موقع مكتب سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي مُدّ ظِلّه العالي :: مع السيدة ملك من هيئة الامم المتحدة
لقاء سماحة آية الله العظمى الشيخ الصانعي (دام ظله العالي)مع السيدة ملك من هيئة الامم المتحدة
الشيخ الصانعي: السلام عليكم
السيدة ملك: اهلاً وسهلاً
الشيخ الصانعي: وفقكم الله تعالى لما يحب ويرضى، وأسأله تعالى أن يـجعل مستقبلنا أفضل من حالنا، وأن اسماعنا وأبصارنا وأعيننا وأيدينا وأرجلنا وارثاً لنا، ففي دعاء الإمام زين العابدين عليه الصلاة والسلام: «اللهم اجعل اسماعنا وأبصارنا وارثاً لنا». أنا في خدمتكم.
السيدة ملك: نريد أن نسأل حضرتكم سؤالين: السؤال الاول: فيما يتعلق بوضع الإسلام الآن في هذا العالم الذي نحن فيه، بمعنى ان هناك هجمة شرسة جديدة جداً على الاسلام، ونحن نريد أن يكون الإسلام ديناً يرد على أسئلة هذا العصر ، فالكثير من الشباب (من الشباب المسلم) يسألون أسئلة لايقدر آباؤهم واُمهاتهم الرد عليها ، لأنهم لا يعلمون شيئاً عن ذلك، وفي نفس الوقت المؤسسة الدينية لا ترد على هذه الاسئلة. فمثلاً تسألني ابنتي وهي عالمة لها أبحاث ودراسات : لماذا شهادتي لا تقبل في المحكمة إلا كنصف شهادة الرجل الواحد، بينما الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب تكون شهادته مقبولة كشخص كامل. وأنا لا أقدر أن أرد على هذا السؤال. وهنا أيضاً الكثير من شباب الجيل الجديد الذي يحب إسلامه ويحب دينه ويحب هويته، ولا يرغب في أن يكون شيئاً آخر وهو ضد الغرب تماماً ولكنه في نفس الوقت لديه هذه الاسئلة، ونحن لا نقدر على الاجابة على تساؤلاته، وهذا يجعلنا في موقف ضعيف جداً. وها أنا أسألك ياسيدي كإمرأة مسلمة تفتخر بإسلامها ولديها أولاد، وتريد أن تربيهم بحيث تعرف كيف ترد على اسئلتهم؟
الشيخ الصانعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. في البداية أتقدم إليك وإلى أمثالك اللاتي يردن معرفة الإسلام ونشره بالشكر الجزيل ، وأدعو اللّه تعالى بأن يوفقنا وإياكن في هذا الأمر . وقد وعدنا اللّه تبارك وتعالى بذلك حيث قال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا). ولا يخفى أن نشر الإسلام ودفع الشبهات عنه جهاد في سبيل اللّه، لذا فإنّ اللّه تعالى هو عون كل من جاهد بحسب المذهب والفكر والعقيدة.
أما بالنسبة إلى ماذكرت، فإنني أوافقك تماماً في أنّه في هذا العصر هناك الكثير من التساؤلات والشبهات والمشاكل حول الإسلام في أذهان الشباب، وكذا في أذهان الكبار بل في أذهان بعض علماء الحقوق والاجتماع. وللأسف هذه الإشكالات ليست مطروحة عند المعاصرين من العلماء، ولم يلتفت إليها في السابق، ولذا لاتجد الإجابة عنها في الكتب القديمة.
أما العلماء والباحثون المعاصرون فبعضهم ليس لديهم الوقت الكافي للمطالعة والبحث في هذه التساؤلات ، والإجابة عنها . والبعض الآخر وإن كانوا قادرين على ذلك، إلا أن أسسهم الفكرية هي أسس القدماء والسابقين وحيث لم ترد هذه الإشكالات عند القدماء فلا يتعرض لها هؤلاء . ولا يخفى أن هؤلاء السابقين لهم حق وفضل علينا وعلى جميع المسلمين ولم يكونوا مقصرين. وكذا المعاصرون من العلماء، إلاّ أنّه يجب عليهم إعادة النظر والبحث في الكتاب والسنة مع الالتفات إلى هذه الإشكالات. وإني أحمد اللّه تعالى وارجو منه السلامة والعافية لجميع المؤمنين والمسلمين بل لجميع أبناء البشر، وأطلب منه تعالى بأن يوفقنا لدفع وحل هذه الإشكالات .
