|
وجوه الاعتراض على روايتي عمّار ، والجواب عنها
أحدها : الطعن في السند ؛ لاشتماله على رجال الفطحيّة ، وهم الأربعة المسلسلة الذين رابعهم عمّـار الساباطي ، فإنّهم كانوا فطحيّة ، يقولون بإمامة عبد الله بن جعفر الأفطح ، نصّ على ذلك علماء الرجال[1] ، وفي حديث هشام بن سالم : « إنّ الفطحيّة رجعوا عن مقالتهم إلاّ طائفة ، منهم مثل عمّـار وأصحابه »[2] . وقد ذكر الشيخ في الاستبصار : « إنّ عمّـار هذا ضعيف فاسد المذهب ، لا يعمل على ما يختصّ بروايته »[3] . والرواية الثانية تزيد على ذلك باحتمال التعليق في سندها ، حيث أنّ الكليني(رحمه الله)رواها عن محمّد بن يحيى ، عن عليّ بن الحسن ، أو عن رجل عنه ؛ فيلحقها حكم المرسل . والجواب عن ذلك : أنّ هؤلاء وإن كانوا فطحيّة فاسدي العقيدة ، إلاّ أ نّهم ثقات في النقل ، معتمد عليهم في الرواية ، وقد نصّ علماء الرجال على توثيقهم ، وأ نّهم من أجلّة العلماء والفقهاء ، كما نصّوا على فساد مذهبهم . فالرواية الاُولى على هذا موثّقة ، والموثّق عندنا حجّة ، كما بيّناه في الاُصول . وأمّا عمّـار ، وهو الأصل في الروايتين ، فمجمع على توثيقه وفضله وفقاهته وقبول روايته . قال الشيخ في الفهرست : « عمّـار بن موسى الساباطي له كتاب كبير جيّد معتمد »[4] . وقال في التهذيب : « إنّه ثقة في النقل ، لا يطعن عليه فيه »[5] . وقال المحقّق : « إنّ الأصحاب عملوا بروايته »[6] ، وحكى عن الشيخ أ نّه قال في مواضع من كتبه : « إنّ الإماميّة مجمعة على العمل بما يرويه السكوني وعمّـار ومن ماثلهما من الثقات »[7] . ومن هذا يعلم أنّ ما ذكره الشيخ في الاستبصار محمول على المنع من العمل بروايته مع وجود المعارض لا مطلقاً ، كما يستفاد من كلامه في العدّة[8] . وقال أبو عمرو الكشّي : « قال محمّد بن مسعود العيّاشي : عبد الله بن بكير وجماعة من الفطحيّة ، [ هم ] فقهاء أصحابنا »[9] ، وعدّ منهم عمّـار بن موسى الساباطي ، وبني الحسن بن علي بن فضّال علياً وأخويه أحمد بن الحسن ومحمّد بن الحسن . وذكره المفيد (رحمه الله) في رسالته الهلاليّة : « أ نّه من أصحاب الأُصول المدوّنة ومن جملة الفقهاء والرؤساء الأعلام المأخوذ منهم الحلال والحرام ، والفتيا والأحكام ، الذين لا يطعن عليهم ولا طريق إلى ذمّ واحد منهم »[10] . وقال النجاشي : « عمّـار بن موسى الساباطي وأخواه قيس وصباح رووا عن أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي الحسن (عليه السلام) ، وكانوا ثقات في النقل »[11] ، ولم يتعرّض لذكر مذهبه . والظاهر منه وممّـا حكيناه عن المفيد استقامته في المذهب ، أو رجوعه إلى الحقّ كغيره من الفطحيّة . ويشهد لذلك ما رواه الكشّي في كتاب الرجال بإسناده عن مروك ، عن أبي الحسن (عليه السلام) ، قال : « إنّي استوهبت عمّـار الساباطي من ربّي ، فوهبه لي »[12] . وأمّا احتمال التعليق في الرواية الثانية ، فيبعده أنّ مراعاة طبقات الرجال تقتضي رواية محمّد بن يحيى العطّار ، عن عليّ بن الحسن بن فضّال من غير واسطة ؛ لأنّ عليّ بن الحسن من أصحاب الهادي والعسكري (عليهما السلام) ، وقد بقي إلى زمان السفراء ، وروى عنه كتبه أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة الحافظ ، وكان وفاة ابن عقدة سنة اثنين أوثلاث وثلاثين وثلاثمائة ، وقد توفّي محمّد بن يعقوب سنة ثمان أو تسع وعشرين وثلاثمائة ، فيكون محمّد بن يحيى ـ شيخ الكليني ـ أعلى طبقة من ابن عقدة بكثير ، فيبعد تخلّل الواسطة بينه وبين أخيه أحمد ؛ لأنّ أحمد بن الحسن أعلى طبقة من علي ، وكذا محمّد بن الحسن * ، ولذا ترى أنّ عليّ بن الحسن إنّما يروي عن أبيه بواسطة أحد أخويه محمّد وأحمد . وقد تبيّن بما ذكرنا انتفاء التعليق في هذا الطريق ، واندراجه في الموثّق ، كالأوّل . وثانيها : منع الدلالة ؛ فإنّ قول السائل : «كيف طبخه حتّى يشرب حلالا» ، أو «حتّى يصير حلالا» ، ليس نصّاً فيما ذكر ؛ لاحتمال أن يكون المراد منه أنّ الزبيب كيف يطبخ حتّى يبقى على الحلّية ، وقد يصير نبيذاً مسكراً محرّماً ، أو أ نّه كيف يطبخ حتّى يحصل فيه فوائد النبيذ وخواصّه المطلوب منه من دون تحوّل وإسكار . ويدلّ على ذلك ما تضمّنته الروايتان من إضافة العسل وطرح الطيب والأقاوي في ماء الزبيب ، وقوله (عليه السلام)في الرواية الثانية : « وإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه » ، وما رواه الكليني بعد إيراده تلك الروايتين بإسناده عن إسحاق بن عمّـار ، قال : شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام)بعض الوجع ، وقلت له : إنّ الطبيب وصف لي شراباً ، آخذ الزبيب وأصبّ عليه الماء للواحد اثنين ، ثمّ أصبّ عليه العسل ، ثمّ أطبخه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى الثلث ، قال : « أليس حلواً ؟ » قلت : بلى ، قال : « اشربه » ، ولم اُخبره كم العسل[13] . وعن إسماعيل بن الفضل الهاشمي ، قال : شكوت إلى أبي عبد الله (عليه السلام)قراقر تصيبني في معدتي ، وقلّة استمرائي الطعام ، فقال لي : « لم لا تتخذ نبيذاً نشربه * . جاء في حاشية «ش» و «ر ـ 2 » : « وقد يؤيّد ذلك أنّ النجاشي ـ وهو معاصر الكليني ـ إنّما يروي عن عليّ بن فضّال بواسطة العياشي ». منه (قدس سره) نحن وهو يمرئُ الطعام ويذهب بالقراقر والرياح من البطن ؟ » قال : فقلت له : صفه لي جعلت فداك . فقال : « تأخذ صاعاً من زبيب ، وتنقّي حبّه وما فيه ، ثمّ تغسله[14]غسلا جيّداً ، ثمّ تُنقِعه في مثله من الماء أو ما يغمُره ، ثمّ تتركه في الشتاء ثلاثة أيّام بلياليها وفي الصيف يوماً وليلةً ، فإذا أتى عليه ذلك القدر صفّيته ، وأخذت صفوته ، وجعلته في إناء ، وأخذت مقداره بعود ، ثمّ تطبخته طبخاً رفيقاً حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثُلُثه ، ثمّ تجعل عليه نصف رطل عسل وتأخذ مقدار العسل ، ثمّ تطبُخه حتّى تذهب تلك الزيادة ، ثمّ تأخذ زنجبيلا وخولنجاناً ودارصينيّ وقرنفلا ومصطكي ، وتدقّه وتجعله في خرقة رقيقة ، وتطرَحُه وتُغليه معه غليةً ثمّ تُنزِله ، فإذا برد صفّيته وأخذت منه على غدائك وعَشائك » . قال : ففعلت فذهب عنّي ما كنت أجده ، وهو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي [15] . انتهى . والجواب عن ذلك : أنّ دلالة الروايتين على المدّعى ظاهرة لا خفاء بها ؛ فإنّ السائل إنّما سأل عن طبخ ماء الزبيب على وجه يحلّ ، (وقد تضمّن الجواب الأمر بطبخه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه ، وهو في قوّة أن يقال : اطبخه على الثلث حتّى يحلّ ، أو إنّ طبخه على وجه يحلّ)[16] هو أن يطبخ على الثلث ، ضرورة وجوب المطابقة بين السؤال والجواب . وقوله[17] : « كلام السائل ليس نصّاً فيما ذكر » . قلنا : إن اُريد أ نّه ليس صريحاً في ذلك لتطرّق التأويل إليه ، وإن كان بعيداً ، فهو على تقدير تسليمه لا ينفي الدلالة ؛ لأنّ الظهور كان في الأدلّة الشرعيّة ، والمدار فيها غالباً على الظواهر القابلة للتأويل ، دون النصوص الصريحة . وما يقال : إنّه متى قام الاحتمال بطل الاستدلال ، فإنّما ذلك فيما يطلب فيه القطع واليقين من المطالب العقليّة والمعارف اليقينيّة لا مطلقاً ، وإلاّ لزم بطلان الاستدلال بالكتاب والسنّة في مسائل الفروع ؛ إذ قلّما يتّفق فيها نصّ صريح مانع عن النقيض . وإن اُريد أنّ السؤال ليس بظاهر فيما ذكر ، ولا دلالة عليه أصلا ، فهو ظاهر البطلان ؛ إذ لا ريب في ظهور السؤال في ذلك إن لم يكن نصّاً ، ومنع الظهور مكابرة ظاهرة . وما ذكر من احتمال إرادة بقاء الحلّية دون حصولها فمن أبعد التأويلات وخصوصاً في الرواية الثانية ؛ فإنّ قول السائل فيها : « كيف يطبخ حتّى يصير حلالا » كالصريح في أنّ المقصود بالسؤال حصول الحلّ لا بقائه . وكذا الرواية الاُولى وإن لم تكن بتلك المثابة من الوضوح ؛ فإنّ قوله فيها : « حتّى يشرب حلالا » في معنى : حتّى يحلّ شربه ، فيكون سؤالا عمّـا يتوقّف عليه أصل الحلّية دون بقائها . واستناد المعترض في هذا التأويل إلى قوله (عليه السلام) : « وإن أحببت أن يطول مكثه عندك فروّقه » ، مقلوب عليه ؛ فإنّ المستفاد منه أنّ ما اعتبره أوّلا من ذهاب الثلثين لحصول الحلّ لا لطول المكث . وكذا الاستناد إلى رواية إسحاق بن عمّـار ؛ إذ لو كان فائدة التثليث على طول مكث الشراب وعدم مبادرة الفساد إليه ـ كما ذكره المعترض ـ لاُجيب بالحلّية ولم يحتج إلى السؤال عن كونه حلواً ، كما تضمّنته الرواية . وأمّا رواية الهاشمي فليس فيها ما يتوهّم منه ذلك سوى قوله في آخر الرواية : « وهو شراب طيّب لا يتغيّر إذا بقي » ، وهذا مع كونه من كلام الراوي ، إنّما يقتضي كون الشراب الذي وصفه الإمام شراباً لا يتغيّر بالبقاء وطول المكث ، ولا يتعيّن من ذلك كون السبب فيه خصوص التثليث ؛ لاحتمال أن يكون التأثير من الاُمور التي اعتبرت معه ، أو منها ومن ذهاب الثلثين معاً . سلّمنا أنّ هذا التأثير من فوائده المختصّة به ، لكن لا دلالة في ذلك على انحصار الفائدة فيه حتّى يجب إرادته منه حيث يطلق ، فلا مانع من أن يكون لذهاب الثلثين فائدتان : حصول الحلّ ، وبقائه بعد الحصول ، ويكون اعتباره هنا للفائدة الثانية ، وإن كان اعتباره هناك للاُولى ؛ فإنّ الواجب في الأخبار رفع الاختلاف الموجب للتضادّ لا التوافق من كلّ وجه . فإن قيل : لعلّ المراد ترجيح ما ذكر من الاحتمال بوجود النظير ، وإن لم يتعيّن بذلك . قلنا : الترجيح بوجود النظير مشترك بين المعنيين ، بل هو فيما ذكرناه أولى ؛ فإنّ الروايات الواردة في أنواع العصير سوى هذين الخبرين على اعتبار التثليث في أصل الحلّية دون بقائها كما عرفت ، ولا ريب أنّ الحمل على ما يوافق الأكثر أولى وأنسب . ويدلّ على فساد هذا الحمل مضافاً إلى ما عرفت من كونه خلاف الظاهر من الروايتين ومن غيرهما من الروايات الواردة في هذا الباب ، اُمور : الأوّل : أنّ المفروض في روايتي عمّـار[18] كون الزبيب ربعاً ، أي ربع رطل ، والماء المضاف إليه أوّلا اثني عشر رطلا ، والماء الثاني نحواً من ربع رطل ، فيكون الزبيب على هذا جزءاً واحداً من خمسين جزءاً تقريباً ، ولا ريب في مبادرة التغيير والفساد إلى مثل ذلك ، وإن ذهب ثلثاه لرقّة قوامه وغلبة مائيّته ، فلا يصلح أن يكون الوجه في ذهاب ثلثيه بقاء حلّيته وعدم مسارعة الإسكار إليه ، كما قالوه ، بل بتعيين كون العلّة حصول الحلّية فيه ابتداءً ، كما هو الظاهر . وهذا بخلاف روايتي الهاشمي وإسحاق بن عمّـار [19] ؛ إذ المفروض فيهما كون الماء مثل الزبيب أو ضعفه ، فيقرب[20] فيهما المعنى المذكور ؛ لبُعد عروض التغيير مع هذه الشدّة والثخانة ، خصوصاً مع إضافة العسل وطرح ما اعتبر طرحه من الأقاوي والطيب ، وقد ظهر بذلك الفرق بين هاتين الروايتين وبين روايتي عمّـار ، وبان فساد الاستشهاد بهما في ما ذكر من التأويل هناك ؛ لشدّة بُعد ما بين هذين الفرضين . الثاني : أنّ المعهود من الرواة غالباً هو السؤال عن نفس الأحكام الشرعيّة دون موضوعاته ؛ فإنّ تحقيق الموضوعات خارج عن الوظائف الشرعيّة ، والمرجع فيها إلى اللغة والعرف والحسّ وغيرها من الاُمور التي يعلم بها ذلك ، ومتى كان المراد السؤال عمّـا يمنع عروض الإسكار كان المقصود العلم بحال الموضوع دون الحكم نفسه ؛ لأنّ حكم المسكر ظاهر في الشريعة ، معلوم عند الرواة ، والسؤال عمّـا يمنع الإسكار يدلّ على العلم بحكم المسكر ، فلا بدّ من صرفه إلى الموضوع حينئذ . وأمّا إذا اُريد منه معناه الظاهر فإنّه يكون سؤالا عن أصل الحكم المشتبه على ما هو المعهود ، فيتعيّن الحمل عليه . الثالث : أنّ مقتضى الروايتين[21] كون ذهاب الثلثين شرطاً يتوقّف عليه الأمر المقصود بالسؤال ، ومعلوم أنّ عدم عروض الإسكار غير متوقّف على ذلك ؛ فإنّ المطبوخ على غير الثلث ربما لا يسكر وإن بقي مدّة طويلة ، وخصوصاً مع شدّة القوام وبرد الهواء ، والحمل على كونه شرطاً في اطّراد عدم الإسكار وكلّيته ، مع كونه تأويلا في تأويل ، يضعّفه عروض التغيير للمطبوخ على الثلث أحياناً ، كما يشهد به الحسّ* . وينبّه عليه ما تقدّم من حديث شراب السفرجل[22] ، وقوله (عليه السلام) في رواية إسحاق بن عمّـار : « أليس ذلك حلواً »[23] ، وكذا التعليق على المشتبه[24] في رواية الهاشمي[25] ، وتوجيه ذلك بالحمل على الغلبة وهن على وهن . وبما ذكرنا تبيّن حال التأويل الثاني ؛ فإنّ الراوي إنّما سأل عمّـا يحلّ به مطبوخ الزبيب ، ولم يسأل عمّـا يحصل به فائدة النبيذ وخاصّته ، وشأن الرواة خصوصاً الفقهاء منهم السؤال عن الحلال والحرام والفروع والأحكام ، وأمّا الخواصّ الطبّية والفوائد البدنيّة فقلّما يسأل عنهما الأئمّة(عليهم السلام) ؛ لخروجهما عن الوظائف الشرعيّة وإن اتّفق ذلك نادراً ، كما في رواية الهاشمي . وبين هذه الرواية وروايتي عمّـار فرق من هذه الجهة ؛ إذ الظاهر ترتّب النفع المقصود فيها على العمل المخصوص والتركيب الموصوف ، لا على مطلق ذهاب الثلثين المشترك بينهما ، وما تضمّنته الروايتان من طرح الطيب والأقاوي فمعلّق فيهما على المشيّة ، ومقتضاه حصول الغرض بدونه ، وربما كان للقوام أيضاً تأثير في ذلك ، وهو مختلف فيهما اختلافاً فاحشاً ، كما سبق * . جاء في حاشية «ش» : « ولايذهب عليك أ نّه على تقدير أن تكون العلّة