Loading...
error_text
پایگاه اطلاع رسانی دفتر حضرت آیت الله العظمی صانعی :: کتابخانه عربی
اندازه قلم
۱  ۲  ۳ 
بارگزاری مجدد   
پایگاه اطلاع رسانی دفتر حضرت آیت الله العظمی صانعی :: خدمات المحقّق الطوسي

خدمات المحقّق الطوسي

يعدّ هجوم قوم متخلّفين كالمغول إلى البلاد الإسلاميّة ظاهرة تاريخيّة هامّة، وكان لها أصداء وعوامل خاصّة. والأهمّ في الأمر هو أن نعلم ما هو تأثير العلماء ـ وبالأخص المحقّق الطوسي ـ في الحدّ من المخاطر التي أنتجتها هذه الواقعة المؤسّفة، وتبديل التهديدات التي كانت تحيط بها إلى فرص وظروف ملائمة.

لم يكن هولاكو خان من أهل العلم، ولم يكن يأنس بالثقافة والفلسفة. وهنا تبرز موهبة الحكيم الطوسي، حيث استطاع أن يستفيد من هذه القوّة المدمّرة والخطرة في مجال العلم والتطوير الفكري والثقافي، وكان لهذه الاستفادة قيمتها الكبيرة.

وقد أدّى التصرّف الحكيم من قبل المحقّق الطوسي والمقام العلمي والفكري الذي يتمتّع به إلى أن اعتبره هولاكو من جملة علمائه العظام، لذا فقد سعى جاهداً أن يحافظ على حياته، فكان يصحبه في جميع أسفاره لهذا الغرض.

وفي هذه الأثناء صار لدى المحقّق الطوسي مقام عال، وأصبح ذا نفوذ عند هولاكو، خصوصاً بعد فتح بغداد. فقام المحقّق الطوسي باستفادة من تلك الموقعيّة التي حصل عليها عند هولاكو، فطلب منه منحه المناصب العلميّة، وبالفعل جعله هولاكو مشاوره الأعلى في هذه الأمور،([1]) فجعل مدينة مراغة في منطقة آذربايجان عاصمة له.

وقد وفّق المحقّق الطوسي ـ بتأثيره على فكر خان المغول ـ إلى إعمال استقرار أهدافه الإنسانيّة العالية، وفي ذلك يكتب صاحب فوات الوفيات:

«وكان للمسلمين به نفع، خصوصاً الشيعة والعلويّين والحكماء وغيرهم، وكان يبرّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم، وكان مع هذا كلّه فيه تواضع وحسن ملتقى».([2])

ويمكن أن نبحث الخدمات التي قدّمها المحقّق الطوسي ضمن أبعادها المختلفة بشكل مختصر فيما يلي:

1ـ الخدمات العلميّة

لقد سعى المحقّق الطوسي أن يتجنّب الدخول في حكومة المغول والتوزير فيها بشكل رسمي; وذلك لتتاح له الفرصة في إجراء الأبحاث العلميّة المختلفة. فأوّل نشاط علمي قام به هو أن أنشأ مرصداً في مراغة. وفي ذلك يكتب رشيد الدين فضل اللّه:

«بعد أن فتح هولاكو خان بغداد في شعبان من سنة 657 هـ ، أمر ببناء مرصد في الموضع الذي يراه مولانا الأعظم أستاذ البشر وسلطان الحكماء الخواجة نصير الدين الطوسي تغمّده اللّه بغفرانه; بهدف رصد النجوم. فاختار الخواجة الطوسي مدينة مراغة لبناء هذا المرصد العظيم.([3]) كما أصدر حكماً إلى صاحب ديوانه وخزانته بإعطاء الخواجة الطوسي كلّ ما يحتاج إليه، ولا يدعوا شخصاً أو شيئاً ممّا يحتاجه الطوسي إلاّ وبذلوه له».([4])

ثمّ أعطى دستوراً بجعل المحقّق الطوسي رئيساً لهذا المركز، وصرف له ما يحتاج شراءه من كتب نفيسة وقيّمة من مكتبات: ألموت وبغداد والجزيرة ودمشق والموصل وخراسان، ونقلها إلى مركز تحقيقات مراغة.

وقد ذكر ابن شاكر في فوات الوفيات:

«وكان ذا حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو، وكان يطيعه فيما يشير به عليه والأموال في تصريفه، وابتنى بمراغة قبّة ورصداً عظيماً، واتّخذ في ذلك خزانة عظيمة فسيحة الأرجاء، وملأها من الكتب التي نهبت من بغداد والشام والجزيرة حتّى تجمع فيها زيادة على أربعمائة ألف مجلّد».([5])

وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ من أهمّ بركات انخراط الخواجة نصير الدين الطوسي في العمل مع المغول، هو نجاحه في تبديل ثقافة القتل والنهب التي كانت سائدة بينهم في تعاملهم مع البلاد الإسلاميّة التي غزوها، إلى ثقافة العلم والحضارة; حيث سعى إلى إنقاذ ما تبقى من تلك البلاد بعد الزلزال العظيم الذي ألمّ بها، وتسييرها نحو التعالي والرقي. وبذلك عمل على سدّ الباب والقضاء على الفكر الضيق والنظر العدواني لدى المغول.

تلامذة المحقّق الطوسي ومعاونوه في مرصد مراغة

ينقل صاحب روضات الجنّات أسماء بعض أعوان وتلامذة المحقّق الطوسي في مرصد مراغة على الشكل التالي:

«وكان من أعوانه على الرصد من العلماء وتلاميذه جماعة، أرسل إليهم الملك هلاكو خان; منهم العالم الأعلم العلاّمة قطب الدين محمود الشيرازي، صاحب شرف الأشرف والكليّات، وهو فاضل حسن الخلق والسيرة، مبرّز في جميع أجزاء الحكمة، محقّق مدقّق مفيداً ومستفيداً في صحبة المحقّق الطوسي، ومؤيّد الدين العروضي الدمشقي، وكان متبحّراً في الهندسة وآلات الرصد، توفّي بمراغة فجأة في سنة أربع وستّمأة، وفخرالدين كان طبيباً فاضلا حاذقاً، ونجم الدين الكاتب القزويني المتقدّم إلى الأخلاطي، وكان فاضلا مهندساً متبحراً في العلوم الرياضيّة، ومحيي الدين المغربي وكان مهندساً فاضلا في العلوم الرياضيّة وأعمال الرصد، ونجم الدين الكاتب البغدادي، وكان فاضلا في أجزاء الرياضة والهندسة وعلم الرصد...».([6])

وكان مركز تحقيقات مراغة يقوم على أساس الأمور التالية:

1ـ إيجاد كليات جامعيّة لتعليم النجوم والزيج، وبناء مصانع لصنع وسائل الرصد، والعمل على تأسيس مركز تحقيقات حول علم النجوم في هذا المركز.