أما بالنسبة إلى ماذكرت ، فإنني اعتقد بحسب أبحاثي ومطالعاتي أنّه لايرد شيء من هذه الإشكالات على الإسلام; لأن الإسلام دين العدل، لكن لا على نحو الكلية بل منطبقا على موارده، فلا تمييز ولا ظلم في الإسلام، لا من حيث الذكورة ولا من حيث الاُنوثة، ولا من حيث المكان أو الـجغرافيا، ولا من حيث المذهب والملة، فجميع هؤلاء بحسب الحقوق الاجتماعية متساوون ، فالإسلام ليس متأخراً عن حقوق الإنسان المطروحة اليوم كما يدعي البعض ، لأنّه لايرضى بظلم حيوان أو دابة ( حيث جعل للدواب حقوقاً) فكيف يرضى بظلم الإنسان؟ فالذي توصلت إليه من خلال أبحاثي واجتهاداتي واستنباطي من الكتاب والسنة (لا خارجا عنهما لأنهما المعتمد لدينا في الإستنباط ) أنه لا ظلم حقوقيا ولا اجتماعياً في شيء من أحكام الإسلام .
وعلى سبيل المثال ماذكرت من إشكال إبنتك وأمثالها، من أنّه لماذا لاتعتبر شهادة النساء للنساء خاصة إذا كانت عالمة؟ بل تكون شهادة امرأتين عالمتين بمنزلة شهادة رجل واحد ولو كان جاهلاً أُميّاً.
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال والإشكال الهام، بإجابتين، الأول: أن اعتبار الشهادة في المحاكم المتداولة في العالم في أيامنا هذه، إنما هي بعنوان الأمارة والقرائن والشواهد، لا بعنوان الحجة والدليل المستقل. ولما كانت بعنوان القرينة فلا فرق بينها في القرينية بين الرجل والمرأة . فحينئذ تكون شهادة امرأة واحدة مثل شهادة رجل واحد ( من حيث القرينية) ، لا أن شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد . وهذا مثل قول الطبيب أو أي متخصص آخر ، فإنها جميعا قرائن وشواهد. و مثل قطرة الدم التي تكون شاهداً وقرينة على القتل مثلاً ، فإنها جميعاً تعد قرائن وشواهد لا أدلة وحججاً مستقلة.
فلا يأخذ القاضي ولا المحكمة بها من باب أنها حجة مستقلة، فيترك باقي الأدلة ويكتفي بها، بل يجب عليه جمع القرائن والشواهد قدر الإمكان حتى يوجب له العلم أو الاطمئنان . هذا حال الشهادة في عالمنا وفي حقوق الإنسان المتداولة. ولا يخفى أن الإسلام لا يفرّق في الشهادة بين الرجل والمرأة من تلك الجهة، فشهادة المرأة من حيث القرينية مثل شهادة الرجل، والإسلام يقرّ بذلك أيضا ولا يفرق بينهما، ولا يجعل قرينية شهادة الرجل أقوى من قرينية شهادة المرأة (بما هي هي)، بل قوة وضعف كل قرينة تكون بحسب قرينيتها. وعليه فلا اعتبار ولا وزن في المحاكم المتداولة في العالم بشهادة الإنسان بما هو إنسان ، بل بقوة قرينيتها، وقد يكون قرينية طيران الغراب في السماء أو قرينية قطرة الدم أقوى من شهادة الإنسان، وعليه فالعالم وإن يفتخر بالتساوى بين الرجال والنساء في الشهادة ، إلاّ أنّه غفل عن الإنسان وجعل قيمة شهادته كقيمة طيران الغراب (مثلاً) وهذه نقطة ضعف واضحة في علم الحقوق المتداول في العالم.
