Loading...
error_text
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مكتبة عامة
حجم الحرف
۱  ۲  ۳ 
التحميل المجدد   
موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: نصيرالدين الطوسي في عصر المغولي

نصيرالدين الطوسي في عصر المغولي

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً)([1])

لا شكّ في أنّ القرن السابع الهجري يعتبر من أصعب العصور التي مرّت على تاريخ إيران; بسبب ما لاقته من غزو المغول ووحشيّتهم، وخضوع البلاد الإسلاميّة لهم; ومنها إيران.

وقد أعمل المغول القتل والتدمير في البلاد الإسلاميّة، والمنطقة الوحيدة التي سلمت في تلك الأيام من جور المغول ودمارهم وقتلهم هي منطقة جنوب إيران، التي كانت خاضعة لحكم أتابكان فارس.

وقد أشار الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي إلى هذه الحقيقة، عندما مدح «أتابك أبو بكر بن سعد»; حيث قال:

سكندر به ديوار رويين و سنگ***بكرد از جهان راه يأجوج تنگ

ترا سد يأجوج كفر از زر است***نه رويين چو ديوار اسكندر است([2])

والعجيب في الأمر! أنّه مع جميع هذه الأوضاع التي طرأت على هذا القرن، فقد كان من القرون المفيدة لسائر البلاد الإسلاميّة; إذ تمّ فيه إبراز العديد من علماء الإسلام; الإيرانيّين و غيرهم الذين نبغوا في علوم الفقه والحكمة والهيئة والتاريخ والرسم والشعر; فقد برز في هذا القرن أمثال «المحقّق الحلّي» و «العلاّمة الحلّي» و «جلال الدين الرومي البلخي» و «الشيخ سعدي» و «الخواجة رشيدالدين فضل اللّه الهمداني» و «عطاملك الجويني» و «حمداللّه المستوفي» و «الخواجة حافظ الشيرازي»، وآخرون من الذين برز نجمهم في هذا العصر المظلم. ولاشكّ أنّ أعظم رجال الحكمة والرياضيّات والأخلاق في هذا القرن كان الخواجة أبو جعفر نصيرالدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسي، الملقّب بأستاذ البشر.

يعدّ المحقّق نصيرالدين الطوسي من أعظم الشخصيّات التي تركت أثراً كبيراً في تاريخ الإسلام، وبالأخصّ تاريخ إيران والتشيّع; بحيث يمكن عدّه أحد أبرز الشخصيّات وأفضلها في تاريخ الفكر الإسلامي; حيث يذكر في حقّه العلاّمة الأردبيلي في كتابه جامع الرواة: «انتهت رياسة الإماميّة في زمانه إليه، وأمره في علوّ قدره وعظم شأنه وسمو مرتبته وتبحّره في العلوم العقليّة والنقليّة ودقّة نظره وإصابة رأيه وحدسه وإحرازه قصبات السبق في مضمار التحقيق والتدقيق أشهر من أن يذكر، وفوق ما يحوم حوله العبارة، وكفاك في ذلك حلّه ما لم ينحلّ على الحكماء المتبحّرين من لدن آدم إلى زمانه رضي اللّه عنه و أرضاه».([3]) فقد كان رجلاً جامعاً للمعارف، ومطّلعاً على العلوم، ومحيطاً بأمور زمانه، لكنّه بقي مظلوماً لم يأخذ حقّه من البحث في العالم الإسلامي حتّى عصرنا هذا. وبما أنّ المحقّق الطوسي كان من المساعدين في القضاء على حكومة العباسيين، وبما أنّه كان مناهضاً للفكر الأشعري، فلم يعطه أهل العامّة حقّه ويتعاملوا معه بإيجابيّة، بل اعتبروه من أعداء الإسلام.([4]) ولسبب أو لآخر، لم يهتمّ به علماء الشيعة بالشكل المطلوب،([5]) والحال أنّ الحكيم الطوسي ـ بالإضافة إلى الخدمات العلميّة القيّمة التي أسداها للإنسانيّة ـ قام على صعيد السياسة العمليّة بالعديد من النشاطات الهامّة، والتي أعطت للمسلمين العزّة والكرامة، وخصوصاً لشيعة إيران. فقد سنحت الفرصة للخواجة نصير الدين الطوسي أن يتعاون بحنكة عالية مع هولاكو (السلطان المغولي السفّاك)، لكنّه لم يكن يعدّ من أعوانه، بل كان يريد من خلال التقرّب إليه أن يصنع منه إنساناً قويماً، ويجعله في خدمة الناس والدين; فقد طلب منه في البداية أن يولّيه شؤون الأوقاف، ثمّ من طريق الأوقاف أنشأ مرصد مراغة.