في اشتراط التثليث في العصير رفع الإسكار المتوقّع على ما سلف في البحث الأوّل ، قد أوقع لهذا الإيراد أصلاً ؛ لأ نّ الاحتمال المذكور على هذا التقدير لا ينافي الاستدلال ، بل هو ممّا يزيده تحقيقاً وتأكيداً لما في الحديث المعلَّل من المزيّة الموجبة لتقديمه في العمل ، فلا تغفل » . منه (قدس سره) التنبيه عليه . و أيضاً لو لم يكن ذهاب الثلثين شرطاً في الحلّية لأمكن الانتفاع بالمطبوخ على غير الثلث إذا كان مثل المطبوخ على الثلث بحسب القوام ، فيلزم أن يكون أخذ الثلثين ضائعاً لا أثر له[26] . ثمّ لا يذهب عليك أنّ هذا الإيراد إنّما يتوجّه إن قلنا بأنّ الحكم في العصير غير معلّل ، أو معلّل بالتغيير الحاصل بالغليان ، أمّا إذا قلنا بكونه معلّلا بدفع الإسكار المتوقّع على ما سلف في البحث الأوّل فلا ورود لذلك أصلا ؛ إذ الاحتمال المذكور على هذا التقدير علّة الحكم ، فلا يكون منافياً له . وأمّا الاحتمال الثاني فقد علم اندفاعه ممّـا ذكرنا في الأوّل ؛ فإنّ الراوي إنّما سأل عمّـا يحلّ به مطبوخ الزبيب ، ولم يسأل عمّـا يحصل به فائدة النبيذ وخاصّيته ، وشأن الرواة خصوصاً الفقهاء منهم السؤال عن الأحكام الشرعيّة دون الخواصّ الطبّية* ، وإن اتّفق ذلك أيضاً نادراً ، كما في رواية الهاشمي ، والظاهر ترتّب النفع المقصود فيها على العمل المخصوص والتركيب الموصوف ، لا على مطلق ذهاب الثلثين المشترك بينها وبين روايتي عمّـار . وربما كان للقوام أيضاً تأثير في ذلك ، وقد اختلفا فيه اختلافاً ظاهراً . والتطيّب بالزعفران والزنجبيل معلّق في الروايتين على المشيّة ، ومقتضاه حصول الغرض بدونه ، وقصد المزيّة أو الخاصّية في إضافة العسل لا يقتضي أن يكون الكلام بأسره مسوقاً لذلك ؛ فإنّ الكلام المسوق لغرض قد يذكر فيه ملائماته التي لا توقّف له عليها على سبيل التقريب أو التتميم . * . جاء في حاشية «ر 2 » : «خصوصاً عمّار ، كما يشهد به تتبّع رواياته » . منه (قدس سره) وثالثها : أنّ التثليث في ماء الزبيب إن وجب ـ لوقوعه في الجواب عن السؤال المذكور ـ لزم أن يجب سائر ما تضمّنه الجواب من كون الزبيب ربعاً والماء اثنى عشر رطلا ، ومن تنقية الزبيب ، ونقعه في الماء ليلةً ، وتكميل الماء الأوّل بالثاني ، وإضافة العسل إليه . والتالي باطل بالإجماع ، فكذا المقدّم . بيان الملازمة : أنّ الجواب يشتمل على ذلك كلّه ، فيجب اعتباره في الحلّية بعين ما ذكر في التثليث . والجواب عن هذا : ظاهر جدّاً ؛ لأنّ الغرض الأصلي بيان التثليث في ماء الزبيب وتوقّف الحلّ عليه ، والجواب بتمامه إنّما سيق لذلك دون غيره ، ولكن أورد البيان في ضمن المثال لقصد الإيضاح على ما هو المتعارف من الإتيان بالأحكام الكلّية بفرض الأمثلة الجزئيّة ، وربما كان الفائدة في خصوص هذا الفرض التنبيه بالأدنى على الأعلى ، فإنّه متى حلّ مثل هذا الشراب بذهاب ثلثيه مع كونه غاية في رقّة القوام وغلبة المائيّة حلّ غيره بطريق أولى . وأمّا ما ذكر مع ذلك من الاُمور ، فإنّما روعي فيها المزايا والخواصّ وإن لم يتوقّف عليه الحلّ ، وإيراد ما ليس بشرط في جملة ما يقصد به بيان الشرط غير عزيز في الكلام ، وله نظائر كثيرة في الأخبار ، على أنّا نقول : لولا الإجماع على عدم اشتراط الحلّ بما عدا التثليث من المذكورات لقلنا باشتراط الجميع ، لكنّ الدليل القطعي صرف عن إرادة الظاهر هناك ، ولا وجه للعدول من الظاهر في ذهاب الثلثين ، فوجب اعتباره في وجوب الحلّ لوجود المقتضي فيه ، مع انتفاء الصارف عنه ، بخلاف غيره ، فلا إشكال . واعلم أنّ رواية الهاشمي لا تخلو من تأييد للقول باشتراط ذهاب الثلثين ، وإن كان الكلام فيها مسوقاً لغرض آخر ؛ فإنّ التثليث المأخوذ لا تأثير له في ذلك الغرض ؛ لحصوله بفرض نقصان الماء ابتداءً على وجه يوافق النقص الحاصل بعد ژذهاب الثلثين ، فلو لا أ نّه شرط في حلّية المعتصر من الزبيب لانتفت الفائدة في اعتباره . ويعضد ذلك اعتبار التثليث فيها قبل إضافة العسل ، كما في روايتي عمّـار . وقوله : « ثمّ تطبخه حتّى يذهب تلك الزيادة » إنّما يريد به طبخ المجموع بعد زيادة العسل حتّى يذهب منه المقدار الزائد ، وهذا لا يقتضي التثليث فيه قطعاً . وقد يقال : إنّ الفائدة حصول الاشتداد على النار حتّى يترتّب عليه الغرض المطلوب ؛ لمنع حصوله بمطلق الاشتداد ، ولذا ترى الأطبّاء اعتبروا ذهاب الثلثين بالنار في كثير من الأشربة ، وليس إلاّ لتوقّف حصول الفائدة المطلوبة منها عليه ، فمن الجائز أن يكون اعتباره في هذه الرواية لذلك أيضاً ، حيث إنّ الالتفات فيها إلى الخواصّ الطبّية دون الأحكام ، وهذا وإن كان غير بعيد إلاّ أنّ الأوّل أقرب ؛ لأ نّ التثليث الوارد في الأخبار إنّما ينصرف إلى ذلك . ولا ينافيه سوق الحديث لبيان المنفعة ؛ إذ المستفاد من تتبّع الروايات أنّ كثيراً من أصحاب الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يتعاطون شرب النبيذ المسكر ، ويتطلّبون الرخصة فيه لنفعه وخواصّه ، وأ نّهم (عليهم السلام) كانوا يمنعونهم عن ذلك ويأمرونهم بشرب النبيذ الحلال ، فربما كان الغرض من ذكر الفوائد والخواصّ في الشراب المثلّث صرفهم عن الحرام وترغيبهم في الحلال الذي يغني غناه . ولا يبعد أن يكون الهاشمي وإن كان من أعاظم الأصحاب قد حاول في سؤاله طلب الرخصة في النبيذ ، واُجيب بذلك . وقد ظهر ممّـا قلناه جواب آخر عن ثاني احتمالي روايتي عمّـار ، فلا تغفل . ومنها[27] : ما رواه خالنا العلاّمة المجلسي ـ طاب ثراه ـ في كتاب بحار الأنوار وغيره ، عن زيد النرسي ، نقلا عن كتابه ، قال : سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الزبيب يدقّ ويلقى في القدر ، ثمّ يصبّ عليه الماء ويوقد تحته ؟ فقال : « لا تأكله حتّى يذهب الثلثان ويبقى الثلث ، فإنّ النار قد أصابته » ، قلت : فالزبيب كما هو يلقى في القدر ويصبّ عليه الماء ، ثمّ يطبخ ويصفّى عنه الماء ؟ قال : « كذلك هو سواء ، إذا أدت الحلاوة إلى الماء فصار حلواً بمنزلة العصير ثمّ نش من غير أن تصيبه النار فقد حرم ، وكذلك إذا أصابته النار فأغلاه فقد فسد »[28] . وهذه الرواية نصّ في المطلوب ، صريحة الدلالة في المدّعى ، وراويها ـ وهو زيد النرسي ـ أحد أصحاب الاُصول ، كوفيّ ، صحيح المذهب ، منسوب إلى نَرس ، بفتح الموحّدة الفوقانية ، وإسكان الراء المهملة ، قرية من قرى الكوفة ، ينسب إليه الثياب النرسيّة أو نهر من أنهارها ، عليه عدّة من القرى ، كما قاله السمعاني في كتاب الأنساب ، قال : « ونسب إليه جماعة من مشاهير المحدّثين بالكوفة »[29] . وقال الشيخ الجليل أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد النجاشي في كتاب الرجال : « أنّ زيداً النرسي من أصحاب الصادق (عليه السلام)والكاظم (عليه السلام) ، وله كتاب يرويه عنه جماعة ، أخبرنا أحمد بن عليّ بن نوح السيرافي ، قال : حدّثنا محمّد بن أحمد الصفواني ، قال : حدّثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن زيد النرسي بكتابه »[30] . وقد نصّ شيخ الطائفة في الفهرست[31] على رواية ابن أبي عمير كتاب زيد النرسي ، كما ذكره النجاشي[32] ، ثمّ ذكر في ترجمة ابن أبي عمير طرقه التي تنتهي إليها [33]*. والذي يناسب وقوعه في إسناد هذا الكتاب هو ما ذكره فيه وفي المشيخة[34] : « عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد العلوي الموسوي ، عن عبد الله بن أحمد بن نهيك ، عن ابن أبي عمير »[35] . وفي البحار طريق اُخرى لكتاب زيد النرسي ، ذكر أ نّه وجده في مفتتح النسخة التي وقعت إليه ، وهي النسخة التي أخرج منها أخبار الكتاب ، والطريق هكذا : « حدّثنا الشيخ أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري ـ أيّده الله ـ قال : حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمّد بن سعيد الهمداني ، قال : حدّثنا جعفر بن عبد الله العلوي أبو عبد الله المحمّدي ، قال : حدّثنا محمّد بن أبي عمير ، عن زيد النرسي »[36] . وإنّما أوردنا هذا الطريق مع الاستغناء عنها بوجود الحديث في أصل الراوي ، تنبيهاً على اشتهار الأصل المذكور فيما بين الأصحاب ، واعتباره عندهم كغيره من الاُصول المعتمدة المعوّل عليها ، فإنّ نَصَرة الحلّ لمّـا أعيتهم صراحة الحديث عن * . جاء في حاشية «ش» و «ر 2 » : « إنّما قلنا ذلك لأ نّ في باقي طرقه الصدوق أو ابن الوليد ، وهما قد ضعّفا كتاب زيد النرسي » . منه(قدس سره) الخوض في دلالته حاولوا دفعه عن أصله بإسقاط اعتبار هذا الأصل ، والطعن في من رواه ، فاعترضوا : أوّلا : بجهالة زيد النرسي ، وإنّما لم ينصّ عليه علماء الرجال بمدح ولا قدح . وثانياً : بأنّ الكتاب المنسوب إليه مطعون فيه ؛ فإنّ الشيخ حكى في الفهرست عن ابن بابويه أ نّه لم يروِ هذين الأصلين ، بل كان يقول : هما موضوعان . وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير ، وإنّ واضع هذه الاُصول محمّد بن موسى الهمداني المعروف بالسمـان[37] . وثالثاً : بأنّ الكتب المعتبرة خالية عن هذه الرواية ؛ فإنّ المحمّدين الثلاثة لم يذكروها في الكتب الأربعة ، ولم يتعرّض لها أحد من الأصحاب في كتب الخلاف والاستدلال ، وما ذلك إلاّ لضعفها وعدم صلاحيّتها لإثبات مثل هذا الحكم . والجواب عمّـا ذكروه : أ نّ رواية ابن أبي عمير لهذا الأصل يدلّ على صحّته واعتباره والوثوق بمن رواه ، فإنّ المستفاد من تتبّع الحديث والرجال بلوغه[38] الغاية القصوى في الثقة والعدالة ، والورع ، والضبط ، والتحرّز عن التخليط ، والرواية عن الضعفاء المجاهيل ، والذي ترى الأصحاب يسكنون إلى روايته ويعتمدون على مراسيله . وقد ذكر الشيخ في العدّة أ نّه لا يروي ولا يرسل إلاّ عمّن يوثق به[39] ، وهذا توثيق عامّ لمن روى عنه ، ولا معارض له ها هنا . وحكى الكشّي في رجاله إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه ، والإقرار له بالفقه والعلم[40] . ومقتضى ذلك صحّة الأصل المذكور ؛ لكونه ممّـا قد صحّ عنه ، بل توثيق راويه أيضاً ؛ لكونه العلّة في التصحيح غالباً . والاستناد إلى القرائن وإن كان ممكناً إلاّ أ نّه بعيد في جميع روايات الأصل . وعدّ النرسي من أصحاب الاُصول وتسمية كتابه أصلا ممّـا يشهد بحسن حاله واعتبار كتابه ؛ فإنّ الأصل في اصطلاح المحدّثين من أصحابنا بمعنى الكتاب المعتمد الذي لم ينتزع من كتاب آخر ، وليس بمعنى مطلق الكتاب ، فإنّه قد يجعل مقابلا له فيقال : له كتاب ، وله أصل . وقد ذكر ابن شهرآشوب في معالم العلماء نقلا عن المفيد (رحمه الله) : « أنّ الإماميّة صنّفت من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)إلى عهد أبي محمّد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)أربعمائة كتاب تسمّى الاُصول » ، قال : « وهذا معنى قولهم له أصل »[41] . ومعلوم أنّ مصنّفات الإماميّة فيما ذكر من المدّة تزيد على ذلك بكثير ، كما يشهد به تتبّع كتب الرجال ، فالأصل إذن أخصّ من الكتاب ، ولا يكفي فيه مجرّد عدم انتزاعه من كتاب آخر ، وإن لم يكن معتمداً ، فإنّه يأخذ في كلام الأصحاب مدحاً لصاحبه ووجهاً للاعتماد على ما تضمّنه . وربما ضعّفوا الرواية لعدم وجدان مثلها في الاُصول ، كما اتّفق للمفيد والشيخ وغيرهما ، فالاعتماد مأخوذ في الأصل ، بمعنى كون ذلك هو الأصل فيه إلى أن يظهر خلافه ، والموصف به في قولهم : « له أصل » معتمد للإيضاح والبيان ، أو لبيان الزيادة على مطلق الاعتماد المشترك فيما بين الاُصول . فلا ينافي ما ذكرنا على أنّ تضعيف الحديث ـ أصلا كان المصنَّف أم كتاباً ـ لا ينفكّ غالباً عن كثرة الرواية ، والدلالة على شدّة الانقطاع إلى الأئمّة(عليهم السلام)، وقد قالوا : « اعرفوا منازل الرجال بقدر روايتهم عنّا »[42] ، و ورد عنهم في شأن الرواية للحديث ما ورد . وأمّا الطعن على هذا الأصل والقدح فيه بما ذكرنا فإنّما الأصل فيه محمّد بن الحسن الوليد القمّي ، وتبعه على ذلك ابن بابويه على ما هو دأبه في الجرح والتعديل ، ولا موافق لهما فيما أعلم ، وفي الاعتماد على تضعيف القمّيين ومدحهم في الاُصول والرجال كلام معروف ؛ فإنّ طريقتهم في الانتقاد تخالف ما عليه جماهير النقّاد ، وتسرّعهم إلى الطعن بلا سبب ظاهر ممّا يريب اللبيب الماهر ، ولم يلتفت أحد من أئمّة الحديث والرجال إلى ما قاله الشيخان المذكوران في هذا المجال ، بل المستفاد من تصريحاتهم وتلويحاتهم تخطئتهما في ذلك المقال . قال الشيخ ابن الغضائري : « زيد الزرّاد وزيد النرسي رويا عن أبي عبد الله (عليه السلام) ، قال أبو جعفر بن بابويه : إنّ كتابهما موضوع ، وضعه محمّد بن موسى السمّـان ، وغلط أبو جعفر في هذا القول ، فإنّي رأيت كتبهما مسموعة عن محمّد بن أبي عمير »[43] . وناهيك بهذه المجاهرة في الردّ من هذا الشيخ الذي بلغ الغاية في تضعيف الروايات ، والطعن في الرواة ، حتّى قيل : إنّ السالم من رجال الحديث من سلم منه[44] ، وأ نّ الاعتماد على كتابه في الجرح طرح لما سواه من الكتب . ولولا أنّ هذا الأصل من الاُصول المعتمدة المتلقّاة بالقبول بين الطائفة لما سلم من طعنه وغمزه على ما جرت به عادته في كتابه الموضوع لهذا الغرض ؛ فإنّه قد ضعّف فيه كثيراً من أجلاّء الأصحاب المعروفين بالتوثيق ، نحو إبراهيم بن حيان ، وإبراهيم