أما الإسلام فقد اعتبر شهادة المرأة مثل شهادة الرجل في كثير من المواضع، بل يمكن أن تكون قرينية شهادة النساء أقوى من الرجال ، وفي هذه الحالة يجب على القاضي الأخذ بها دون شهادة الرجل . أما المواضع التي اعتبر الإسلام شهادة المرأتين مساوية لشهادة الرجل الواحد (وهو الحق في الجملة) ، كما نص عليه كتاب اللّه تعالى : (وإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء). وهذه الآية نص على أن شهادة المرأتين تعادل شهادة الرجل الواحد.
ولا يخفى أن المقصود من الرجلين هو العدلان، وعليه فالإسلام جعل شهادة الرجلين العادلين حجة شرعية للقاضي وللمحكمة، بحيث إذا شهد رجلان عادلان بأن زيداً مثلاقتل عمراً ، فللقاضي أن يحكم بالقصاص من دون احتياج إلى قرينة أخرى (طبعاً إذا كانت شهادتهما مستكملة لجميع الخصوصيات كما سيأتي) . بل يكفي القاضي لإصدار هذا الحكم وجود رجلين عدلين يشهدان بذلك، فشهادة الرجلين العدلين بما هما رجلان عادلان معتبرة وحجة شرعية للقاضي والمحكمة، لا من حيث قوة قرينيتها . وهذا من ابرز الفروق بين باب الشهادة في الإسلام والحقوق المتداولة في العالم (في باب الشهادات).
ولا يخفى أننا بعد التحقيق في كتاب الشهادة، توصلنا إلى أن الأصل في الباب هو تساوي شهادة المرأتين العادلتين للرجلين العادلين، إذ لا فرق بينهما، فإن المناط في جميع ذلك هو العدالة والرؤية، ولا فرق بين عدالة المرأة وعدالة الرجل، وكذا بين رؤية المرأة ورؤية الرجل، فالأصل هو تساويهما في ذلك، فالمرأتان العادلتان إذا رأتا وشهدتا فإنهما كالرجلين العادلين إذا رأيا وشهدا، ولا فرق بينهما.
وعليه فمتقضى الأصل والقاعدة الفقهية الثابتة عندي، على ماحققته في كتاب الشهادات هو هذا ، إلاّ أنّه خرج منه موردان، وهذا غير مضر بحقوق المرأة ولا يوجب ظلمهن، بمعنى كون شخصيتهن أدنى مرتبة من شخصية الرجال .أحد هذين الموردين : هو باب الحدود العرضية، كالشهادة على الزنا نعوذ باللّه ، بل مطلق الحدود الإلهية كقطع اليد في السرقة، وحد الزنا، وحد المحارب الذي يجب نفيه من الأرض ، فإن شهادة النساء في جميع ذلك إما أن تكون غير حجة من رأس أو أن تكون شهادة اثنين منهنّ بمنزلة شهادة رجل واحد، ولا ظلم في ذلك.
السيدة ملك: كيف لا ظلم؟
الشيخ الصانعي: أما في الحدود فواضح، لأن بناء الشارع في الحدود لاسيّما العرضية على غمض العين وعدم الإظهار، أي عدم الإجراء ودرء الحدود بالشبهات . ولذا اعتبر في الشهادة على الزنا شهادة أربع رجال عدول على أنهم رؤوا المجامعة بأعينهم (كالميل في المكحلة ).
ولكن كيف يمكن أن يتحقق ذلك ؟ أي كيف يمكن أن يرى الرجل العادل، كإمام الجمعة أو الجماعة أو المجتهد، بعينه أن الرجل يزني بامرأة ثم يقف ويرى جميع الخصوصيات؟! هذا لا يتحقق، فلذا استشكل بعض الفقهاء بأن نظره قبل الشهادة حرام ، فإذا قام بذلك فإنه يكون قد سقطت عنه العدالة ، فكيف الجمع اذن؟
فأجاب البعض عنه بأن النظر للشهادة لا بأس به . فرد عليه، بأن الشهادة غير واجبة، ولو كان الشارع يريد ذلك لأوجبه. وعليه فإن الشارع لايريد إجراء الحد بل بناءه على الدرء ، فلذا لايتحقق النظر ، فلا تتحقق الشهادة في الحدود العرضية إلاّ في المجتمعات المنحلة أخلاقياً والعارية عن العفة ، كأن يقوم الرجال والنساء بهذا الفعل الشنيع في الشوارع، ويتفق مرور العادل كالعالم المجتهد عليهم فيرى ذلك صدفة. وأنت خبير بأنّ ذلك يصعب تحققه في العالم. وعليهيصعب تحقق الشهادة في الأمور العرضية، ولذا فإننا نقول : بأن الشارع لا يريد إجراء الحدود العرضية بالشهادة.
