|
أقوال العامّة في المقام
وأمّا العامّة فالأكثرون منهم وافقوا الأصحاب على ذلك ، فأحلّوا منه ما يُطبخ على الثلث دون غيره ، ذهب إليه الشافعي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والليث بن سعد ، وسعيد بن المسيّب ، وعكرمة ، والحسن البصري ، وجمهور فقهائهم[1] . وروى ذلك أصحاب الحديث منهم في آثار الصحابة عن عليّ (عليه السلام) ، وعمر ، وأبي عبيدة ، ومعاذ ، وأبي طلحة ، وأبي موسى ، وأبي الدرداء ، وأبي اُمامة ، وخالد بن الوليد ، وغيرهم[2] . وذكروا في بدو أمر الطلاء : « أنّ عمر حين قدم الشام شكى إليه أهل الشام دناء[3]الأرض وثقلها ، وقالوا : لا يصلحنا إلاّ هذا الشراب ، فقال : اشربوا العسل ، فقالوا : لا يصلحنا العسل ، فقال له رجل من أهل الأرض : هل لك أن تجعل لنا من هذا الشراب شيئاً لا يسكر[4] ؟ فقال : نعم . فطبخوه حتّى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث ، فأتوا به عمر فأدخل فيه اصبعه ، ثمّ رفع يده فتبعها متمطّطاً[5] ، فقال : هذا الطلاء ، مثل طلاء الإبل . فأمرهم أن يشربوه ، فقال : اللهمّ لا أحلّ لهم شيئاً حرّمته عليهم »[6] . ثمّ كتب إلى الناس أن : « اطبخوا شرابكم حتّى يذهب نصيب الشيطان منه ، فإن للشيطان اثنين ولكم واحد »[7] . وكتب إلى عمّـار : « انّه قد جاءني عير تحمل شراباً أسوداً ، كأ نّه طلاء الإبل ، فذكروا أ نّهم يطبخونه حتّى يذهب ثلثاه الأخبثان ، ثلث بريحه وثلث ببغيه ، فمُر مَن قبلك أن يشربوه »[8] . قال ابن حجر : « وكأ نّه أشار بنصيب الشيطان إلى ما أخرجه النسائي من طريق ابن سيرين في قصّة نوح (عليه السلام) ، قال : لمّـا ركب السفينة فقد الحبلة ، فقال له الملك : إنّ الشيطان أخذها ، ثمّ اُحضرت له ومعها الشيطان ، فقال له الملك : إنّه شريكك فيها فأحسن الشركة ، قال : له النصف ، قال : أحسن ، قال : له الثلثان ، قال : أحسنت ، وأنت محسن ، تأكله عنباً وتشربه عصيراً ، وما طبخ على الثلث فهو لك ولذرّيتك ، وما جاز عن الثلث فهو من نصيب الشيطان »[9] . ومنهم من ذهب إلى حلّية الطلاء إذا طبخ على النصف ، حكي ذلك عن أبي جُحَيفة ، والبراء ، وجرير ، وأنس ، وشريح[10] ، وعزاه بعضهم إلى أبي حنيفة أيضاً[11] ، ولم يثبت . وعلّل ذلك بأنّ المحذور منه الإسكار ، والمطبوخ على النصف لا يسكر . وردّ بأنّ النصف قد يسكر إذا كان العصير رقيق القوام كثير المائيّة ، فالتحديد به لا ينضبط . ويظهر من بعضهم[12] ترك التحديد وإناطة الحكم بالإسكار وعدمه ، نظراً إلى اختلاف الأعناب في هذا المعنى ؛ إذ قد يسكر منه المطبوخ على الثلث فما دونه ، وقد لا يسكر منه المطبوخ على النصف فما فوقه . وفيه : أنّ ذلك إن صحّ فلا ينافي التحديد الثابت شرعاً ؛ فإنّ التحديدات الشرعيّة قد تتخلّف عن الأسباب الأصليّة . وحكي عن بعضهم كراهيّة الطلاء مطلقاً تنزّهاً عنه وتورّعاً[13] . وعن أبي عبيدة[14] السلماني : « أحدث الناس أشربة لا أدري ما فيها ، فما لي شراب إلاّ الماء واللبن »[15] . فظاهره التوقّف . وكان الوجه فيه وفيما تقدّم مع التورّع ( عمّـا يحتمل الإسكار)[16] ما روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) من طريقهم : « انّ أوّل ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء في شراب ، يقال له الطلاء »[17] . وهذا الحديث إنّ صحّ ففيه وجهان : أحدهما : الحمل على ما لم يبلغ الثلث من الطلاء ، جمعاً بينه وبين ما دلّ على حلّية المطبوخ على الثلث . وثانيهما : أن يكون المراد به الباذق ، وهو الخمر المطبوخ الذي أحلّه أبو حنيفة ومن وافقه[18] . وهذا المعنى أنسب بالحديث وأوفق بما روي عنه (صلى الله عليه وآله) أ نّه قال : « أوّل ما يكفأ الإسلام كما يكفأ الإناء كفء الخمر » . قيل : وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : « يسمّونها بغير اسمها ، فيستحلّونها »[19] . ولعلّ المراد من تغيّر اسمها تسميتها بغير