2ـ إنشاء مركز لترجمة الكتب المرتبطة بعلم النجوم والهندسة والرياضيات.

3ـ عمل دورات تدريبيّة للمحقّقين والعلماء; للوصول إلى أداء علمي واحد في التحقيقات.

4ـ إدراج النتائج الجديدة التي يتمّ الحصول عليها ونشرها في المجلات; وذلك بهدف نقل هذا العلم سريعاً إلى الآخرين.

وقد وضع لأعضاء الهيئات العلمية الذين كانوا يشتغلون معه رواتب على الشكل التالي:

الفلاسفة وعلماء الرياضيات، ثلاثة دراهم يومياً.

الأطباء، درهمين يومياً.

الفقهاء، درهم يومياً.

المحدّثين، نصف درهم يومياً.

وعلى هذا الأساس نشأ المرصد، ونشرت نتائجه العلميّة في غرب العالم.

2ـ الخدمات الفلسفيّة([7])

لقد واجه الحكيم الطوسي الكثير من الأفكار الفلسفيّة العميقة، وكان يعمل بشكل حثيث على تدبير الأمور ورفع المشكلات التي تعترضه. وقد أسدى للفلسفة خدمات جديرة بالاهتمام، سنشير فيما يلي إلى بعض منها:

لقد قدّم المحقّق الطوسي خدمة كبيرة خالدة لأصل الفلسفة الإسلاميّة ولبقائها:

الأولى: أنّ المحقّق الطوسي عاش في زمان كانت الفلسفة والعقائد الفلسفيّة المشّائيّة التي كان يرفع شعارها ابن سينا، تعاني فيه من هجمات ضروس من قبل أبو حامد الغزالي والفخر الرازي وتلاميذهما. فما كان من المحقّق الطوسي إلاّ أن هبّ للدفاع عنها والإجابة على إشكالات المخالفين لها، فأعاد إحياء الأفكار الفلسفيّة وأفكار ابن سينا من جديد.

الثاني: أنّ المحقّق الطوسي قام بشرح كتاب ابن سينا الفلسفي «الإشارات والتنبيهات»، عاملا على تنقية فلسفة المشّاء من أفكار أرسطو وأفلاطون. والحاصل أنّه نقّى الفلسفة الإسلاميّة من المطالب الالتقاطيّة، وقد أدّت حركة المحقّق الطوسي إلى ترسيخ الاستدلال العقلي والمتين.

كان المحقّق نصير الدين الطوسي ـ من الناحية الفلسفيّة ـ يعيش في زمان جرى فيه العديد من حركات النقد على الفلسفة، وكان على رأس تلك الحركات المناهضة للفلسفة أبو حامد الغزالي. لقد كان الغزالي أبرز الذين كتبوا في نقض الفلسفة من أساسها محاولا إقصاءها عن العالم الإسلامي; حيث دوّن كتاب «تهافت الفلاسفة» للقضاء على أساس الفلسفة وإطفاء شعلتها إلى الأبد.

وجاء بعده أبو الكريم الشهرستاني في كتاب «مصارعة الفلاسفة»، ثمّ فخرالدين الرازي; حيث قام بشرح كتاب «الإشارات» لابن سينا، وأثبت فيه الردّ عليه. والحال أنّ الفخر الرازي كان شخصاً منعدم النظير في تاريخ البشر; حيث كان لديه ذهناً وقّاداً وفكراً شكّاكاً مبدعاً، استخدمه في محاربة الفلسفة.

لقد نهض المحقّق الطوسي في ظلّ هذه الأجواء، وإن كان لدينا قبل هذه الفترة العديد من المخالفات للفلسفة، إلاّ أنّها كانت تأخذ طابعاً سياسيّاً وحضاريّاً. لكن بعد مجيء الغزالي والفخر الرازي تغيّرت المسألة، وأخذت منحى آخر.

توضيح ذلك:

كانت المطالب الفلسفيّة في الحقبة التي سبقت عصر المحقّق الطوسي تتعرّض لحملة من قبل الأشاعرة، وقد ألقت هذه الحملات بشكل تدريجىّ، أثرها على المجتمع الإسلامي ومعتقداته آنذاك. لقد سعى الخلفاء العباسيّون إلى ترسيخ المذهب الأشعري; باعتباره داعماً أساسيّاً لخلافتهم، فشجعوا على مواجهة الفلسفة ومخالفتها، حتّى أنّ الأفكار والمطالب الأشعريّة كانت تنتشر في ذلك الوقت يوماً بعد يوم، ويعدّ الفكر الأشعري ملائماً لفكر الناس البسيط، الذي كان يقضي فيهم على كلّ أشكال التفكير والسؤال أو النشاط الفكري والعلمي. من هنا، كان حكّام ذلك الوقت يسعون لنشر هذا الفكر، تحت ذريعة المحافظة على المصلحة العامة.

ومن هذا المنطلق، لقّب أبو حامد الغزالي بلقب «حجة الإسلام» في زمانه; لقدراته العجيبة على نشر الفكر الأشعري.

ولم يكن الفخر الرازي ـ كمتكلّم أشعري ـ أقلّ شأناً من الغزالي، بل كان نظيراً له في ذلك. وكان هذان الرجلان بالإضافة إلى تضلعهما في علم الكلام، مطّلعين على الفلسفة أيضاً. وقد كشف الغزالي عن اطّلاعه على الفلسفة عبر كتابه «مقاصد الفلاسفة». كما بيّن الفخر الرازي معرفته بالفلسفة من خلال كتابه «المباحث المشرقيّة» .

ومع تدوينهما لهذين الكتابين، كشفا النقاب عن أنّهما لم يكونا في مصاف الفلاسفة وحسب، بل عن كونهما من المخالفين والمعارضين الأشداء لها.