إما إجراؤها بالإقرار ، أي إقرار المجرم أربع مرات إقراراً عن وجدان ديني (لا بسبب الخوف أو التعذيب أو أي ضغط آخر) وهذا أيضا يصعب تحققه، فإن ژتحقق فلا وجدان دينياً ، فإن امرأة أتت علياً(عليه السلام) وقالت : إني زنيت فطهرني. فسأل من حوله عنها: أليست هذه المرأة مجنونة؟ أليست سفيهة؟ هل هي عاقلة؟ قالوا: نعم عاقلة . وقالت : إني عاقلة، فقال : إذهبي إذهبي. (بلا اخذ وثيقة وبلا سجن وبلا تعهد بالرجوع)، فإن الأمر بالذهاب دليل قوي على أنه لا يريد اجراء الحد، فذهبت ورجعت بعد مضي عام أو ستة أشهر، فقالت لعلي(عليه السلام) : إني زنيت فطهرني. فسأل علي(عليه السلام) عن إسمها وعن خصوصياتها (وهذه الأسئلة لإتلاف الوقت ولإيجـاد العذر ) ثم سألها: أو لست مجنونة؟ فإجابت : لست بمجنونة ولا سفيهة . ثم سأل علي(عليه السلام) الآخرين : هل هي مجنونة؟ فقالوا ليست بمجنونة بل عاقلة. فأمرها بالذهاب ثانياً (لعلها لا ترجع) . فذهبت ثم رجعت ثالثة وقالت : إني زينت فطهرني .ثم سأل علي(عليه السلام) مثل الأسئلة السابقة ثم قال: اذهبي فذهبت ورجعت رابعة ، وقالت : إني زنيت فطهرني لكني حامل، فقال علي(عليه السلام): إذهبي، بعد أن كرر السؤال عنها رابعة بأنها أليست بمجنونة؟ إذهبي حتى تضعي حملك، فذهبت ووضعت حملها ثم رجـعت إلى علي عليه الصلاة والسلام وطفلها على صدرها فقالت : وضعت حملي وقد أتيتك لتطهرني. فقال(عليه السلام): إذهبي حتى تربي هذا الطفل حتى يعرف البئر من الأرض وبعد ذلك اجري الحد عليك . فخرجت المرأة فرأها رجل (من جهّال المسلمين الذين قصدهم الخير) وسألها من أين تأتين ؟ فقالت كنت عند علي(عليه السلام) ثم أخبرته بقصتها. فرجعت ومعها ذلك الرجل: فلما رأى علي(عليه السلام) ذلك الرجل علم بالأمر فغضب واحمر وجهه من الغضب وامتلأت عيناه من الدم. فقال له الرجل: لم غضبت ياأمير المؤمنين ؟ فسأله علي(عليه السلام) عن سبب مجيئه. فقال الرجل: جئت لأضمن طفل هذه المرأة حتى تحدّ. فقال علي(عليه السلام) : كان ضمانك سبياً لغضبي. فالحدود العرضية إنما تجرى بشهادة أربعة عدول شهادة جامعة لجميع الخصوصيات، أو بالإقرار أربع مرات إقراراً نابعاً عن الوجدان الديني لا إثر التهديد أو الخوف أو غيرهما.