بن عمر اليماني ، وإدريس بن زياد ، وإسماعيل بن مهران ، وحذيفة بن منصور ، وأبي بصير ليث المرادي ، وغيرهم من أعاظم الرواة وأصحاب الحديث ، واعتمد في الطعن عليهم غالباً اُموراً لا توجب قدحاً فيهم ، بل في روايتهم ، كاعتماد المراسيل ، والرواية عن المجاهيل ، والخلط بين الصحيح والسقيم ، وعدم المبالاة في أخذ الروايات ، وكون رواياتهم ممّـا يعرف تارةً وينكر اُخرى ، وما يقرب من ذلك . هذا كلامه في مثل هؤلاء المشاهير الأجلّة ، وأمّا إذا وجد في أحد ضعفاً بيّناً ، أو طعناً ظاهراً ، وخصوصاً إذا تعلّق بصدق الحديث ، فإنّه يقيم عليه النوايح ، ويبلغ منه أي مبلغ ، ويمزّقه كلّ ممزّق . فسكوت مثل هذا الشيخ عن حال زيد النرسي ومدافعته عن أصله بما سمعت من قوله[45] أعدل شاهد على أ نّه لم يجد فيه غمزاً ، ولا للقول في أصله سبيلاً . وقال الشيخ في الفهرست : « زيد النرسي وزيد الزراد ، لهما أصلان ، لم يروهما محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه . وقال في فهرسته : لم يروهما محمّد بن الحسن بن الوليد ، وكان يقول : هما موضوعان ، وكذلك كتاب خالد بن عبد الله بن سدير ، وكان يقول : وضع هذه الاُصول محمّد بن موسى الهمداني »[46] . قال الشيخ في كتاب زيد النرسي : « رواه ابن أبي عمير عنه »[47] ، وفي هذا الكلام تخطئة ظاهرة للصدوق وشيخه في حكمهما بأنّ أصل زيد النرسي من موضوعات محمّد بن موسى الهمداني ، فإنّه متى صحّت رواية ابن أبي عمير إيّاه عن صاحبه امتنع إسناد ضعفه إلى الهمداني المتأخّر العصر عن زمن الراوي والمرويّ عنه . وأمّا النجاشي ، وهو أبو عذرة هذا الأمر ، وسابق حلبته ، كما يعلم من كتابه الذي لا نظير له في الرجال ، فقد عرفت ممّـا نقلنا عنه روايته لهذا الأصل في الحسن كالصحيح ، بل الصحيح على الأصحّ ، عن ابن أبي عمير عن صاحب الأصل[48] . وقد روى أصل زيد الرزّاد عن المفيد ، عن ابن قولويه ، عن أبيه وعليّ بن بابويه ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن محمّد بن عيسى بن عبيد ، عن ابن أبي عمير ، عن زيد الزرّاد . ورجال هذا الطريق وجوه الأصحاب ومشايخهم ، وليس فيه من يتوقّف في شأنه سوى العبيدي ، والصحيح توثيقه . وقد اكتفى النجاشي بذكر هذين الطريقين ولم يتعرّض لحكاية الوضع في شيء من الأصلين ، بل أعرض عنها صفحاً ، وطوى عنها كشحاً ، تنبيهاً على غاية فسادها ، مع دلالة الإسناد الصحيح المتّصل على بطلانها . وفي كلامه السابق[49] دلالة على أنّ أصل زيد النرسي من جملة الاُصول المشهورة المتلقّاة بالقبول بين الطائفة ، حيث أسند روايته منه أوّلا إلى جماعة من الأصحاب ولم يخصّه بابن أبي عمير ، ثمّ عدّه في طريقه إليه من مرويّات المشايخ الأجلّة ، وهم أحمد بن عليّ بن نوح السيرافي ، ومحمّد بن أحمد بن عبد الله الصفواني ، وعليّ بن إبراهيم القمّي ، وأبوه إبراهيم بن هاشم . وقد قال في السيرافي : « إ نّه كانت ثقة في حديثه ، متقناً فيما يرويه ، فقيهاً بصيراً بالحديث والرواية »[50]. وفي الصفواني : « شيخ ، ثقة ، فقيه ، فاضل »[51] . وفي القمّي : « ا نّه ثقة في الحديث ، ثبت ، معتمد » . وفي أبيه : « أ نّه أوّل من نشر أحاديث الكوفيّين بقم »[52] . ولا ريب في أنّ رواية مثل هؤلاء الفضلاء الأجلاّء تقتضي اشتهار الأصل في زمانهم ، وانتشار أخباره في ما بينهم . وقد علم ممّا سبق كونه من مرويّات الشيخ المفيد (رحمه الله) ، وشيخه أبو القاسم جعفر بن قولويه ، والشيخ الجليل الذي انتهت إليه رواية جميع الاُصول والمصنّفات أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري ، وأبي العباس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة ، الحافظ المشهور ، وأبي عبد الله جعفر بن عبد الله رأس المذري الذي قالوا فيه : « إنّه أوثق الناس في حديثه »[53] ، وهؤلاء هم مشايخ الطائفة ، ونقلة الأحاديث ، وأساطين الجرح والتعديل ، وكلّهم ثقات أثبات ، ومنهم المعاصر لابن الوليد ، والمتقدّم عليه ، والمتأخّر عنه الواقف على دعواه ، فلو كان الأصل المذكور موضوعاً معروفَ الواضع ـ كما ادّعاه ـ لما خفي على هؤلاء الجهابذة النقاد بمقتضى العادة في مثل ذلك . وقد أخرج ثقة الإسلام الكليني لزيد النرسي في جامعه الكافي الذي قد ذكر أ نّه جمع فيه[54] الآثار الصحيحة عن الصادقين(عليهم السلام) ، روايتين : إحداهما : في باب التقبيل ، من كتاب الإيمان والكفر ، عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن زيد النرسي ، عن عليّ بن مزيد صاحب السابري ، قال : دخلت على أبي عبد الله(عليه السلام) فناولت يده فقبّلتها ، فقال : « أما إنّها لا تَصلُحُ إلاّ لنبيّ أو وصيّ نبيّ »[55] . والثانية : في كتاب الصوم ، في باب صوم عاشوراء ، عن الحسن بن عليّ بن الهاشمي ، عن محمّد بن عيسى ، قال : حدّثنا محمّد بن أبي عمير ، عن زيد النرسي ، قال : سمعت عبيد بن زرارة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن صوم يوم عاشوراء ، فقال : « من صامه كان حظّه من صيام ذلك اليوم حظّ ابن مرجانة و آل زياد » . قلت : وما حظّهم من ذلك اليوم ؟ قال : « النار »[56] . والشيخ في كتابي الأخبار أورد هذه الرواية بإسناده عن محمّد بن يعقوب[57] . وأخرج لزيد النرسي في كتاب الوصايا من التهذيب ، في باب وصيّة الإنسان لعبده حديثاً آخر عن عليّ بن الحسن بن فضّال ، عن معاوية بن حكيم ويعقوب الكاتب ، عن ابن أبي عمير ، عنه[58] . والغرض من إيراد هذه الأسانيد التنبيه على عدم خلوّ الكتب الأربعة عن أخبار زيد النرسي ، وبيان صحّة رواية ابن أبي عمير عنه ، والإشارة إلى تعدّد الطرق إليه واشتمالها على عدّة من الرجال الموثوق بهم ، سوى من تقدّم ذكره في الطرق السابقة ، وفي ذلك كلّه تنبيه على صحّة هذا الأصل ، وبطلان دعوى وضعه ، كما قلنا . ويشهد لذلك أيضاً أنّ محمّد بن موسى الهمداني ـ وهو الذي ادّعي عليه وضع هذه الاُصول[59] ـ لم يتّضح ضعفه بعد ، فضلا عن كونه وضّاعاً للحديث ؛ فإنّه من رجال نوادر الحكمة ، والرواية عنه في كتب الأحاديث متكرّرة . ومن جملة رواياته حديثه الذي انفرد بنقله في صلاة عيد الغدير ، وهو حديث مشهور أشار إليه المفيد في المقنعة[60] ، وفي مسار الشيعة[61] ، ورواه الشيخ في التهذيب[62] ، وأفتى به الأصحاب ، وعوّلوا عليه ، ولا رادّ له سوى الصدوق[63] ، وابن الوليد ، بناءً على أصلهما فيه . والنجاشي ذكر هذا الرجل في كتابه ، ولم يضعّفه ، بل نسب إلى القمّيين تضعيفه بالفساد ، ثمّ ذكر له كتباً ، منها كتاب الردّ على الغلاة ، وذكر طريقه إلى تلك الكتب ، قال : « وكان ابن الوليد يقول : إنّه كان يضع الحديث ، والله أعلم »[64] . وابن الغضائري وإن ضعّفه إلاّ أنّ كلامه فيه يقتضي أ نّه لم يكن بتلك المثابة من الضعف ؛ فإنّه قال فيه : « إنّه ضعيف ، يروي عن الضعفاء ، ويجوز أن يخرج شاهداً تكلّم القمّيون فيه ، فأكثروا واستثنوا من نوادر الحكمة ما رواه »[65] . وكلامه ظاهر في أ نّه لم يذهب فيه مذهب القمّيين ، ولم يرتضِ ما قالوه . والخطب في تضعيفه هيّن ، خصوصاً إذا استهونه . والعلاّمة في الخلاصة[66] حكى تضعيف القمّيين وابن الوليد حكايةً تشعر بتمريضه ، واعتمد في التضعيف على ما قاله ابن الغضائري ، ولم يزد عليه شيئاً ، وفيما سبق عن النجاشي وابن الغضائري في أصلي الزيدين[67] ، وعن الشيخ في أصل النرسي[68] ، دلالة على إختلال ما قاله ابن الوليد في هذا الرجل . وبالجملة فتضعيف محمّد بن موسى يدور على اُمور : أحدها : طعن القمّيين في مذهبه بالغلوّ والارتفاع . ويضعّفه ما تقدّم عن النجاشي أنّ له كتاباً في الردّ على الغلاة[69] . وثانيها : إسناد وضع الحديث إليه . وهذا ممّـا انفرد به ابن الوليد ، ولم يوافقه في ذلك إلاّ الصدوق ؛ لشدّة وثوقه به ، حتّى قال في كتاب من لا يحضره الفقيه : « إنّ كلّ ما لم يصحّحه ذلك الشيخ ولم يحكم بصحّته من الأخبار فهو عندنا متروك غير صحيح »[70] . وسائر علماء الرجال ونقدة الأخبار تحرّجوا عن نسبة الوضع إلى محمّد بن موسى ، وصحّحوا أصل زيد النرسي ، وهو أحد الاُصول التي اُسند وضعها إليه ، وكذا أصل زيد الزرّاد . وسكوتهم عن كتاب خالد بن سدير لا يقتضي كونه موضوعاً ، ولا كون محمّد بن موسى واضعاً ؛ إذ من الجائز أن يكون عدم تعرّضهم له لعدم ثبوت صحّته ، لا لثبوت وضعه ، فلا يوجب تصويب ابن الوليد لا في الوضع ولا في الواضع ، أو لكونه من موضوعات غيره ، فيقتضي تصويبه في الأوّل ، دون الثاني . وثالثها : استثناؤه من كتاب نوادر الحكمة . والأصل فيه محمّد بن الحسن بن الوليد ، وأيضاً تابعه على ذلك الصدوق ، وأبو العباس بن نوح ، بل الشيخ والنجاشي أيضاً ، وهذا الاستثناء لا يختصّ به ، بل المستثنى من ذلك الكتاب جماعة ، وليس جميع المستثنين وضعة للحديث ، بل منهم المجهول الحال ، والمجهول الاسم ، والضعيف بغير الوضع ، بل الثقة على أصحّ الأقوال ، كالعبيري ، واللؤلؤي . فلعلّ الوجه في استثناء غير الصدوق وشيخه ابن الوليد جهالة محمّد بن موسى ، أو ضعفه من غير جهة الوضع ، والموافقة لهما في الاستثناء لا يقتضي الاتّفاق في التعليل ، فلا يلزم من استثناء من وافقهما ضعف محمّد بن موسى عنده ، فضلا عن كونه وضّاعاً . وقد بان لك بما ذكرنا مفصّلا اندفاع الاعتراضين الأوّلين بأبلغ الوجوه[71] . وأمّا الثالث : فيتوجّه عليه أنّ خلوّ الكتب الأربعة عن هذه الرواية لا ينفي حجّيتها ؛ إذ ليس من شرائط حجّية الخبر وجوده في هذه الأربعة ، كيف وقصر الحجّية على ما فيها من الأخبار يقتضي سقوط ما عداها من كتب الحديث عن درجة الاعتبار ، مع أنّ كثيراً منها يقرب من هذه الأربعة في الاشتهار ، ولا يقصر عنها بكثير في الظهور والانتشار ، كالعيون ، والخصال ، والعلل ، والإكمال ، من مصنّفات الصدوق ، وغيرها من الكتب المعروفة المشهورة الظاهرة النسبة إلى مؤلّفيها الثقات الأجلّة ، وعلماء الطائفة ، ووجوه الفرقة ، لم يزالوا في جميع الأعصار والأمصار يستندون إلى هذه الكتب ، ويفرّعون إليها فيما تضمّنته من الأخبار والآثار المرويّة عن الأئمّة الأطهار(عليهم السلام) ، ولم يسمع من أحد منهم الاقتصار على الكتب الأربعة ولا إنكار الحديث لكونه من غيرها ، وإقبال الفقهاء إلى تلك الأربعة وإكبابهم عليها ليس لعدم اعتبار غيرها عندهم ، بل لما في الأربعة من المزيّة الظاهرة والفضيلة الواضحة التي اختصّت بها من بين الكتب المصنّفة ، فإنّها مع جودة ترتيبها وحسن تهذيبها وكون مؤلّفيها رؤساء الشيعة وشيوخ الطائفة ، أجمع كتب الحديث وأشملها لما يناسب أنظار يتعلّق بأنظار الفقهاء من أحاديث الفروع ، وما عدا الكافي منها مقصور على روايات الأحكام ، موضوع لخصوص ما يتعلّق بالحلال والحرام ، وسائر كتب الحديث وإن اشتملت على كثير من الأخبار المتعلّق بهذا الغرض ، إلاّ أنّ وضعها لغيره اقتضى تفرّق ذلك فيها وشتاته في أبوابها وفصولها على وجه يصعب الوصول إليه ، ويعسر الإحاطة به ، فلذلك قلّت فيها رغبة من يطلب الفقه ، وفرّت عنها عزيمة من يرغب إلى هذا النوع ، وانصرفت همم الأكثرين إلى الأربعة ، وأربت[72] جماهير العلماء على حياضها المترعة ، وشدّ رجال الحديث إليها الرحال ، وأقبل الفقهاء عليها كلّ الإقبال حتّى طار ذكرها في جميع الأقطار ، واشتهرت من بين كتب الحديث هذا الاشتهار ، وبقيت أكثر الكتب الباقية في زوايا الهجران ناسجة عليها مناكب النسيان ، قلّما يرجع إليها في تحقيق المسائل وتنقيح الدلائل اكتفاءً بما هو أتمّ وأنفع وأكمل وأجمع ، فهذا هو السبب إلى الرغبة عمّا عدا الكتب الأربعة من كتب الحديث المؤلّفة في عصر المشايخ الثلاثة وما بعده . وأمّا كتب القدماء والاُصول المصنّفة في زمان الأئمّة (عليهم السلام)فالسبب الباعث على عدم ظهورها واشتهارها مع ما ذكر ، بُعد العهد ، وتمادي المدّة ، واندراس أكثر تلك الكتب والاُصول باستيلاء سلاطين الجور ، وغلبة أئمّة الضلال ، وشدّة المحنة على الشيعة في تلك الأزمنة من جهة التقيّة ، وليس السبب في ذلك هجرها لضعفها وعدم اعتبارها قطعاً ؛ كيف ، والكتب الأربعة وغيرها من مصنّفات المتأخّرين كلّها منتزعة من تلك الكتب ، مستخرجة من تلك الاُصول ، فلو كانت تلك غير معتبرة كانت هذه كذلك ، وكتاب زيد النرسي من جملة الاُصول القديمة المؤلّفة في زمان الصادق (عليه السلام) أو الكاظم (عليه السلام) ، وقد كاد يعتريه الاندراس والخفاء كما اعترى أكثر اُصول القدماء ، لكنّ الباعث على خفائه وعدم اشتهاره هو الأمر المشترك بينه وبين غيره في الاُصول المعتبرة ، لكن لمّـا أذن الله تعالى لإحياء كثير من الكتب المهجورة في السنين المتطاولة بحسن اهتمام خالنا الشيخ ، الإمام ، العلاّمة ، رئيس المحدّثين في وقته ، ومجدّد طريقة الأئمة الهادين في زمانه ، شكر الله مساعيه الجميلة ، كان هذا الأصل من جملة ما ظهر من الاُصول العتيقة ، وقد أخرجه شيخنا(رحمه الله) فيما أخرجه في كتاب بحار الأنوار الموضوع لجمع تفاريق الأخبار ، فاشتهر كغيره ممّـا تضمّنه الكتاب المذكور ، واكتسى بعد الهجر والخفاء ثوب الجلاء والظهور . فإن قيل : قد بذل الأئمّة الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة جهدهم في تحقيق الروايات ونقل الأحاديث ، والتمييز بين صحيحها وفاسدها ، وسليمها ومعيبها ، وقد كانت الكتب المصنّفة والاُصول الأربعمائة موجودة في زمانهم ، وكانوا متمكّنين من الرجوع إليها والأخذ منها ، فهؤلاء المشائخ النقّاد لم يقتصروا على هذه الأخبار التي رووها وأودعوها هذه الكتب إلاّ لعدم صحّة غيرها من الأخبار ، ووجود خلل فيها ، أوجب لهم العدول عنها إلى ما اقتصروا عليه . قلنا : هذا من سقاط القول وشطيط الرأي ، وقد سبق إليه من الناس من استثقل عبء الاجتهاد ، واستصعب كلفة الإنقاد ، ولو صحّ ذلك كان طعناً في أحاديث الكتب الأربعة أيضاً ؛ فإنّ كلاًّ منها قد اشتمل على ما لم يشمل عليه الآخر ، وأحاط بما لم يحط به ، سوى الاستبصار بالقياس إلى التهذيب ، فإنّه بضعة منه ، وأمّا غيره فمن المعلوم اشتمال الكافي والفقيه على ما لا يوجد في التهذيب ، واشتمال التهذيب على ما ليس فيهما ، وكذا اشتمال كلّ من الكافي والفقيه على ما ليس في الآخر ، فلو كان إيراد كلّ منهم ما أورده في كتابه شهادةً على عدم صحّة غيره وجب ردّ الجميع في مواضع الانفراد ، ولزم أن لا يصحّ من الأخبار إلاّ ما أحاط به الكلّ . والحقّ أنّ الأئمّة الثلاثة إنّما أوردوا في هذه الكتب الإحاطة الكلّية ، والاستقصاء التامّ ، وإنّما أوردوا فيها ما عثروا عليه حال التصنيف ، وما تيسّر لهم الوقوف عليه وقت الجمع والتأليف ، وإنّهم انّما اعتمدوا في الجرح والتعديل ، والردّ والتزييف على ما أدّى إليه نظرهم في تلك الحال ، وتكليف من تأخّر عنهم فيما ذكروه وما تركوه موكول على ممارسة الأخبار والنظر في أحوال الرجال ، ودعوى الكلّية في كلّ من طرفي الإثبات والنفي منشأها المسامحة واغتنام الراحة ، مع سوء التدبّر وقلّة التأمّل . نعم ، أحاديث الكتب الأربعة أقوى من غيرها ، وأولى بالترجيح مع التعارض والتعادل من سائر الوجوه ، وهذا لا يجدي نفعاً في هذا المقام ؛ فإنّ للنظر في الترجيح محلاّ آخر ، وستعرف فيه إن شاء الله تعالى أ نّ أدلّة الحلّ ليس فيها ما يصلح لمعارضة هذه الأخبار[73] ، فكيف يما يترجّح عليها . وأمّا ما ذكر في تضعيف هذه الرواية من عدم تعرّض الأصحاب لها في المسألة ، فليس ذلك من القدح في شيء ؛ فإنّ الرواية متى صلحت للاحتجاج صحّ التمسّك بها ولم يتوقّف على سبق الاحتجاج بها من غير هذا المستدلّ ، كيف ولو كان كذلك لوقفت الأدلّة على المستدلّ الأوّل ، وامتنع التعدّي عنه بتكثير الدلائل وتحقيق المسائل ، ولوجب القدح في أكثر الاحتجاجات المذكورة في كتب الأصحاب ؛ فإنّ المتأخّرين عن الشهيد الثاني قد زادوا عليه كثيراً ، وهو قد زاد على الشهيد الأوّل ، وقد زاد الشهيدان على الفاضلين ، والفاضلان على الشيخين ، والشيخان على من تقدّمهما ، وقد جرت سنّة اللّه في عباده وبلاده تكامل العلوم والصنائع يوماً فيوماً ، بتلاحق الأفكار ، واتّساع الأنظار ، وزيادة كلّ لاحق على سابق ، إمّا بزيادة تتبّعه وعثوره على ما لم يعثر عليه الأوّل ، ووقوعه على ما لم يقف عليه ، أو لأنّ أفكار الأوائل وأنظارهم هيّأت له فكراً زائداً ، ونظراً صائباً ، فزاد عليهم بما أخذ عنهم ، أو لغاية ربّانية ولطف مخصوص ساقا إلى المتأخّر زلفةً وكرامةً تختصّ به ، وليس في شيء من ذلك ما يزري بحال المتقدّمين ، أو ينقص من جلالتهم ، أو يطعن فيهم . ونِعمَ ما قال الشيخ الفقيه ابن إدريس ـ طاب ثراه ـ في خاتمة كتاب السرائر ، قال : « ولا ينبغي لمن استدرك على من سلف ، وسبق إلى بعض الأشياء أن يرى لنفسه الفضل عليهم ؛ لأ نّهم إنّما زلّوا حيث زلّوا لأجل أ نّهم كدّوا أفكارهم وشغلوا بزمانهم في غيره ، ثمّ صاروا إلى الشيء الذي زلّوا فيه ، وقلوب قد كلّت ، ونفوس قد سئمت ، وأوقات ضيّقة ، ومن يأتي بعدهم فقد استفاد ممّـا استخرجوه ، ووقف على ما أظهروه ، من غير كدّ ولا كلفة ، وحصلت له بذلك رياضة ، واكتسب قوّة ، فليس بعجب إذا صار إلى حيث زلّ فيه من تقدّم ، وهو موفود القوى ، متّسع الزمان ، لم يلحقه ملل ولا خامرة ضجر أن يلحظ ما لم يلحظوه ، ويتأمّل ما لم يتأمّلوه ، ولذلك زاد المتأخّرون على المتقدّمين ، وكثرت العلوم بكثرة الرجال ، واتّصال الزمان ، وامتداد الآجال »[74] . هذا كلامه (رحمه الله) . وكما أنّ استدارك اللاحق على من سلف لا يوجب طغيانهم ، وكذا إهمالهم لما استدركه لا يوجب طعناً فيه ، ولا فيما سبق إليه ، ولو كان الاستدراك على السلف طعناً في الخلف لكان السلف أولى به ؛ لتقدّمهم في ذلك وسبقهم إليه ؛ إذ ما من أحد منهم إلاّ وقد استدرك على من تقدّمه بأشياء كثيرة ، أهملها المتقدّم أو لم يشبع القول فيها ، وكثيراً مّا يدّعي أحدهم أنّ المسألة خالية عن النصّ ، ثمّ يأتي آخر فيها بنصّ أو نصوص معتبرة ، بل صحيحة من الكتب الأربعة ، فضلا عن غيرها ، والاستدراك بالنصّ على الشهيد الثاني ـ طاب ثراه ـ كثير جدّاً ، واستقصاء المواضع التي اتّفق ذلك له أو لغيره يفضي إلى غاية التطويل ويخرج عن وضع الرسالة ، والذي يزيل الوهم بالكلّية في عدم تعرّض الفقهاء لهذه الرواية أمران : أحدهما : أ نّها ـ كما عرفت ـ إنّما وجدت في الاُصول العتيقة المهجورة ، وقد كان ظهور الأصل المشتمل عليها وانتشاره فيما يقرب من هذه الأعصار ، كما أ نّه لم يبعد الاطّلاع على أحاديث سائر الاُصول التي لم تظهر بعد . وثانيهما : أنّا لم نرَ للفقهاء في هذه المسألة استدلالا وافياً ، ولا كلاماً شافياً ، وكثير من الأصحاب لم يتعرّضوا لها أصلا ، وكتاب المقنعة ، والمراسم ، وكتب السيّد المرتضى ومسائله ، خالية عن ذكر العصير العنبي ، فضلا عن الزبيبي ، والمتعرّض لها منهم لم يستدلّ عليها حتّى الفاضلان ، فإنّهما إنّما ذكرا المسألة في كتب الفتوى العارية عن الأدلّة[75] . وكتاب المختلف الموضوع لبيان الخلاف والاستدلال خال عن هذه المسألة . ولم نجد للعلاّمة(رحمه الله) في هذه المسألة استدلالا إلاّ في جواب مسائل مهنّا بن سنان المدني[76] ، وليس فيه إلاّ التمسّك بالأصل فيما اختاره من الحلّ ، مقتصراً عليه ، وربما كان فيما ذكره في التحرير[77] والقواعد[78] من أقربيّة البقاء على الحلّ إشارة إلى الاستصحاب أيضاً ، ولم يتعرّض في شيء من كتبه لأدلّة التحريم ، ولا أشار إليها . والشهيدان إنّما ذكرا للتحريم رواية عليّ بن جعفر المتقدّمة ، وزاد الشهيد الثاني في المسألة رواية أبي بصير الآتية في أدلّة الحلّ[79] ، ولم يتعرّض هو ولا من قبله بشيء من الوجوه والروايات التي أوردناها ، مع كونها من أحاديث الكتب الأربعة ، وإنّما وسع القول في المسألة قليلا بعض المتأخّرين عن الشهيد الثاني ، ولم يعطَ حقّها من النظر وتفصيل أدلّة المسألة ، وتحقيقها على الوجه الذي سبق من خصائص هذه الرسالة ، فيما أعلم . -------------------------------------------------------------------------------- [1]. اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي) 3 : 524 ، الرقم 471 و 472 ، فرق الشيعة (للنوبختي ) : 77 . [2]. النقل بالمضمون . اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي ) 4 : 567 ، الرقم 502 ، ترجمة «هشام بن سالم» . [3]. الاستبصار 1 : 372 ، ذيل الحديث 8 من باب السهو في صلاة المغرب . [4]. الفهرست (للطوسي) : 335 ، الرقم 527 . [5]. التهذيب 7 : 121 ، باب بيع الواحد بالاثنين ، ذيل الحديث 41 . [6]. النقل بالمضمون . المعتبر 1 : 60 . [7]. الرسائل التسع : 64 ـ 65 . وانظر : العدّة 1 : 149 ـ 150 . [8]. العدّة 1 : 149 ـ 150 . [9] . اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) 4 : 635 ، الرقم 639 . [10]. الردّ على أصحاب العدد (مصنّفات الشيخ المفيد 9 : ) 25 . [11]. رجال النجاشي : 290 ، الرقم 779 ، مع تفاوت يسير . [12]. اختيار معرفة الرجال ( رجال الكشي ) 5 : 707 ـ 708 ، الرقم 763 . [13]. الكافي 6 : 426 ، باب صفة الشراب الحلال ، الحديث 4 ، وسائل الشيعة 25 : 291 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 5 ، الحديث 5 . [14]. في المصدر : ثمّ تغسل بالماء . [15]. الكافي 6 : 426 ، باب صفة الشراب الحلال ، الحديث 3 ، وسائل الشيعة 25 : 290 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 5 ، الحديث 4 . [16]. ما بين القوسين لم يرد في «ل» و «ر ـ 2 » . [17]. أي : قول المعترض المذكور في الصفحة السابقة . [18]. تقدّم ذكرهما في الصفحة 380 ـ 381 . [19]. تقدّم ذكرهما في الصفحة 388 . [20]. كذا في «ش» و «ر 2 » ، وفي ساير النسخ غير واضحة . [21]. أي : روايتي عمّار ، وقد تقدّم تخريجهما في الصفحة 380 ـ 381 . [22]. راجع : الصفحة 367 . [23]. راجع : الصفحة 388 . [24]. كذا في النسخ . [25]. راجع : الصفحة 388 . [26]. من قوله : «ويدلّ على فساد هذا الحمل» في الصفحة 378 ، إلى هنا ، لم يرد في «ش» . [27]. أي : من النصوص الواردة في المعتصر من الزبيب بالخصوص ، وقد تقدّم ذكر الرواية الاُولى في [28]. بحار الأنوار 63 : 506 ، أبواب الأشربة والأواني ، الباب 3 ، الحديث 8 ، ملاذ الأخيار 14 : 375 ، ذيل الحديث 258 ، مستدرك الوسائل 17 : 38 ، كتاب الأطعمة والأشربة ، أبواب الأشربة المحرّمة ، الباب 2 ، الحديث 1 . [29]. الأنساب 12 : 69 . [30]. رجال النجاشي : 174 ، الرقم 460 . [31]. الفهرست (للطوسي ) : 201 ، الرقم 300 . [32]. تقدّم قبل سطور . [33]. الفهرست (للطوسي ) : 405 ، الرقم 618 . [34]. في « ر 2 » : ما ذكره فيه المشيخة . [35]. الفهرست (للطوسي) : 405 ـ 406 ، الرقم 618 ، التهذيب 10 : 390 ، المشيخة ، الرقم 27 . [36]. بحار الأنوار 1 : 43 ، الفصل الثاني في بيان الوثوق على الكتب المذكورة ... . [37]. الفهرست (للطوسي ) : 201 ، الرقم 299 ـ 300 . [38]. أي : ابن أبي عمير . [39]. العدّة 1 : 154 . [40]. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) 6 : 830 ، الرقم 1050 . [41]. معالم العلماء : 3 ، (المقدّمة ) . [42]. اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي) : 15 ، الرقم 3 ، الكافي 1 : 50 ، باب النوادر من كتاب فضل العلم ، الحديث 13 ، وفيهما : «اعرفوا منازل الناس على قدر روايتهم عنّا » ، وسائل الشيعة 27 : 79 ، كتاب القضاء ، أبواب صفات القاضي ، الباب 8 ، الحديث 7 . [43]. رجال ابن الغضائري 1 : 61 ـ 62 ، الرقم 52 ـ 53 . [44]. لم نعثر على قائله . [45]. «من قوله » لم يرد في «ر 2 » . [46]. الفهرست (للطوسي ) : 201 ، الرقم 299 ـ 300 . [47]. نفس المصدر . [48]. راجع : الصفحة 396 . [49]. تقدّم في الصفحة : 397 . [50]. رجال النجاشي : 86 ، الرقم 209 . [51]. رجال النجاشى : 393 ، الرقم 1050 . [52]. رجال النجاشي : 260 ، الرقم 680 . [53]. الفهرست (للشيخ) : 404 ، الرقم 618 ، وفيه : « أوثق الناس عند الخاصة والعامة » . [54]. « فيه » لم يرد في « ر 2 » . [55]. الكافي 2 : 185 ، باب التقبيل ، الحديث 3 ، وسائل الشيعة 12 : 234 ، كتاب الحجّ ، أبواب أحكام العشرة ، الباب 133 ، الحديث 4 . [56]. الكافي 4 : 147 ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الحديث 6 ، وسائل الشيعة 10 : 461 ، كتاب الصوم ، أبواب الصوم المندوب ، الباب 21 ، الحديث 4 . [57]. التهذيب 4 : 377 / 495 ، باب وجوه الصيام ... ، الحديث 18 ، الاستبصار 2 : 135 / 443 ، باب صوم يوم عاشوراء ، الحديث 7 . [58]. التهذيب 9 : 265 / 238 ، باب وصية الإنسان لعبده ، الحديث 47 . [59]. تقدّم بيانه في الصفحة 399 . [60]. المقنعة : 203 ـ 207 . [61]. مسار الشيعة : 39 ـ 40 . [62]. التهذيب 3 : 155 ، باب صلاة الغدير ، الحديث 1 . [63]. الفقيه 2 : 90 ، باب صوم التطوع ... ، ذيل الحديث 18 . [64]. رجال النجاشي : 338 ، الرقم 904 . [65]. رجال ابن الغضائري 6 : 59 . [66]. خلاصة الأقوال (رجال العلاّمة) : 255 ، الرقم 44 . [67]. راجع : الصفحة 397 و 401 . [68]. راجع : الصفحة 402 . [69]. تقدّم في الصفحة السابقة . [70]. الفقيه 2 : 90 ، باب صوم التطوع ... ، ذيل الحديث 18 . [71]. اضاف هنا في نسخة «ش» عبارات في دفع الاعتراض الثالث لرواية زيد النرسي ، هي منقطعة ، تشبه ما يأتي في المتن . وقد أوردناها هنا لإتمام الفائدة . «وأمّا الثالث : فيتوجّه عليه أنّ خلوّ الكتب الأربعة عن هذه الرواية لا ينفي حجّيتها ; إذ ليس من شرائط حجّية الخبر وجوده في الكتب الأربعة ، وكيف يكون ذلك شرطاً في حجّيته ؟ وقد اتّصفت الأخبار بالحجّية قبل تأليف الكتب ، وتخصيص المتأخّرين عن عصر المشايخ الثلاثة بشرط زائد لا دليل عليه ، ولم يدّع ذلك أحد منهم ، فإنّهم كالقدماء لاختصاص الحجّية بها بعد ذلك ، ولا ادّعاه أحد من الفقهاء والاُصوليّين المتأخّرين عن عصر المشايخ الثلاثة أصحاب الكتب الأربعة ; فإنّهم بين رادّ لأخبار الآحاد ، وعامل بها ، والمانع من العمل لايقصر المنع على ما شذّ عن تلك الكتب ، بل يمنعه مطلقاً ، وإن وجد فيها ، والعاملون بأخبار الآحاد أطلقوا » . [72]. في «ش» و «ر 2 » : اربعت. [73]. في «ش» بدل «الأخبار» : الأدلّة . [74]. السرائر 3 : 652 . [75]. شرائع الإسلام 4 : 156 ، إرشاد الأذهان 2 : 180 ، قواعد الأحكام 3 : 550 . [76]. أجوبة المسائل المهنّائيّة : 104 . وانظر : نفس المصدر ، ص 119 . [77]. تحرير الأحكام 5 : 344 . [78]. قواعد الأحكام 3 : 344 . [79]. تأتي في الصفحة 419 .
|