كما أعمل نفوذه عند «دربار إيلخاني» لإنقاذ العديد من أهل العلم والعلماء، وفي الوقوف أمام إتلاف الكثير من الكتب العلميّة والآثار النفيسة.

اشتهر الخواجة نصيرالدين الطوسي بين الشيعة كمتكلّم، والحال أنّه كان أحد كبار فلاسفة الإسلام وعظمائهم، بل كان يعدّ تلو ابن سينا في ذلك. كما أنّه أعاد إحياء الفلسفة المشائيّة بعد ابن سينا في إيران، والتي كانت في حالة أفول، وكانت أوّل محاولة للمزج بين المدرستين المشائيّة والإشراقيّة قد حصلت على يديه، كما أنّه دوّن مجموع آراء المتكلّمين الشيعة في كتاب «تجريد الاعتقاد»، وحاول في هذا الكتاب أن ينقّي المعتقدات الدخيلة من غيرها; معتبراً أنّ العقائد ينبغي أن تكون برهانيّة وعقليّة، وأنّ التي لا تكون كذلك ينبغي رفضها وتركها، لكنّه كان مضطرّاً أن يدخل في المسألة من باب البحث الكلامي، ثمّ يطرح المطالب الفلسفيّة من خلالها. وعليه، فهذا الكتاب، وإن كان كتاباً كلاميّاً، إلاّ أنّ أسلوب الخواجة نصير الدين فيه برهانىّ; إذ المتكلّم يعرض كلامه على أساس الجدل، والخطابة أحياناً، والحال أنّ الجدل يستند إلى المشهورات والمسلّمات، بينما نرى في هذا الكتاب أنّ الخواجة لايستند إلى ذلك أبداً، بل يسعى جاهداً أن يكون كلامه برهانيّاً.

اشتهر اسم المحقّق الطوسي في العصر الحاضر في علم النجوم، إذ لابدّ لأىّ باحث غربىّ أو فلكىّ أن يذكره كمؤسّس لأوّل مركز تحقيقات نجومىّ في العالم قبل ثمانمائة عام. وكان هذا المركز العلمي ـ لسنين متمادية، قبل أن تأخذ الدراسة شكلها الحالي ـ يعدّ المرجع الأساس والأدقّ لما يحتاجه علماء الصين وسائر البلاد الإسلاميّة والغربيّة، وكثيراً ما كانوا يعتمدون على ما يقدّمه من معطيات.

لم يتمّ التعرّف ـ حتّى الآن ـ على هذه الشخصيّة التاريخيّة الهامّة مع جميع ما قدمته من خدمات، بل يجب أن يُكتب حول علمه في الرياضيّات والنجوم والسياسة، كما يمكن لعلماء الاجتماع أن يدرسوا هذه الشخصيّة من منظار علم الاجتماع أيضاً. وكلّما أمعنا النظر في هذا الرجل سوف تظهر الجامعيّة العلميّة التي يتمتّع بها، واللطيف في المحقّق الطوسي أنّه لم يكن يمزج بين العلوم أبداً; بل كان في الكلام رجلاً متكلّماً، وفي الشعر شاعراً، وفي الرياضيّات عالماً رياضيّاً، وفي الفلسفة فيلسوفاً، وهكذا في السياسة; حيث كان سياسيّاً قديراً في زمن مليء بالتناقضات والفوضى السياسيّة. وكان عند بحثه في أىّ علم، يظهر وكأنّه لاخبر له عن غيره من العلوم من شدّة تضلّعه فيه.