وفي باب الحدود العرضية كالزنا مثلاً، إذا شهد ثلاث شهود بأنهم رأوا بأعينهم أن رجلا يزني، وكان ذلك الرجل قد زنا حقاً، لكنهم لم يأتوا بالشاهد الرابع عند القاضي خلال فترة قصيرة ، فإنّ الإسلام يطلب من القاضي بأن يجلد كل واحد من هؤلاء الشهود ثمانين جلدة، وليس هذا الجلد جلد الافتراء لأنهم لم يكونوا مفترين بل هو جلد المصلحة، ليعلم الناس أن الإسلام لايريد الشهادة في الحدود العرضية ، وبناء على ذلك فإنّه سوف يتردد كل من يرى الزنا (ولو كانوا أربعاً ) بالإدلاء بشهادته; لأنّه يحتمل أنه إذا ذهب إلى القاضي وشهد في المحكمة قد لا يشهد احد هؤلاء الأربعة، فإذا لم يشهد فإنه سوف لا يجلد ثمانين جلدة، مضافاً إلى أنّ هذه الشهادة غير واجبة. وعليه فلما كان بناء الشارع في الحدود العرضية بل وفي غيرها، من الحدود الإلهية كالسرقة والقتل والمحاربة، على عدم إجراء الحدود بالشهادة وعلى الدرء بالشبهة، جـعلت شهادة امرأتين فيها بمنزلة شهادة رجل واحد، فكما ضيق الأمر على الرجال فلم تقبل شهادة رجلين اثنين بل اشترط في ذلك أربع رجال عدول، فكذلك ضيق على النساء فجعل في هذا الباب شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد، وهذا ليس تقليلاً لشأنهن ولا تنقيصاً لمنزلتهن، وكذلك الرجال، بل إنما هو تضييق في الأمر نفسه لهدف وصول الشارع إلى مقصده، وهو عدم اجراء الحدود العرضية، بل الإلهية بالشهادة. وقد يكون سر تضييق الشارع على النساء في هذه الأمور وعدم سماحه لدخولهن فيها، هو أنهن بالنسبة إلى العرض أولى من الرجال ، فالمرأة إذا ذهب عرضها ذهبت كل شخصيتها، لكن الرجل يمكن أن يذهب عرضه ولا تذهب كل شخصيته ، ولهذا جعل الشارع النساء في ضيق أكثر من الرجـال في هذا الأمر .
هذا هو المورد الأول الذي خرج من الأصل ، وجعل شهادة المرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد . أما المورد الآخر فهو ما ورد في كتاب اللّه تعالى في مورد الديون .
قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه اللّه فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق اللّه ربه ولا يبخس منه شيئاً فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا مادعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند اللّه وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب و لا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا اللّه ويعلمكم اللّه واللّه بكل شيء عليم ) فقد جعل تعالى شهادة المرأتين في الديون فيما إذا لم يكن هناك رجلان بمنزلة رجل واحد، لكنه تعالى علل ذلك لأن تضل إحداهما فتذكرها الأخرى ، وهذا ليس ظلماً للنساء ولا منقصة لمنزلتهن، بل لأن النساء في زمن نزول هذه الآية كنّ يجهلن أبسط مسائل الحساب والأعداد، فكان نسيانهن وخطأهن وجهلهن أكثر بكثير من الرجال، والحكم في مسألة الديون والحقوق المالية يتطلب درجة عالية من الاطمئنان، ولهذا جعلت شهادة المرأتين في ذلك الزمن بالنسبة إلى الديون بمنزلة شهادة الرجل الواحد، وذلك لإحراز درجة عالية من الاطمئنان ، ولان تضل إحداهما فتذكر احداهما الأخرى ، فاحتمال عروض الخطأ و النسيان للنساء كان وارداً جداً ، ولهذا علل هذا الحكم بهذه العلة، وإلاّ فمقتضى «العلة تعمم وتخصص» أينما لم يكن كذلك، أو إذا تغير الوضع عبر الزمن بأن صرن النساء عالمات بالحساب والأعداد، بحيث أوجبت شهادتهن درجة عالية من الاطمئنان لاتقل عن شهادة الرجال، فإنّه بمقتضى العلة في الآية تكون شهادتها مساوية لشهادة الرجال.
ومن الموارد المشابهة لذلك هو باب النكاح وخطبة العقد، فإن الرجال في الأزمنة السابقة كانوا اعلم من النساء بهذه الأمور، إلاّ أنّ النساء اليوم أصبحن اعلم من الرجال في هذه الأمور، لأنهن يجلسن عند العروس ويشهدن ويحطن بجميع الأمور المتعلقة بمراسم العقد والخطبة. ولهذا اعتبر شيخنا المفيد(قدس سره)في باب النكاح شهادة المرأتين العادلتين بمنزلة شهادة رجلين عادلين، لأن النكاح يكون لهن.