فقد عارض الغزالي الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة» في عشرين مسألة، حتّى أنّه كفّرهم في ثلاث مسائل منها. كما أنّ الفخر الرازي أشار في شرحه لكتاب ابن سينا «الإشارات والتنبيهات» إلى وجود إشكال على هذا الفيلسوف العظيم في بعض الموارد. لذا عُدّ هذا الكتاب جرحاً لكتاب الإشارات لا شرحاً له.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى هذه المسألة، وهي أنّ مخالفة هذين العالمين الأشعريين للفلاسفة بشكل عام، ولابن سينا بشكل خاصّ، إنّما كانت على أساس المرتكزات الدينيّة والمذهبيّة التي تعتمد بالدرجة الأساس على أصول ومبادئ المذهب الأشعري. ولم تمرّ تلك الحملة على الفلسفة والفلاسفة ـ التي قادها كلّ من الغزالي والرازي في فترة زمنية متقاربة ـ دون أن تترك أثراً.

وفي المقابل تصدّى عالمان عظيمان ومعروفان للدفاع عن الفلسفة في فترة زمنية متقاربة أيضاً; أحدهما أبو الوليد محمّد بن أحمد بن رشد، المشهور بـ «ابن رشد» ، الذي سطع نجمه غرب العالم الإسلامي في القرن السادس الهجري، ودوّن كتاب «تهافت التهافت» ردّاً على كلام الغزالي في كتاب «تهافت الفلاسفة». والآخر نصير الدين محمّد بن محمّد الطوسي، الذي لمع في القرن السابع في شرق البلاد الإسلاميّة، و دوّن شرحاً على كتاب «الإشارات والتنبيهات»، دافع فيه دفاعاً قويّاً عن المواضع الفلسفيّة التي أشكل فيها الفخر الرازي على ابن سينا، ورد فيه جميع تلك الإشكالات التي كانت نابعة من النظرة الكلاميّة والأشعريّة التي يتمتّع بها الرازي.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول بأنّ دفاع هذين العلمين العظيمين في العالم الإسلامي دفاع يستحقّ التقدير والتنويه.

وعلى كلّ حال، فقد كان دفاع كلّ من هذين العلمين في موضع مختلف عن الموضع الآخر; حيث عمل ابن رشد على الإجابة على ما خالف فلسفة أرسطو من فكر الغزالي، فقام ـ في الوقت ذاته ـ بردّ الموارد الفلسفيّة التي خالف فيها ابن سينا أرسطو، واعتبرها باطلة. بينما اقتصر المحقّق الطوسي في شرح الإشارات وسائر كتاباته، على الدفاع عن المطالب الفلسفيّة العامّة، حتّى لو لم تكن موافقة لفكر أرسطو. لذا اعتبر دفاع المحقّق الطوسي بمثابة الخاتمة لتلك الحملات الشعواء التي كانت تقاد على الفلسفة، فاتحاً الطريق أمام المفكّرين وأهل النظر بذلك.

لكن ما يبعث على الأسف، هو أنّ لقب المدافع عن الفلسفة اختصّ بابن رشد فقط، والحال أنّه من الواضح أنّ ما لم يستطع أن يحقّقه ابن رشد في جوابه، ظهر بوضوح في كلام المحقّق الطوسي.

3ـ تولّي أمر الأوقاف

من جملة الخدمات الهامّة التي أسداها المحقّق الطوسي، هي توليّه وتنظيمه أحد أهمّ موارد الدخل الاقتصادي للبلاد; وهي الأوقاف. فقد أرسل وكلاء عنه إلى المدن والقرى للنظارة على الأوقاف وتحديد مصارفها.([8])

ولو لم يكن يولّي المحقّق الطوسي أهميّة لهذا المركز الاقتصادي الهام، لكان من الممكن أن تتلاشى هذه الأوقاف بشكل كامل، ويستولي عليها المغول. وقد استطاع المحقّق الطوسي من خلال الموارد التي تحصل من هذا المركز، أن يقوم ـ بالإضافة إلى تأسيس المركز العلمي والتحقيقي ـ بتأمين مصاريف العلماء من مختلف المذاهب والنحل، ومن كافّة المناطق.

4ـ محافظته على العلماء وتأمين الحماية لهم

لقد تأثّر خان المغول بشكل تدريجّي ـ وإثر معاشرته ـ بآراء المحقّق الطوسي، وفي ذلك يكتب محمّد بن شاكر:

«وكان يعمل الوزارة لهولاكو من غير أن يدخل يده في الأموال، واحتوى على عقله حتّى أنّه لا يركب ولا يسافر إلاّ في وقت يأمره به».([9])

كان لدى المحقّق الطوسي ـ بعد غزو بغداد ـ مكانة خاصّة عند هولاكو; بحيث إنّه غدا ملجأ لجميع الشخصيّات الإسلاميّة في ذلك الحين.

ولم تتّصف تلك الأفعال التي قام بها المحقّق الطوسي بالعظمة بسبب قدرته العلميّة فحسب، فإنّه حتّى لو فرضنا أنّه لم يقم بها لكان علمه وفضله ظاهراً لجميع العلماء، بل يكمن ذلك في قدرته ومهارته وحكمته في السيطرة على عقل هولاكو، وتبديل ذاك الرجل من إنسان دموي ومجرم ومحبّ للتدمير والتخريب وقتل عباد اللّه، إلى إنسان مصلح إجتماعي وداعم للثقافة والعلوم، وتحويله من شخص مدمّر للحضارة إلى إنسان مشيّد لصرحها وداعم للعلم والتطوّر بكلّ ما أوتي من قدرة. وقد تهيأت الأرضيّة إلى حدّ جعل المغول ينصهرون في الثقافة والحضارة الإسلاميّة; بحيث سيطر الإسلام على وجودهم، ومن ثمّ أعلن الإسلام الدين الرسمي في إيران منذ سنة 694 هـ .

كان الحكيم الطوسي يعتمد في تدبيره للأمور وحلّه للمشكلات على المبادئ العظيمة والفكر العميق; حيث أدرك جيّداً أنّ التغلّب على المغول و قادتهم الذين لا يعرفون الرحمة والثقافة والفكر ليس أمراً سهلا، إلاّ أنّه كان يعلم بأن تقدّم العلم والفلسفة ورفع مستوى المعرفة لدى عامّة الناس، لن يدع مجالا للجهل والتخلّف بين عموم المجتمع.