الخمر الذي قرن به التحريم في الكتاب ، فلاينافي ذلك كون الطلاء من جملة أسامي الخمر ، كما صرّح به أهل اللغة[20] ، على أنّ الطلاء لفظ مشترك ، وهو بأحد معنييه اسم للخمر دون الآخر ، فيصدق المتغيّر بإرادة غير الخمر منه . والحديث الثاني يحتمل وجهاً آخر ، وهو أن يكون إشارة إلى تحليلهم الأشربة المسكرة بتسميتها بغير اسم الخمر ، كالبتع ، والمرز ، والجِعة ، وغيرها ، تحرّجاً عن تسميتها خمراً ، مع شربهم إيّاها . وقد ذكر ابن الأثير في النهاية نحواً من ذلك في الحديث الأوّل[21] ، وهو لا يلائم تصريحه بكون الطلاء هو المطبوخ من عصير العنب . واختلف النقل عن ابن عباس في هذه المسألة ، فروي عنه تارة : « أنّ النار لا تحلّ شيئاً ولا تحرّمه »[22] ، واُخرى : « أنّ الذي يصير مثل العسل يؤكل ، ويصبّ عليه الماء فيشرب »[23] . وقد اُوّل كلامه الأوّل بما يرجع إلى الثاني ؛ لما روي عنه أيضاً : « إنّ رجلا سأله عن العصير ، فقال : أشربه طريّاً . قال : إنّي طبخت شراباً وفي نفسي منه شيء ، قال : أكنت شاربه قبل أن تطبخه ؟ قال : لا ، قال : فإنّ النار لا تحلّ شيئاً قد حرم »[24] . وهذا إنّما يصلح لتنزيل الجزء الأوّل من كلامه ، فأمّا قوله : « ولا تحرّمه » ، فلم يعلم الوجه فيه من ذلك ، ولعلّ المراد منه عدم التحريم بإصابة النار مطلقاً ، أو بنفس الإصابة وإن حرم بما يقترن معها من التغيير والإسكار . وإنّما أطلنا الكلام بذكر هذه الأقوال مع اتّفاق علمائنا في المسألة وتوافق رواياتهم المرويّة عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام)لأمر ما يظهر لك سرّه في المطالب الآتية . -------------------------------------------------------------------------------- [1]. الهداية 4 : 399 ، المغني والشرح الكبير 10 : 324 . [2]. انظر : الاستذكار الجامع لمذاهب فقهاء الأمصار 8 : 34 ـ 35 ، صحيح البخاري 4 : 25 ، كتاب الأشربة ، الباب 1 ـ 3. [3]. في المصدر : وباء . [4]. في المصدر : هل لك أن نجعل لك من هذا الشراب شيئاً لا يسكر . [5]. في المصدر : يتمطط . [6]. الموطّأ 3 : 96 ، باب نبيذ الطلاء ، الحديث 720 . [7]. السنن الكبرى ( للنسائي ) 3 : 241 ، الحديث 5227 ، مع اختلاف يسير . [8]. السنن الكبرى (للنسائي ) 3 : 240 ، الحديث 5226 . [9]. فتح الباري 10 : 63 ، بتفاوت يسير . [10]. نسبه في تبيين الحقائق 17 : 11 ، إلى أبي جحيفة والبراء ، وفي تعليق التعليق 3 : 224 ، إلى البراء ، ونسبه في المحلّى 7 : 497 ، إلى البراء وأنس وأبي جحيفة وجرير بن عبد اللّه وابن أبزى. ونقل عن الأعمش أنّ شريحاً كان يشرب الطلاء على النصف. [11]. لم نقف عليه . [12]. انظر : المحلّى 7 : 497 . [13]. انظر : شرح معاني الأخبار 4 : 214 . [14]. ورد في المصادر : عن عبيدة . [15]. السنن الكبرى ( للنسائي ) 3 : 247 ، وفيه : « أحدث الناس أشربة لا أدري ما هي ؟ وما لي شراب منذ عشرين سنة إلاّ الماء والعسل واللبن » . [16]. ما بين القوسين لم يرد في «ل» و «ش» . [17]. النهاية (لابن الأثير) 3 : 137 ، «طلا » ، مسند إسحاق بن راهويه 2 : 332 ، الحديث 809 . [18]. بدائع الصنائع 4 : 282 ، كتاب الأشربة . [19]. فتح الباري 10 : 52 ، الحديث 5267 . [20]. الصحاح 6 : 2414 ، «طلا» ، النهاية (لابن الأثير) 3 : 137 ، «طلا» ، القاموس المحيط 4 : 357 ، «طلى» . [21]. النهاية (لابن الأثير) 3 : 137 ، «طلا» . [22]. السنن الكبرى ( للبيهقي ) 13 : 80 ، باب الدليل على أنّ الطبخ لا يخرج .... ، الحديث 17872 ، مصنف ابن أبي شيبة 7 : 532 ، الحديث 24477 . [23]. مضمون الرواية . انظر : مصنف عبد الرزاق 9 : 254 ، باب الرجل يجعل الرب نبيذاً ، الحديث 17118 ، فتح الباري 10 : 64 ، باب الباذق . [24]. سنن النسائي : 1274 ، باب ما يجوز شربه من العصير ، الحديث 5740 ، مسند الصحابة في الكتب التسعة 29 : 253 ، مسند عبد اللّه بن عباس ، الحديث 233 .
|