فتحصَّل مما مضى أنه في كل مورد يكون لعموم النساء نسيان أو خطأ أو جهل أزيد من الرجال تكون شهادة المرأتين بمنزلة الرجل الواحد، والعكس صحيح أيضاً، أي كل مورد يكون لعموم الرجال نسيان وجهل وخطأ أكثر من النساء يكون شهادة الرجلين بمنزلة شهادة امرأة واحدة بل الأمور التي يجهلها الرجال تماماً أو لايمكنهم العلم بها جيداً فإن شهادتهم لاتكون اصلاً مقبولة، فضلاً عن اعتبار شهادة واحد منهم بمنزلة شهادة إمرأتين، وذلك كالشهادة في الأمور المتعلقة والمختصة بالنساء ، فإن شهادة الرجال غير مقبولة فيها اصلاً. فأي تضييع لحقوق الرجال وهل يمكن أن يقال أن ذلك ظلم للرجال ؟ !
فتلخص مما ذكر أن الحكم في الآية معلل ، والحكم الوارد فيها مختص بالنساء في ذلك الزمن بدليل ذكر العلة. أما اليوم فقد صارت النساء (أي عموم النساء) عالمات بمسائل الحساب والرياضيات فضلاً عن العلم بالأعداد، وعليه تكون شهادة المرأتين بمنزلة شهادة الرجلين العادلين، فإن العلة تخصص الحكم بالأزمنة التي يكون جهل النساء ونسيانهن وخطأهن فيها أكثر من الرجال .
أما في غير ذلك فلا دليل على ثبوت الحكم. وحينئذ تكون شهادة النساء مساوية لشهادة الرجال قضاءً للأصل والقاعدة.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى شهادة النساء . نعم قد يتوهم مثل هذا في الإرث أيضاً ، حيث جعل سهم الرجل من الإرث ضعف سهم المرأة ( وللذكر مثل حظ الأُنثيين)، لكن هذا عين العدل وليس فيه أيضاً ظلم للنساء، وهو موافق تماماً لحقوق الإنسان . وسيأتي تفصيله في باب الإرث، ولا يمكنني الآن توضيح ذلك، بل نحتاج إلى فرصة اخرى ، لكن اكرر وأقول إن هذا الحكم عادل ومطابق لحقوق الإنسان وليس فيه أي ظلم للإنسان .
السيدة ملك: كيف؟
الشيخ الصانعي: لا أقدر على توضيح ذلك الآن بل احتاج إلى فرصة اخرى، لكن تذكري أنني أقول بالعدل في أحكام الإسلام، وجميع الإشكالات التي قد تطرأ عبر الأزمان، من الظلم والتمييز في أحكام الإسلام ، لها أجوبة وتفاسير كالإشكالات التي كانت تطرأ بالنسبة لباب الشهادات .
السؤال الثاني السيدة ملك: نحب ان نعرف رأيكم في مسألة تنظيم السكان، تنظيم الأسرة المطروحة حالياً والخدمات الصحية للأسرة وتنظيم النسل ... والخ ؟
الشيخ الصانعي: إن تنظيم النسل وتحديده أمر لا بأس به، وإني أراه واجباً فيما إذا تسبب كثرة السكان الأزمات الاجتماعية ، ممّا يؤدي إلى عدم امكان توفير الإمكانات لتربية الأطفال.وعليه فجميع طرق تحديد النسل وتنظيمه لا بأس بها في حد نفسها، لكن الإشكال في مقدمات بعض هذه الطرق مما يستلزم نظر الرجل إلى المرأة أو النظر إلى فرج المرأة، فهو حرام من هذه الجهة، وعليه يجب رفع حرمته بجهة أخرى .وأمّا اصل تحديد النسل المطبق في ايران ، فهو أمر ديني ومطابق للشريعة والفقه، والناس يقومون بذلك بوجدانهم الديني والاجتماعي لا بالإكراه أو التهديد أو السجن أو غير ذلك . التاريخ : 2004/12/07 تصفّح: 11868