لقد كان الحكيم الطوسي على معرفة كاملة بطريقة تفكير زعيم المغول وكيفيّة تحريك عواطفه وإحساساته، وكان يعلم جيّداً مدى تعلّقه بعلم النجوم والمسائل المرتبطة به، وأوضاع النجوم وكيفيّة حركتها وحركة الكواكب، لهذا السبب انتهز هذه الفرصة، وطرح عليه ضرورة جمع الكتب والرسائل المرتبطة بعلم النجوم، فما كان من هولاكو خان إلاّ أن أبرز الرضا والسرور بذلك. كما طلب الحكيم الطوسي منه التصدي لأمور الأوقاف وتولّيها على امتداد البلاد الإسلاميّة، وبعد أن وافق زعيم المغول على طلبه، قام الطوسي بدعوة جميع العلماء والمفكّرين الكبار وعلماء الرياضيات والنجوم والهيأة إلى مدينة مراغة للمشاركة في بناء مرصد في هذه المدينة.

ولم يكتف المحقّق الطوسي بذلك، بل كان يعلم جيّداً أنّ الفكر العميق والمسائل العقليّة قد زويت عن عامّة الناس، وأنّ المجتمع الإسلامي قد ابتلي بالانحطاط الفكري والثقافي; حيث كان المسيطر على المدارس العلميّة في ذلك الزمان هو الجمود على ظواهر الأحاديث، والانشغال بالأبحاث الكلاميّة الأشعرية التي لا طائل منها.

لذا فقد عزم المحقّق الطوسي على رفع هذا الانحطاط، والحدّ من الفكر التقليدي والسلفي وتحويله إلى الحياة العقليّة والفكر الصحيح والمنطق السليم في الأمور. وبعبارة أخرى يمكن القول: بأنّه قام بثورة فكريّة وثقافيّة، واستطاع بذلك أن يحافظ على الأسس الفكريّة والثقافيّة التي كانت لدى الناس قبل غزو المغول وحربهم المدمّرة.

وقد أدّت الثورة الفكريّة والثقافيّة التي قام بها المحقّق الطوسي إلى تغيير أفكار الكثير من الناس، والتي ظهرت ثمرتها بعد وفاة هولاكو خان سنة 663 هـ في إعلان حاكم المغول إسلامه، ليس هذا فحسب، بل إنّه أمر جميع المغول بأن يدخلوا في الدين الإسلامي المقدّس. وبذلك استطاع الشعب الذي غُلب في الحرب ونهبت أرزاقه أن يكون هو الغالب من الناحية الفكريّة والثقافيّة، عبر إظهار الطريق الصحيح والقويم لهم.

وقد وصل فعل المحقّق الطوسي إلى حدّ أنّه طلب من هولاكو، أن يرسل وفداً إلى البلاد المجاورة، ويطلب من العلماء الذين فرّوا من جور المغول إلى أربيل والموصل والجزيرة والشام أن يعودوا إلى إيران، وأن يطلب من علماء تلك البلاد أيضاً المجيء إلى مراغة والمشاركة في مركز أبحاثها. فاختار هولاكو فخرالدين لقمان بن عبداللّه المراغي، الذي كان شخصاً ذكيّاً وفطناً، واستطاع بحسن تدبيره أن يعيد العديد من العلماء الذين فرّوا إلى البلاد العربيّة إلى مدنهم، وبذلك يكون لهذا الرجل حقّ كبير في ميدان العلم والمعرفة.

من المعروف أنّ المحقّق الطوسي سعى جاهداً لنجاة الكثير من العلماء العظام من بطش المغول، منهم ابن أبي الحديد المعتزلي وأخوه; حيث كان ابن أبي الحديد وأخوه موفّق الدولة معتلقين لدى المغول، لكنّهما نجوا من الموت المحتم عبر وساطة قام بها المحقّق الطوسي مع المغول، كما أنّ توزير الخواجة شمس الدين محمّد، وتسلّمه منصب صاحب الديوان ـ بعد غزو بغداد ـ على العراق وخوزستان من قبل هولاكو وآباقا خان، وكذا تسلّم أخيه عطا ملك الجويني، لم يكن بعيداً عن تأثير المحقّق الطوسي. والدليل على ذلك هو أنّه بعد وفاة المحقّق الطوسي جرى إعمال القتل والتنكيل والتهجير لهذه العائلة بشكل مثير للشفقة.

ومن جملة الخدمات التي أسداها المحقّق الطوسي، هي فرض احترام عطا ملك الجويني السني للكثير من العلماء الشيعة; من قبيل ابن ميثم البحراني مؤلّف شرح نهج البلاغة، وتنصيب بهاء الدين علىّ بن عيسى الأربلي صاحب « كشف الغمّة » في ديوان بغداد في عهد عطا ملك.([10])

كما عمل المحقّق الطوسي على تقوية شيعة الحلّة، وقام في سبيل ذلك بالذهاب إلى هناك وتفعيل مراكز التشيّع فيها، والتواصل مع علمائها، والمشاركة في بعض دروسهم; كدرس المحقّق الحلّي. حيث أضفى ذلك حيوية على تلك الدروس. حتّى غدت حركته هذه بمثابة دعوة لشيعة العراق للعمل على إحقاق حقوقهم. وبالفعل، فقد طلب أحد موظّفي الديوان من هولاكو أن يرسل مائة جندي لحراسة مقام الإمام علىّ(عليه السلام) والشيعة في النجف، وأجابه الأخير إلى ذلك.

والحاصل، أنّ نجاة العديد من العلماء والمفكّرين كان بمساعي المحقّق الطوسي، لذا قاموا بالتواصل معه من أقاصي البلاد وأدانيها، بل قام المحقّق الطوسي بالتواصل معهم أحياناً، وتولّوا بواسطته المناصب في الديوان والمجالات العلميّة والدينيّة، فنهضوا جميعاً بإعادة إعمار البلاد.([11])

5 ـ التشيّع وحفظ الشيعة ([12])

من أهمّ الخدمات التي أسداها المحقّق الطوسي هو أنّه عمل على تغذية التشيّع في إيران، حيث كان شعب إيران قد أسلم بعد فتح فارس على يد الخليفة الثاني، وتوالت العديد من الحكومات السنية التي هيمنت على هذه البلاد. لذا كان الإيرانيّون في البداية من مخالفي المعتقدات الشيعيّة.

ومع غضّ النظر عن منطقة طبرستان وبعض مناطق فارس والأهواز وشوش... كانت غيرها من المناطق الإيرانيّة تحت حكم زعماء من المذهب السني.