لقد احتلّ الفيلسوف والمتكلّم العظيم الخواجة نصير الدين الطوسي مكانة رفيعة في هذا العلم في القرون الوسطى، والحقّ أنّه ينبغي على كلّ إنسان مثقف أن يطّلع جيّداً على حياة هذا الرجل العظيم وآرائه الفلسفيّة والسياسيّة.

يكتب المؤرّخ جرجي زيدان حول الخواجة الطوسي فيقول: «فزها العلم في بلاد المغول على يد هذا الفارسي، كأنّه قبس منير في ظلمة مدلهمّة».([6])

--------------------------------------------------------------------------------

[1] . البقرة(2): 269.

[2] . كليات سعدى (بوستان)، ص 9 (بالفارسيّة). المعنى: لقد بنى الإسكندر سدّاً من النبت والطين، فضاقت الدنيا في وجه يأجوج ومأجوج أما أنت فبنيت سدّاً للكفر من النحاس، لا من الطين كما فعل الإسكندر.

[3] . جامع الرواة، ج 2، ص 188.

[4] . يعتبر ابن القيم الجوزية (م 751 هـ) تلميذ أبو العباس أحمد بن تيمية (م 728 هـ) أحد العلماء السنّة الذين نسبوا الكفر والإلحاد إلى المحقّق الطوسي، وقد وصل به العناد والعداء اتّجاهه جعله لا يتوانى عن توجيه أىّ تهمة وافتراء لهذا الرجل العظيم; حيث يذكر في كتابه إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان:

«ولمّا انتهت النوبة إلى نصير الشرك و الكفر الملحد وزير الملاحدة، النصير الطوسي، وزير هولاكو، شفى نفسه من أتباع الرسول وأهل دينه، فعرضهم على السيف حتّى شفى إخوانه من الملاحدة واشتفى هو، فقتل الخليفة المستعصم والقضاة والفقهاء والمحدّثين، واستبقى الفلاسفة والمنجّمين والطبائعيين والسحرة، ونقل أوقاف المدارس والمساجد والربط إليهم وجعلهم خاصّته وأولياءه، ونصر في كتبه قِدَمَ العالم وبطلان المعاد، وإنكار صفات الربّ جلّ جلاله; من علمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره، (وأنّه لا داخل العالم ولا خارجه، ليس فوق العرش إله يعبد البتّة). واتّخذ للملاحدة مدارس، ورام جعل إشارات إمام الملحدين ابن سينا مكان القرآن، فلم يقدر على ذلك، فقال: هي قرآن الخواصّ وذاك قرآن العوام، ورام تغيير الصلاة وجعلها صلاتين فلم يتمّ له الأمر، وتعلّم السحر في آخر الأمر فكان ساحراً يعبد الأصنام. وصارع محمّد بن عبد الكريم الشهرستاني ابن سينا في كتاب المصارعة، أبطل فيه قوله بقدم العالم وإنكار المعاد ونفي علم الربّ تعالى وقدرته وخلق العالم، فقام له نصير الإلحاد وقعد، ونقضه بكتاب سمّاه مصارعة المصارعة. ووقفنا على الكتابين نصر فيه: إنّ اللّه تعالى لم يخلق السموات والأرض في ستّة أيّام، وأنّه لا يعلم شيئاً وأنّه لايفعل شيئاً بقدرته واختياره، ولايبعث من في القبور.» (إغاثة اللهفان، ج 2، ص 263، وشذرات الذهب، ج 5، ص 340، نقلاً عن ابن القيم الجوزية).

[5] . لعلّ أحد أهمّ أسباب ذلك هو الآثار والمؤلّفات التي تركها المحقّق الطوسي، حيث لم يترك من جملة ما ألّفه سوى كتاباً واحداً في الفقه هو كتاب جواهر الفرائض حول الإرث. من هنا فقد يكون عدم امتلاكه آراء فقهيّة في الأبواب المختلفة هو السبب في عدم طرح آرائه بين علماء الشيعة، وبقائه مهجوراً بينهم، وبالأخص في الحوزات العلميّة.

[6] . جرجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربيّة، ج 3، ص 234.

العنوان اللاحق العنوان السابق




جميع الحقوق محفوظة لموقع آية الله العظمى الشيخ الصانعي .
المصدر: http://saanei.org