأوثق ، فإنّ المتّبع هو الدليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل . تمّ بعون اللّه المجلّد الثالث من كتاب مصابيح الأحكام وبهذا يتمّ باب الطهارة ويليه المجلّد الرابع في مباحث كتاب الصلاة -------------------------------------------------------------------------------- [1]. الحجرات ( 49 ) : 6 . [2]. في « ر 2 » : جف . [3]. راجع : الصفحة 271 وما بعدها . [4]. تقدّم قولهم وتخريجه في الصفحة . [5]. راجع : وسائل الشيعة 27 : 112 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 9 ، الحديث 19 ، الوافي 1 : 293 ، أبواب العقل والعلم ، الباب 14 .
|