وقد استمرّت الأمور على هذه الحالة، إلى أن أثمرت جهود المحقّق الطوسي في استمالة هولاكو خان إلى مبادئ التشيّع، فتمّ نشر التشيّع في هذه البلاد.

بعد أن تنفذ المحقّق الطوسي بشكل تدريجىّ في السلطة المغوليّة، استطاع أن يوجد علاقة صداقة بين الشيعة والمغول. وبالرغم من أنّه عمل على مراعاة وضع الشيعة بشكل كامل، نرى أنّه في الوقت ذاته كان يحسن إلى الجميع، كما كان يسعى للتنسيق مع جميع الأطراف; كي يضع موارد الوقف في مصارفها المقرّرة من قبل الواقف. وبالرغم من أنّ المحقّق الطوسي كان يتمتّع بالقدرة والسلطة، إلاّ أنّه كان شخصاً متواضعاً ومحبّاً للآخرين في تعامله معهم. كما أنّه كان صادقاً وصلباً في مسألة الدين والاستقامة، وهذا ما يظهر من علاقته بالأئمّة الأطهار(عليهم السلام) عبر كتابه «التولّى والتبرّى»، وكتاب «في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام»; حيث بدأ كلامه في كتاب «التولّى والتبرّى» بعد ذكر اللّه والصلاة والسلام على رسوله وأهل بيته على الشكل التالي:

«كلّ من يريد أن يكون ذا دين، لابدّ له من أمرين: إحداهما التولّى، والآخر التبرّى، كما ورد: الدين هو الحبّ في اللّه والبغض في اللّه».([13])

ومن جملة الخدمات التي قدّمها المحقّق الطوسي في هذا المجال، الأدعية والسلام التي ذكرها في حقّ الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) ، والتي عرفت في كتب الأدعية باسم «الأربعة عشر معصوماً عند المحقّق الطوسي». وكم هو جميل أن يذكر خصوصيات كلّ إمام عند كلامه عنه. فمثلا عندما يتحدّث عن الأوصياء الإلهيين وخاتمة حجج اللّه، درر الدهور وخلاصة الكتاب المأثور، سيف الإله المسلول ومولى الزمان الإمام الحجّة بن الحسن العسكري(عليه السلام) ، يقول: «اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم وَزِد وَ بارك عَلى صاحِبِ الدَّعوَةِ النَّبَوِيَّةِ وَالصَّولَةِ الحِيدَرِيَّةِ وَالعِصمَةِ الفاطِمِيَةِ وَالحِلمِ الحَسَنِيَةِ وَالشُّجاعَةِ الحُسَينِيَّةِ والعِبادَةِ السَّجّادِيَّةِ وَالمَآثِرِ الْباقِرِيَّةِ وَالآثارِ الجَعفَرِيَّةِ وَالعُلُومِ الكاظِمِيَّةِ والحُجَجِ الرَّضَوِيَّةِ وَالجُودِ التَّقَوِيَّةِ وَالنِّقاوَةِ النَّقَوِيَّةِ وَالهَيبَةِ العَسكَرِيَّةِ والغَيبَةِ الإِلهِيَّةِ... ».([14])

وعلى الرغم من أنّ المحقّق الطوسي كان يسعى لترويج مبادئ الشيعة، ويعمل على نصرة التشيّع بلسانه وقلمه، إلاّ أنّه كان يحترم جميع المذاهب والفرق الإسلاميّة الأخرى ويتعامل معها بشكل لائق، وكان يحاول جاهداً أن يدفع المشكلات والمصاعب التي تواجه المسلمين جميعاً، مبتعداً في ذلك عن التعصّبات المذهبيّة. بل كان تابعاً للحقّ والحقيقة دائماً. ومع ذلك، فقد نعته بعض الناس بعدوّ الإسلام، معتقدين بأنّ قتل هولاكو للناس كان بسعيه وتأييده; كما ذكر «ابن تيمية» و «ابن القيّم الجوزية» . ولكن ـ وكما تقدمت الإشارة إليه سابقاً ـ فإن ذلك بعيد كلّ البعد عن الواقع.

وأمّا غير هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون من المتعصّبين ويرون الشيعة أعداء لهم ـ كالمؤرّخين الآخرين ـ فقد وصفوا المحقّق الطوسي بأنّه كان رجلا متديّناً ومؤمناً ومعروفاً بالتقوى ونصرة الحقّ والحقيقة، بل كتب بعضهم بأنّ وجوده كان مؤثّراً في حفظ أرواح المسلمين وأموالهم أثناء غزو بغداد، واستطاع من خلال الموقعيّة التي كان يتمتّع بها أن يقدّم خدمات جليلة لأهل بغداد، وخاصّة الشيعة والعلماء والحكماء وغيرهم، كما استطاع أن ينقذ ما لا يحصى عدده من سطوة جيش المغول الدموي.

وهذا ما يقرّ به محمّد بن شاكر والصفدي ـ اللذان تقدّم نقل كلامهما ـ وهما من المؤرّخين السنة، حيث إنّهما يذعنان بعظمة وعلم وحلم المحقّق الطوسي.

قبل سقوط بغداد، كان شيعة الحلّة يأتمرون بإمرة العلماء، كالمحقّق الحلّي وسديد الدين يوسف والد العلاّمة الحلّي وغيرهم من العلماء، وعندما كان جيش المغول في همدان يستعدّ للحملة على بغداد، أيقن علماء الحلّة بأنّ النصر سيكون حليف المغول في هذه الحملة; بناء على ما أخبر به أمير المؤمنين(عليه السلام) في كلام له في نهج البلاغة، من أنّ المغول سيدخلون الزوراء وينهون حكم بني العباس([15]) فرأوا أن يرسلوا وفداً إلى خان المغول لأخذ الأمان منه. وبالفعل فقد وافق خان المغول على هذا العرض،([16]) وكان المحقّق الطوسي هو الواسطة في عمليّة المصالحة هذه وأخذ الأمان. لذا قام أهل الحلّة في سنة 658 هـ بتسليم المدينة لهولاكو دون حرب وإراقة دماء. وبسبب هذه العلاقة الحسنة أصدر إيلخان أمراً بضرورة المحافظة على العتبات المقدّسة في العراق، وأرسل مائة جندي من المغول لحراسة مقام الإمام علىّ(عليه السلام)، وصار ذلك سبباً لتهيئة الظروف المناسبة لتفعيل نشاط العلماء الشيعة.([17])

وكان السيّد رضي الدين علىّ المعروف بـ «السيّد ابن طاووس» صاحب « كشف المحجّة » ، يعيش في بغداد في تلك الفترة، وابن طاووس هذا من علماء الشيعة العظام، ومن أصحاب الكرامات المعاصرين للمحقّق الطوسي، كما كان على علاقة وطيدة بابن العلقمي الوزير الشيعي للمستعصم العباسي، وكان قد جاء بغداد بناء على طلبه، وسكنها مدّة خمسة عشر عاماً. ولم يكن يقبل السيّد ابن طاووس بالعروض التي قدّمت إليه بتولي أىّ منصب إجرائي في تلك الحكومة، حتّى أنّه لم يقبل نقابة الطالبيين في عصره،([18]) لكن عندما رأى السيّد ابن طاووس أنّ حملة المغول على بغداد صارت أمراً حتميّاً، طلب مراراً من الخليفة أن يحقن دماء المسلمين، بأن يذهب إلى المغول ويتوسّط عندهم في حقن الدماء، لكن رفض الخليفة ذلك حال دون قيامه بهذا الأمر، إلى أن سقطت بغداد في يد المغول. وكان من جملة من قتلهم المغول في تلك الحملة أخو ابن طاووس; السيّد شرف الدين. وقد ذكر السيّد رضي الدين ابن طاووس هذه الحادثة في كتابه « الإقبال »، بأنّه في اليوم الثامن والعشرين من محرم سنة 656 هـ فتح هولاكو بغداد، وأنّه كان في منزله في منطقة «المقيديّة» في حالة من الخوف والهلع.

ونُقل أنّه بعد سقوط بغداد، أولى هولاكو منصب النقابة للسيّد ابن طاووس، ولكنّه في البداية لم يقبل بها أيضاً، كما لم يقبل بها في زمن العباسيّين، إلاّ أنّ المحقّق والحكيم الطوسي نصحه بأنّه قد يعرض حياته للخطر إن أصرّ على رفضه النقابة، فما كان منه إلاّ أن قبل بها مرغماً، ونصب في سنة 661 هـ نقيب نقباء البلاد الإسلاميّة ضمن احتفال مهيب. وبقي في هذا المنصب إلى نهاية عمره; أي إلى سنة 664 هـ .

يكتب السيّد ابن طاووس في هذا الصدد:

«وبعد سنة، في العاشر من صفر، استدعاني هولاكو وفوّض إليّ نقابة العلويّين وأمر العلماء والزهاد، واستطعت بذلك أن أحقن دماء العديد من الأصدقاء والأرحام والإخوة الدينيّين، وهذا من الموارد التي أفتخر بها، ولا أنساها ما دمت حيّاً».([19])

وعلى هذا الأساس، يكون المحقّق الطوسي بأسدائه هذه الخدمة الكبرى للسيّد ابن طاووس قد دفع عنه خطر الموت، كما أنّه استطاع أن يرفع الكثير من المصائب والبلاء عن العديد من إخوانه المسلمين.

ومهما يكن من أمر، فقد حاول المحقّق الطوسي أن يستغل حاجة هولاكو إليه، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكي عالم بالنجوم، فعزم على كسب ثقته واحترامه، وكان له ما أراد، وصار له من ذلك سبيل لإنقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها، كما استطاع أن ينجي من القتل الكثيرين ممّن كانوا سيُقتلون.

وتطّلع نصير الدين فرأى أنّ المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حدّ أصبح العلم عندهم قشوراً لا لباب فيها، وأنّهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدّهما، وحُرِموا ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حثّ عليها الدين العظيم، وانصرفوا عن العلوم العمليّة انصرافاً تاماً. فأعلن افتتاح مدارس لكلّ من الفقه، والحديث، والطب، والفلسفة، وتولّى الإنفاق على طلاّب هذه المدارس، الأمر الذي شجع الكثيرين على الإقبال عليها. وانتهى الأمر به أن أنشأ جامعة علميّة كبرى في مراغة، استقطبت إليها العديد من العلماء والمكتبات في العالم الإسلامي.([20])

كلام حسن الأمين في مستدركات أعيان الشيعة

قد يقال بأنّ التعبير الأفضل والأكثر شموليّة الذي جاء في ترجمة الحكيم نصيرالدين الطوسي هو الذي صدر عن السيّد حسن الأمين في (مستدركات أعيان الشيعة) حيث أدّى حقّ المطلب بالنسبة إلى هذه الشخصيّة العلميّة الكبيرة، فبعد بيان وتمجيد للدور المؤثّر للمحقّق الطوسي في المجالات المختلفة وتأثيره العلمي والعملي في المجتمعات العلميّة الإسلاميّة قال:

جمع نصير الدين الطوسي إلى العلم الواسع العقل الكبير ، فتريك سيرته رجلاً من أفذاذ الرجال لا يمرّ مثله كلّ يوم . وتشاء الأقدار أن تعده لمهمّة لا ينهض لها إلاّ من اجتمعت له مثل صفاته : علم وعقل وتدبير وبعد نظر ، فكان رجل الساعة في العالم الإسلامي ، هذا العالم الذي كان مثخناً بالجراح . كانت مهمّة الطوسي من أشقّ المهمّات ، وكانت أزمته النفسية من أوجع ما يصاب به الرجال ، فإنّه وهو العالم الكبير ذو الشهرة المدويه بين المسلمين ، يرى نفسه فجأة في قبضة عدوّ المسلمين ، ويرى هذا العدوّ مصرّاً على أن يبقيه في جانبه ويسيره في ركابه . وإلى أين يمشي هذا الركاب ؟ أنّه يمشي لغزو الإسلام في دياره والقضاء عليه في معاقله ، فهل من محنة تعدل هذه المحنة ؟ إنّ أقلّ تفكير في التمرّد على رغبة القائد المغولي سيكون جزاؤه حدّ السيف ... وأنّني لأتخيّل الطوسي متأمّلاً طويل التأمّل، مطرقاً كثير الإطراق ، لقد كان يعزّ عليه أن يذهب دمه رخيصاً وأن يكون ذلك بإرادته هو نفسه ، فلو أنّ سيفاً من سيوف المغول الجانية أودى به فيمن أودى بهم في رحاب نيسابور وسهول إيران لكان استراح . أما الآن فلن يستسلم للقدر الطاغي وسيثور على حكم الزمن الغاشم . كان الطوسي ذا فكر منظّم، يعرف كيف يخطّط ويدبّر، وهو في ذلك آية من الآيات ، وقد أدرك أن النصر العسكري على المغول ليس ممكناً أبداً، فقد انحلّ نظام العالم الإسلامي انحلالاً تامّاً لم يعد معه أمل في تجميع قوّة تهاجم المغول وتخرّجهم من دياره ، وكانت البلاد المحتلّة أضعف من أن تفكّر في ثورة ناجحة . على أنّ الغرب الإسلامي كان لا يزال سليماً، وكانت مصر هي القوّة الوحيدة التي تتّجه إليها الأنظار ، وقد استطاعت مصر أن تذيق المغول مرارة الهزيمة وأن تردهم عنها ، ولكنّها لم تكن مستطيعة أكثر من ذلك ، فمهاجمة المغول فيما احتلوه من بلاد بعيدة وإخراجهم من تلك البلاد كان فوق طاقة مصر . وفكر نصير الدين طويلاً، فأيقن أنّه إذا تمّ للمغول النصر الفكري ، بعد النصر العسكري ، كان في ذلك، القضاء على الإسلام ، وها هو يرى بأمّ عينيه الكتب تحرق والعلماء يقتلون ، فماذا يبقى بعد ذلك ؟ ... لقد استغل حاجة هولاكو إليه ، وحرصه على أن يكون في معسكره فلكىّ عالم بالنجوم ، فعزم على كسب ثقته واحترامه فكان له ما أراد ، وصار له من ذلك سبيل لانقاذ أكبر عدد من الكتب وتجميعها ، كما استطاع أن ينجّي من القتل الكثيرين ممّن كانوا سيقتلون . ولما استتب الأمر لهولاكو خطأ نصير الدين خطوته الأولى ، وكانت هذه المرّة خطوة جبّارة فقد أقنعه بأن يعهد إليه بالإشراف على الأوقاف الإسلاميّة والتصرّف بمواردها بما يراه ، فوافق هولاكو . وتتّطلع نصير الدين فرأى أنّ المسلمين كانوا قد وصلوا من الانحلال الفكري إلى حدّ أصبح العلم عندهم قشوراً لا لباب فيها، وأنّهم حصروا العلم في الفقه والحديث وحدّهما ، وحرّموا ما عداهما من سائر صنوف المعرفة التي حثّ عليها الدين العظيم ، وانصرفوا عن العلوم العمليّة انصرافاً تامّاً. فأعلن افتتاح مدارس لكلّ من الفقه ، والحديث ، والطب ، والفلسفة ، وأنّه سيتولّى الإنفاق على طلاّب هذه المدارس، ولكنّه سيجعل لكلّ واحد من دارسي الفلسفة ثلاثة دراهم يومياً، ولكلّ واحد من دارسي الطب درهمين ولكلّ واحد من دارسي الفقه درهماً، ولكلّ واحد من دارسي الحديث نصف درهم ، فأقبل الناس على معاهد الفلسفة والطب ، بعد ما كانت من قبل تدرس سراً. أحرز نصير الدين النصر الأوّل في معارك الإسلام، فالعلم لن ينقطع بعد اليوم ، ولن يجمد المسلمون عن طلبه، ثمّ انصرف يخطّط للمعركة الكبرى الكاسحة. فإذا كان إنشاء المدارس المتفرّقة لن يلفت هولاكو إليها ، ولن يدرك أهميّتها، فإنّ إنشاء الجامعة الكبرى وحشد العلماء فيها وحشر الكتب في خزانتها ، سيكون حتماً منبهاً لهولاكو فكيف العمل ؟ هنا تبدو براعة الطوسي ، فهولاكو استبقاه لغاية معيّنة ، فراح يقنع هولاكو بأنّه من أجل استمراره في عمله والاستفادة من مواهبه لا بدّ من إنشاء مرصد كبير ، فوافق هولاكو على إنشاء المرصد ، وفوّض لنصير الدين المباشرة بالعمل . لقد كانت هذه الموافقة الحلم الأكبر الذي حقّقته الأيّام لنصير الدين ، وبات بعدها مستريحاً للمستقبل لا يشغله شي إلاّ الأعداد الدقيق والتخطيط السليم الموصل إلى الغاية القصوى . ضخّم نصير الدين أمر المرصد لهولاكو وأقنعه أنّه وحدة أعجز من أن يرفع حجراً فوق حجر في ذاك البناء الشامخ ، وأنّه لا بدّ له من مساعدين أكفاء يستند إليهم في مهمّته الشاقّة ، وأنّه لامناص من أجل ذلك من أن يجمع عدداً من الناس المختارين; سواء في البلاد المحتلة أو في خارجها ، فوافق هولاكو على ذلك . وهنا هب نصير الدين إلى اختيار رسول حكيم هو فخر الدين لقمان بن عبد اللّه المراعي ، وعهد إليه بالتطواف في البلاد الإسلاميّة ، وتأمين العلماء النازحين ودعوتهم للعودة إلى بلادهم ، ثمّ دعوة كلّ من يراه كفؤاً في عمله وعقله من غير النازحين . مضى العمل منظّماً دقيقاً وانصرف العلماء بإشراف الطوسي منفذين مخطّطاً مدروساً، فلم يمض كبير وقت حتّى كانت المكتبات تغص بالكتب ، وحتّى كانت مكتبة مراغة بالذات تضمّ مجموعة قلّ أن اجتمع مثلها في مكتبة أخرى ، وحتّى كانت المدارس تقام في كلّ مكان ، وحتّى كانت الثقافة الإسلاميّة تعود حيّة سويّة ، وحتّى كانت النفوس مشبعة بالأمل والقلوب مليئة بالرجاء ، وحتّى كان الدعاة ينطلقون في كلّ صوب والهداة ينتشرون على كلّ وجهة ...، ثمّ يموت هولاكو ، ولكن الإسلام الذي أراد له هولاكو الموت يظل صحيح البنية ، متوهّج الفكر، ثمّ يموت ابن هولاكو وخليفته «ابقاخان» والإسلام لا يزال بقيادة الطوسي صامداً، يقاتل ويقاوم ويدعو ويهدي . ويأتي بعد ابقاخان ، ابن هولاكو الآخر « تكودار » فإذا بالإسلام ينفذ إلى قلبه وعقله ، وإذا به يعلن إسلامه وتسلم الدولة كلّها بعد ذلك . وكان الطوسي قد مات سنة 672 هـ (1274 م ) . مات قرير العين وهو يرى طلائع الظفر مقتحمة الدنيا بموكبها الرائع وبشائر النصر هازجة بأرفع صوت وأعلى نبرة . مات الطوسي مودعاً الأمر إلى تلميذه وأقرب المقرّبين إليه قطب الدين أبو الثناء محمود بن مسعود الشيرازي ، فنهض بالعب ء على ما أراده نصير الدين . فلم يجد «تكودار» الذي أصبح اسمه « أحمد تكودار » خيراً من الشيرازي خليفة الطوسي ليكون رسوله إلى العالم العربىّ والإسلامىّ . يقول الأستاذ عبد المتعال الصعيدي: «لم يمت نصير الدين إلاّ بعد أن جدّد ما بلي في دولة التتار من العلوم الإسلاميّة وأحيا ما مات من آمال المسلمين بها » . إلى أن يقول: « ... إنّ الانتصار على التتار لم يكن في الحقيقة بردّهم عن الشام في موقعة « عين جالوت »، وإنّما كان بفتح قلوبهم إلى الإسلام وهدايتهم له» . وهذا ما حقّقه نصير الدين الطوسي . هكذا استطاع نصير الدين الطوسي أن يهزم بالعقل والعلم الدولة الطاغية الباغية ، وأن تنجّح خططه في تحويل المغول من وثنيين إلى مسلمين.([21])

--------------------------------------------------------------------------------

[1] . كان لدى المحقّق الطوسي همّة عالية وإرادة قويّة، ومن الواضح أنّ أهميّة الإنسان تنشأ من همّته، ويقاس على أساسها، وكلّما زادت همّته زادت قوتّه وعزيمته.

وبسبب ما يتمتّع به المحقّق الطوسي من هذه الهمّة العالية، لم يكن ليذل نفسه لقاء بعض المناصب الدنيويّة والأمور البسيطة; خلافاً لما تصوّره بعض المؤرّخين. ولا شكّ في أنّ المحقّق الطوسي كان مورد احترام وتكريم لدى الحكّام الاسماعيليّين، وقد حافظ على هذا الاحترام الكبير لدى حاكم المغول هولاكو خان، لكنّه مع ذلك لم يكن وزيراً في أىّ من الدولتين، كما أنّه لم يكن يتدخّل في إدارة شؤون البلاد أبداً، ولم يلوّث يديه بنصب الولاة والحكّام أو عزلهم، بل كان يصرف جلّ أوقاته في التأليف والتصنيف والدراسة والتفكّر. نعم، عندما كان يستشار في أمر معيّن، لم يكن يتونى عن تقديم ما فيه المصلحة الواقعيّة، بل كان يعمل بمقتضى الحكمة.

وهكذا لم يكن يتدخّل في أمور البلاد بأكثر من المشورة وتقديم ما فيه المصلحة. وقد استطاع المحقّق الطوسي بهذا الأسلوب الذي اتّبعه أن يقوم بالعديد من الأعمال الكبرى; حيث وقف أمام المخاطر التي كانت محدقة بالمؤسّسات الثقافية والمعنويّة، بل وقف أمام القضاء بشكل كامل على هذه البلاد. فالذي قام به المحقّق الطوسي هو الذي ينبغي أن يصدر من أىّ فيلسوف قويم وإنسان عليم، وعلى اطّلاع بشروط زمانه.

[2] . الكتبي، فوات الوفيات، ج 2، ص 254 ـ 255.

[3] . جامع التواريخ، ج 2، ص 1024.

[4] . أنظر: خواند مير، حبيب السير، ج 3، ص 103.

[5] . فوات الوفيات، ج 2، ص 252.

[6] . روضات الجنّات، ج 6، ص 316.

[7] . تمّ الاعتماد في هذا الفصل والفصول التي تليه على كتاب «نصير الدين طوسي فيلسوف گفتگو» (نصير الدين الطوسي فيلسوف الكلام) تأليف: غلام حسين إبراهيمي ديناني.

[8] . أنظر: وصّاف الحضرة، تاريخ وصّاف، ج 1، ص 51، نقلا عن شيرين بياني، دين ودولت در ايران عهد مغول (فارسي)، ص 351.

[9] . فوات الوفيات، ج 2، ص 254.

[10] . الدواني، مفاخر الإسلام، ج 4، ص 134 و 135.

[11] . شيرين بياني، دين و دولت در ايران عهد مغول (فارسي)، ج 2، ص 405.

[12] . تمّت الاستفادة في هذا القسم وغيره من مقدّمة كتاب شيوه دانش پژوهي (فارسي) ترجمة وشرح رسالة آداب المتعلمين لباقر غرابي.

[13] . احوال وآثار خواجه نصير الدين (فارسي)، محمد تقي مدرس رضوي، ص 592، نقلا عن رسالة تولى و تبرى.

[14] . تفسير نماز بانضمام دعاء دوازده امام (فارسي)، خواجه نصير الدين طوسي، ترجمه ى حاج شيخ عباس مصباح زاده، ص 43.

[15] . راجع: نهج البلاغة، (الصبحي الصالح)، ص 185 و 186 ; وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 126 و 215 ; و بياني، دين و دولت در ايران عهد مغول، ص 308 و 309.

[16] . راجع: العلاّمة الحلّي، كشف اليقين، ص 80 ، وقد نقلها العلاّمة ضمن الإخبار الغيبي لأمير المؤمنين(عليه السلام).

[17] . برتولد شبولر، تاريخ المغول في إيران (فارسي)، ص 245.

[18] . بياني، دين و دولت در ايران عهد مغول، ص 310.

[19] . عباس اقبال، تاريخ مفصّل ايران (تاريخ مغول) (فارسي)، ص 668; الدواني، مفاخر اسلام (فارسي)، ج 4، ص 69 و 70.

[20] . أنظر: حسن الأمين، الإسماعيليون و المغول و الخواجه نصير الدين الطوسي،ص 44 و 45. و في الترجمة الفارسيّة، ص 60 ـ 62.

[21] . مستدركات أعيان الشيعة ج 1، ص 228 ـ 230 .

عنوان بعدیعنوان قبلی




کلیه حقوق این اثر متعلق به پایگاه اطلاع رسانی دفتر حضرت آیت الله العظمی صانعی می باشد.
منبع: http://saanei.org